الأدوار الدولية في سياسات الشرق الأوسط راغدة درغام/الحياة/24 تشرين الأول/14
الصين ليست لديها استراتيجية وإنما لها سياسة. هذا ما يقوله خبراء صينيون شرحاً أو تبريراً لسياسة الصين نحو دول الشرق الأوسط. روسيا تتمسك بسياساتها لأنها دولة تفهم الاستراتيجية ومقوماتها من الجغرافيا الى الموارد الطبيعية. هكذا يتحدث الخبراء الروس وهم يتحدثون ببعض الفوقية الى نظرائهم العرب. الأوروبيون في تبعثر وهم يعترفون بانقساماتهم. الأميركيون يتناوبون على رفض إلقاء اللوم على الولايات المتحدة من جهة والإقرار بأخطاء تكتيكية من جهة. أما عندما يتعلق الأمر بالإستراتيجية الأميركية الطويلة الأمد، فإن معظم الخبراء الأميركيين يكاد ينفي وجودها معتبراً السياسة الأميركية سياسة رئيس وإدارة أميركية. هذا بعض ما برز أثناء انعقاد «ملتقى أبو ظبي الإستراتيجي» الذي نظّمه «مركز الإمارات للسياسات» بالتعاون مع وزارة الخارجية في دولة الإمارات مطلع هذا الأسبوع «لتحقيق فهم أفضل بين الفاعلين الدوليين والإقليميين، وتعزيز جهود المركز –أول امرأة تترأس مؤسسة فكرية في الإمارات– الدكتورة ابتسام الكتبي. أما عند التدقيق في الملفات «وآخر البؤر الساخنة على دول الخليج»، كما حدد المؤتمر، فالذي أتى به هؤلاء الفاعلون الدوليون ملفت ويستحق التوقف عنه من أجل فهمٍ أفضل للمشهدين الإقليمي والدولي.
وزير الدولة للشؤون الخارجية في دولة الإمارات، الدكتور أنور قرقاش، حدد في الجلسة الافتتاحية العناوين الرئيسية في سياسة الإمارات داعياً الى «رؤية واضحة» و «استراتيجية شاملة» و «تنسيق الجهود» الدولية والإقليمية في مواجهة التحديات التي تشمل «داعش» إنما لا تقتصر على هذا التنظيم. اعتبر الحرب على الحركات المتطرفة حاجة ضرورية، لأن المتطرفين «غير قابلين للاعتدال»، وحض على وقف تدفق الأموال والهجرة الى مواقع تلك الحركات، كما الى الاهتمام بالتعليم والثقافة بعقول منفتحة.
بالنسبة إلى سورية والعراق، لام قرقاش السياسات الطائفية والإقصائية. عبر عن «أمل حذر» برئيس الوزراء العراقي الجديد حيدر العبادي لكنه وصف تعليقاته على تصريحات نائب الرئيس الأميركي جو بايدن ضد الإمارات والسعودية بأنها «للأسف قوّضت الاستعداد لطي صفحة الماضي»، وأطلقت «الشكوك».
مصر تشكل «حجر الأساس لاستقرار المنطقة» بحسب السياسة الخارجية للإمارات، كما أكد قرقاش، «وتجب استعادتها مكانها التاريخي والضروري» في المنطقة والعالم.
إيران جار يرحب به، قال قرقاش، إنما هناك فرق بين إيران كدولة ومجتمع وبين إيران كسياسة خارجية توسعية تستثير الحروب الطائفية وتفاقم عدم الاستقرار وتنشر الفوضى في العراق وسورية والبحرين واليمن. أما المفاوضات النووية، فإن الدول الخليجية تريدها أن تسفر عن اتفاق نووي «مكبّل»، وإلاّ فإن هذه الدول ستضطر للتفكير بما يناسبها.
وأكد قرقاش أن الإمارات ليس لها أي «طموحات لدور أكبر إقليمياً»، وهي مكتفية بأن تكون «نموذج الاعتدال» في المنطقة وترفض المحاولات «لتغيير عالمنا من خلال الحركات المتطرفة».
أولى المداخلات الملفتة أتت من فيتالي ناؤمكن، مدير «معهد الدراسات الشرقية» وأستاذ في كلية السياسات العالمية في جامعة موسكو. قال إن منطقة الشرق الأوسط «ليست عالية» في سلم الأولويات والمصالح الاستراتيجية الروسية، لكنها تبقى موضع اهتمام الروس. أكد أن «عنصر النفط والغاز فائق الأهمية لروسيا»، وأشار الى تواجد «الكثير من نظريات التآمر بخصوص روسيا والخليج». أشار بصورة خاصة الى مقال للصحافي الأميركي توماس زيدمان قال فيه إن هناك «مؤامرة أميركية– سعودية» ضد روسيا عبر تخفيض أسعار النفط بصورة كبيرة في الأسابيع القليلة الأخيرة. قيل أيضاً إن أحد أهداف هذه الاستراتيجية دفع إيران الى التدقيق في مفاوضاتها النووية، التي إذا أثمرت ستؤدي الى رفع العقوبات عنها.
روسيا متمسكة بإيران كحليف لها في الشرق الأوسط، وهذا ما كان واضحاً من خلال جميع المداخلات الروسية في «ملتقى أبو ظبي»، فجميع المشاركين الروس بدوا في شبه اتفاق كامل على المحاور الأساسية لمداخلاتهم. وهذه المحاور لم تكن بعيدة أبداً من السياسة الرسمية.
المزعج في عدد كبير من مداخلات الروس عبر المنصة، أو تعليقاتهم على هامش الملتقى، هو ذلك القدر من الغطرسة والفوقية إزاء المواقف والمداخلات العربية. كان هناك نوع من التحقير والاستهزاء بالشخصية العربية وليس فقط بالمواقف المختلفة التي عبرت عنها النخبة العربية المشاركة. هدف الملتقى ودعوة أكثر من عشر شخصيات روسية إليه كان فتح الباب للتفاعل والتعلّم من خبرة الآخر. للأسف، ما ميّز التواجد الروسي هو الاستهزاء «بالعاطفية» العربية وتحجيم المواقف العربية المصرة بمعظمها على استقلالية صنع القرار الخاص بالمنطقة العربية بعيداً من التدخل الإيراني في الدول العربية.
أتت التعليقات الروسية لتؤكد، كما فعلت مثلاً إيلينا سوبونينا، مديرة «مركز الشرق الأوسط وآسيا» في المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية في موسكو، أن إيران ليست فقط لاعباً أساسياً في حل مشاكل الدول العربية وإنما يجب أن تكون رائداً في حل النزاع العربي– الإسرائيلي. اقترحت على الإمارات أن تشارك روسيا في رفع العقوبات عن إيران لأنها تتمتع بأعلى ميزان تبادل تجاري معها في المنطقة. وضربت بعرض الحائط الاعتراضات العربية على الأدوار العسكرية الإيرانية في سورية والعراق ولبنان واليمن.
إيكاترينا ستيبانوفا، رئيس وحدة دراسات السلام والنزاع في «معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية» في موسكو، لخصّت الشروط التي تتحكم باحتلال موضوع ما أهمية في السياسية الخارجية الروسية، وهي: أولاً، يجب أن تكون المسألة ذات مصدر قلق للمجتمع، مثل اللاجئين الأفغان والحالة في أوكرانيا. ثانياً، أن تكون ذات ارتباط بموضوع الطاقة، لأن روسيا تتأثر بوضع النفط والغاز. وثالثاً، يجب أن تكون ذات علاقة بموضوع التطرف والإرهاب، لأن روسيا تهتم بتأثير «داعش» والتطرف على الروس المسلمين.
ناؤمكن قال إنه يمكن روسيا التعاون لمحاربة «داعش» في إطار استراتيجية مشتركة وواسعة «لم يتم اعتمادها حتى الآن». دعا إلى إشراك طهران ودمشق في هذه الاستراتيجية، كشرط. قال إن الرئيس السوري بشار الأسد يرغب في المشاركة في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد داعش و «روسيا ترغب بدعم جهوده في محاربة الإرهاب».
واقع الأمر أن لا تغيير في السياسة الروسية نحو مركزية تحالفها مع إيران وتعهدها عدم التراجع عن دعم إيران في طموحاتها الإقليمية الممتدة في العراق الى سورية الى لبنان، وكذلك في اليمن. ولا تغيير في السياسة الروسية نحو استمرارية بشار الأسد في السلطة. موسكو مرتاحة لقيام أعضاء التحالف في الحرب على «داعش» بهذه الحرب نيابة عنها الى حد ما. وبالتالي، عملياً وواقعياً، فإن روسيا غير مستعجلة، وربما غير راغبة في الشراكة بالتحالف ضد «داعش»، وكذلك إيران، كلاهما مرتاحان إلى التطورات في حرب «داعش» لأنها ترفع الضغوط عنهما ولو مرحلياً.
هذا لا يعني، من وجهة النظر الأميركية، أن سورية لم تعد المستنقع الذي تورطت فيه روسيا و «الفيتنام» الذي تواجهه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فهناك من يزال متمسكاً بنظرية الاستراتيجية الأميركية البعيدة الأمد، التي وجدت في تطورات سورية فرصة للمصلحة الأميركية أولاً، لأن «فوز» روسيا بسورية مُدمَّرة، مُمزَّقة، مُفعَمة بالإرهاب والتطرف ليس فوزاً استراتيجياً. وثانياً، لأن «انتصارات» إيران في سورية إنما تمهّد لتورطها أكثر وأوسع عبر طموحاتها الإقليمية سيما في ساحة حرب دامية كما في سورية.
هنا، وعودة الى الفارق بين الاستراتيجية وبين السياسة، أي التكتيك، تبدو الولايات المتحدة ذات استراتيجية، فيما تبدو سياسات الإدارة الحاكمة التكتيك. لذلك يتملك أذهان الأكثرية في المنطقة العربية ذلك الاقتناع بأن كل ما يحدث مخطط له أميركياً، وهذا ما يرفضه الخبراء الأميركيون الذين يتهمون أصحاب ذلك الرأي بأنهم من ذوي نظرية المؤامرة».
الملفت في معادلة الاستراتيجية والتكتيك ما برز خلال ملتقى أبو ظبي عبر المشاركة الصينية فيه. أولى المفاجآت أتت عبر أول مداخلة للدكتور شين يي، رئيس «مركز الشرق الأوسط للسلام» في جامعة شانغهاي. قال: «ليس لدى الصين استراتيجية ولا رؤية نحو الشرق»، وقال إنه ساءل نفسه كيف أن الصين أذنبت بحق سورية إزاء مقولة أن لا أحد بريء مما حدث بسورية، ولم يقتنع بالأجوبة. تحدث عن النظرة التشاؤمية للصين بخصوص الشرخ الحاصل بين دول الخليج، واعتبر أن «أسرلة» –اشارة إلى إسرائيل– الولايات المتحدة بلغت ذروتها. وأعلن أن الصين لا تؤمن بالتغيير السريع لأنه يخاطر بالفشل، وأن الصين لا تجربة لها في بناء المؤسسات.
الملفت أكثر على لسان دونغ مانيوان -باحث أول متخصص في دراسات الشرق الأوسط في «المعهد الصيني للدراسات الدولية» في بكين –، فهو في البدء أكد على الثوابت في السياسة الصينية، وهي التقيد بسيادة الدول. قال إن الصين تعمل على تعزيز علاقاتها مع الدول العربية وتحافظ في الوقت نفسه على علاقاتها مع إيران. دافع عن الفيتو الصيني لثلاث مرات في المسألة السورية في مجلس الأمن، وقال: أراد العرب موقفاً مختلفاً من الصين في مجلس الأمن لكن الصين تعتمد على مبادئ العلاقات الدولية، مثل عدم التدخل. وعندما ووجه بأسئلة أحرجته في هذه المسألة، غض النظر كلياً عنها وتوجه بخطاب عاطفي تصعيدي في الموضوع الفلسطيني، في خطوة مدروسة للمزايدة على العرب في المؤتمر.
زميله وانغ جيسي، رئيس «معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية» في جامعة بكين، طالب الولايات المتحدة والدول العربية المعنية بأن تتخلى عن مطالبتها برحيل بشار الأسد، فهو شخّص الناحية العلمية للسياسة الصينية، انطلاقاً من أنه: ليس لدى الصين سياسات محددة بوضوح، والصين تعتمد سياسات تتصل باحتياجات السوق، والمعروف أنها كانت تعزّز وتطوّر علاقاتها الاقتصادية مع إيران وعلاقاتها العسكرية مع إسرائيل فيما كان خبراؤها يزايدون فلسطينياً ويدافعون عن «الفيتو» بترفع تام من محاولة تفهم الانتقادات العربية لها.
ولأن الصين وروسيا حليفتان لإيران –وهما أيضاً في علاقات متطورة مع إسرائيل–، لربما من المفيد الإشارة إلى المداخلات الإيرانية على لسان سيد حسين موسويان، أستاذ وباحث مشارك في برنامج العلوم والأمن العالمي في كلية وودرو ويلسون في جامعة برنستون الأميركية، ومحسن ميلاني، المدير التنفيذي لمركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية في جامعة جنوب فلوريدا في مدينة تامبا.
موسويان طالب العرب بأن يغيروا استراتيجيتهم ولا يدعموا استمرار العقوبات على إيران، إذ إن الاتفاق النووي يمكن أن يكون جيداً للمنطقة. قال إن هناك حاجة إلى فتح مجال التعاون الإقليمي، خاصة بالنسبة لاستقرار أسعار النفط، وإن الاتفاق على أن «داعش» هو التهديد الأكبر يشكل بداية جيدة لتأسيس التعاون بين إيران والدول الخليجية العربية. دعا إلى تأسيس نظام إقليمي أمني جديد (يحل مكان مجلس التعاون الخليجي– عملياً). وقال إن المفاوضات الإيرانية– الخليجية يجب أن تكون من دون شروط مسبقة، على نسق اشتراط الخروج من العراق وسورية.
ميلاني لخّص أهداف إيران الكبرى في المنطقة، ومن ضمنها: الحفاظ على علاقة جيدة مع العراق. إدارة الحرب الباردة المصغرة الجارية مع السعودية منذ سنوات. الاتفاق على ترتيبات أمنية إقليمية تحافظ على أمن المنطقة وتضمن استمرار تدفق إمدادات الطاقة.
تحدى ميلاني التهم ضد إيران بأن سياساتها طائفية، وقال إن إيران تتصرف كدولة بناء على مصالحها ويمكن أن تستعمل الطائفية كأداة، مثل باقي الأدوات، إنما من المهم السيطرة على الطائفية، سيما أن الشيعة لا يمثلون أكثر من 20 في المئة من سكان المنطقة. الأكثر لفتاً في طروحات ميلاني كان انتقاده الرفض العربي للتدخل الإيراني في شؤون الدول العربية، معتبراً ذلك «تمييزاً مذهبياً».
كان مفيداً جداً الاستماع إلى الطروحات الإيرانية والصينية والروسية إنما ليت الرسائل كانت أقل عنجهية. فهدف مثل هذه المؤتمرات، جزئياً هو تأثير الخبراء بعضهم في بعض لنقل خلاصة مفيدة في صنع السياسات الآتية، تكتيكية كانت أو استراتيجية، فإلى جولة أخرى حيث الأمل بتلقين أقل وبإصغاء أكثر. ولقد أحسنت ابتسام الكتبي في صياغة ملتقى أبرزت فيه أهمية الأدوار الدولية في الشرق الأوسط التي تشمل روسيا والصين ولا تتوقف عند أوروبا والولايات المتحدة.