الكلمات التي ألقيت في لقاء سيدة الجبل والبيان الختامي
البيان الختامي للقاء سيدة الجبل: حماية المسيحيين لا تكون من خلال تحالف الأقليات ولا تمييز بين إرهاب وآخر
وكالات/31 آب/14
اعلن البيان الختامي للخلوة العاشرة للقاء سيدة الجبل، الذي القاه منسق الأمانة العامة لقوى الرابع عشر من آذار فارس سعيد، ان المشاركين اتفقوا على إنشاء لجنة تحضيرية، مهمتها الإعداد لإطلاق كتلة لبنانية عابرة للطوائف تعمل من أجل حماية لبنان وسلامه الدائم، وذلك على الأسس التالية:
أولاً- لا تمييز بين إرهاب وإرهاب.
وهذا موقف أخلاقي قاطع. لا يمكن أن نشعر بالإشمئزاز من جرائم “داعش” ونتغاضى عن جرائم الأسد أو نتكتّم عليها. إن إدانة إرهاب “داعش” يستدعي أخلاقياً ومنطقياً أن ندين الإرهاب الذي يمارس بحق الشعب في سوريا، والإرهاب الذي يمارس ضد المدنيين في غزة. الإرهاب مرفوضٌ أياً كان مصدره. وليس هناك مجرم يتمتع بامتياز يخوّله أن يرتكب المجازر دون أن يتحمّل اللوم ودون أن توجّه إليه أصابع الإتهام.
ثانياً- الإرهاب يطال الجميع.
الأقليات كما الأكثرية. صحيح أن المسيحيين والأقليات يتعرضون للإرهاب والتهجير على يد “داعش”، إلا أن معظم ضحايا “داعش” هم من المسلمين. ومن يتعرّض للقتل في سوريا منذ ثلاث سنوات ليست الأقليات وإنما الأكثرية. كما أنه ليس هناك ضحية قيمتها أكبر من ضحية أخرى.
ثالثاً- حماية المسيحيين لا تكون من خلال تحالف الأقليات.
وهو تحالف يضع المسيحيين في مواجهة عدائية، بل في حالة حرب، مع الأغلبية المسلمة. إن ربط مصير المسيحيين في الشرق بأنظمة أقلوية مستبدّة، تحت شعار تحالف الأقليات، يشوّه طبيعة الوجود المسيحي كشريك للمسلمين في بناء أنظمة مدنية ديموقراطية، ويحوّله إلى شريك في التسلّط الذي يمارسه نظام متهاوٍ لن يطول به المقام، ويُلحق المسيحيين بمشروع هيمنة أقلية لا حظ له في النجاح وقد بدأ بالأفول.
رابعاً- ليس هناك حل مسيحي خاص لمشاكل المسيحيين.
بل حلّ شامل لكل مشاكل المنطقة. وللمسيحيين دورٌ فاعلٌ فيه. الحل بالنسبة للمسيحيين، هو في العمل جنباً إلى جنب مع المسلمين من أجل عالمٍ عربي متنوّر، ديموقراطي وتعددي.
خامساً- تعميم التجربة اللبنانية.
إن التجربة اللبنانية في العيش معاً يُمكن أن تُقدّم للمجتمعات العربية التعددية نموذجاً يُحتذى به. كما أن لبنان المعافى، بانفتاحه وحيويته الفكرية، قد يُصبح مصدر إلهام لعالمٍ عربي متجدد. إن حرية المعتقد التي كفلها الدستور اللبناني منذ سنة 1926 اعتمدتها اليوم تونس ومصر، ويتوجّب تعميمها على العالم العربي.
النص الكامل لكلمة السنيورة عن “اللبننة” في خلوة سيدة الجبل
أنتم المجتمعون في الأشرفية أقرب إلي ممن يرفع راية ولاية الفقيه او الخليفة
السادة الكرام،ايها اللبنانيون،
تنعقد اليوم خلوتكم العاشرة في ظروف بالغةِ الصعوبة والخطورة، اذ إن الاحداث والتطورات الجارية في المنطقة من حولنا تكاد توازي في اهميتها تلك الاحداث الهامة التي عصفت في المنطقة قبل نحو قرن من الان، ومنها نشوب الحرب العالمية الاولى وتفكك السلطنة العثمانية وما تلاها من تبدَّلٍ في الموازين والخرائط السياسية في المنطقة. ومن ضمنها قيام دولة لبنان الكبير، وبعدها الأحداث العاصفة في المنطقة والعالم خلال الحرب العالمية الثانية وما تلاها.
وفي خضم هذا القلق الشديد الذي يعصف بنا ونحن نتابع المتغيرات والحرائق المندلعة من حولنا وهي تلفح بلدنا بلهيبها وتطبعه بتأثيراتها وتداعياتها يستبد بنا الخوف. إنها متغيراتٌ ما وَقَعَ في هَوْلِها شيءٌ يضاهيها في تأثيراته علينا، منذ قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين عام 1948. خوفُنا، كلُّ خوفِنا، ان يمتد لهيب تلك النيران الى بلدنا. همُّنا، كلُّ همِّنا يتركز في ما ينبغي علينا أن نقوم به لِنُجنِّب وطننا الويلات والشرور، وأن نتمكّن من لعب دورنا بقدر ما نستطيع من أجل التأثير إيجاباً في مجرى الاحداث فيما خصّ بلدنا وكذلك فيما خصَّ المنطقة العربية من حولنا. السادة الكرام، مع بداية القرن الماضي انقسم اللبنانيون بين الخيارات، فكان بعضهم يميل الى العزلة والانغلاق، ومال بعض المسيحيين الى فكرة الوطن الصغير فيما عارض تلك التوجهات كثير من المسيحيين والمسلمين. ولقد طالب البعض برفض صيغة لبنان الكبير، بينما تمسك بعضهم الآخر بالوحدة او الاندماج مع سوريا. وقد حصلت تطورات كبيرة آنذاك آثر فيها مسيحيون ومسلمون عقلاء ومتبصرون صيغة لبنان الكبير بما عنته من فرادة وقيم سامية وحضارية ودور فاعل ومؤثر في المنطقة والعالم العربي. ولقد تجاوز بعدها المسلمون، وعلى مدى عقود عديدة وفي ضوء تجارب متنامية محلية وإقليمية ودولية مؤثرة كان اتفاق الطائف في ذروتها، تحفظات عديدة وأصبح لبنان بالنسبة لهم كما لجميع اللبنانيين وطناً نهائياً متآلفاً وفاعلاً في محيطه العربي. لكننا اليوم ومع بداية القرن الواحد والعشرين تعود لدى البعض معركة الخيارات بين اللبنانيين للاحتدام، والسؤال المطروح لدى هذا البعض مجدداً الآن هو أي لبنان نريد؟ هل نريد لبنان وطناً نهائياً لجميع ابنائه متآلفاً مع محيطه العربي، وطناً سيداً حراً مستقلاً، أساسُهُ التضامن الوطني والعيشُ المشترك والواحد بين المسلمين والمسيحيين. لبنان القائم على حيوية التنوع وفضيلة احترام الآخر والحريات الخاصة والعامة وميزات النظام الديمقراطي والدولة المدنية والتداول السلمي للسلطة. أم نريده أن يصبح جزءا من مشاريع إقليمية منها امبراطوري يتوسل المذهبية لتمرير المشاريع العابرة للحدود غير المتآلفة مع مصالح اللبنانيين والتي تستقوي بالسلاح غير الشرعي وتجاوز القانون وتعمل على تحويل لبنان إلى صندوقة بريد أو ساحة لتبادل الرسائل للضغط على الآخرين ولممارسة التسلط والكيل بمكيالين؟
هل نريد لبنان ان يكون نموذجاً لثقافة الحياة والتسامح والمواطنة والابداع والمبادرة والانجاز، ام نموذجاً لثقافة الموت وتصدير الثورات وزعزعة الاستقرار.
هل نريد لبنان شوكةً في خاصرة محيطه أم منارةً على شاطئ المتوسط للعيش المشترك والثقافة والتنوع والحرية والقبول بالآخر؟
هل نريد شباب لبنان طلائع متقدمة ونخباً متنورة خلاقة ومتألقة في بلدهم وفي محيطهم العربي والدولي. أم عناصر مسلحة تمارس الاغتيالات وحرب العصابات من القصير إلى القلمون وأحياء دمشق وحلب وحارات بغداد والموصل وفي انحاء أخرى ما يتخطى هذه المناطق تحركهم قوى الاستبداد والظلم والطغيان، وهي التي في عملها هذا تحول لبنان إلى ساحة للتقاتل وتستجلب قوى الشر والارهاب إلى هذه الساحة. هل نريد لأجيال لبنان الجديدة أن تكونَ على مثال جبران خليل جبران وامين المعلوف وشارل عشي وغيرهم كثير أم نريدهم وَقوداً لحرائق وجثامين في أكفانٍ، نتيجةَ الانخراط في ذلك القتال العبثي والمدمِّر بين بعض الأنظمة وشعوبها؟ هل نريد جيش لبنان، وجنود لبنان، لحماية سيادة واستقلال لبنان والدفاع عن مواطنيه ضد اي معتدٍ وضد جميع قوى الارهاب وأن يستمر في التأكيد على احترام دستوره وقوانينه؟ أم أن يتحول الى فرقة في خدمة مشاريع ولاية الفقيه العابرة للحدود السياسية أو المنظمات الإرهابية وفي المحصلة أدوات في الحروب المتناسلة والمتنقلة في المنطقة من بلدٍ إلى آخر؟
السادة الكرام، ايها اللبنانيون، لقد ﭐبتُلي العالم العربي بآفة الاستبداد والطغيان وقمع الحريات المولِّدِ للتطرف. ولقد أفضت ممارسات تلك الأنظمة الاستبدادية الى ردود فعل عليها تمثلت بنمو ظواهر التطرف والعنف والإرهاب. فلو كانت للشعب العراقي دولته العادلة المحتضنة لكافة مكونات شعبها لما ثارت صحوات الأنبار، ولما تقاعست تلك المكونات عن التصدي لمنظمات التطرف والإجرام والتوحش ولمنعتها من العودة إلى العراق والانطلاق مجدَّداً. ولو كانت للشعب الليبي دولته العادلة لما ظهرت التشكيلات المتطرفة ولما انفلت حبل الأمن والنظام هناك. ولو سمع النظام الغاشم الظالم صيحات الحناجر البريئة الصادقة التي طالبته ولأكثر من ثمانية أشهر، برفع الظلم والمحاسبة في درعا وطالبته أيضاً بالحرية والمساوة والمشاركة، لنجت سوريا وشعبها ومدنها وتراثها من الموت والدمار.
لقد أطاح الاستبدادُ الغاشمُ والظالمُ بتاريخ وتراث سوريا الإنساني الذي تراكم عبر التاريخ منذ ظهور المسيحية الى انتشار الإسلام وصولاً الى الفتوحات العربية. لم يتردد الطُغاةُ في تدمير كل شيءٍ من أجل البقاء في الحكم والاستبداد، لا بل وفي ممارسة الإرهاب المتمادي في استعمال السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة لقتل العباد وتدمير البلاد واستيلاد المنظمات الارهابية على أنواعها ومنها ما جرى استيلاده من رحم سجونهم ومعتقلاتهم بقصد تدمير صورة المعارضة السلمية وتسويق أنفسهم أمام العالم بما ليسوا هم عليه. والنتيجة التي وصلنا اليها، دمار سوريا وقتل السوريين وتهجيرهم، فخسرت الإنسانية تراث وتاريخ سوريا وخسر السوريون، ولم يربح الطغاة ولن يربحوا بإذن الله.
أيها الإخوة والاخوات، الإرهاب بشتى أشكاله وأسمائه جميعه من طينةٍ واحدة. لا مفاضلةَ بين بعضه بعضاً. وهو يستهدف بشروره الجميع. لا فرق بين ما هو نازل بأقلية أو أكثرية. والإرهاب لا يُكافَحُ بالإرهاب ولا بالعودة إلى القبول بالاستبداد الذي يتسبب به والذي يستولد التطرف والارهاب ليبرر وجوده واستمراره. ثم إنّ التطرف والإرهاب لا يكافح بالطائفية المقيتة، بل يكافح من خلال إعادة الاعتبار للدولة الديمقراطية ودورها وعدالتها. الدولة المحتضنة لكل مكونات المجتمع والتي ترفض الاقصاء أو التهميش لأيٍّ منها. ويكون ذلك بالعمل على تطبيق حكم القانون بحزم واقتدار وبدون تفرقة ولا تمييز. وكذلك فإنّ الطريق الصحيح إلى المكافحة الحاسمة للإرهاب تكون من خلال السعي الحثيث لاجتراح الحلول العاقلة والناجعة والدائمة للمشكلات السياسية والاجتماعية والأمنية التي يعاني منها الناس وتشعرهم بالظلم والتي تزعزع الاستقرار وتعرقل النمو والتنمية وتهدد الاوطان. وعن غير هذا الطريق لا تكون الا معالجات مجتزأة ومؤقتة لا تلبث الا وان ترتد بعد ذلك بأشكال متعددة وتكون أكثر خطورة من سابقاتها.
أيها الإخوة والاخوات،
أنا المسلم اللبناني والعروبي لا أجد أي قاسم مشترك ولا شيء يجمعني مع أولئك الطغاة المستبدين ولا مع الإرهابيين ولا مع أولئك الذين يتخذون من الاسلام شعاراً يرتكبون تحت لوائه جرائمهم البشعة ضد الإنسانية بدعوى احتكار معرفة الاسلام والإيمان في العراق والشام. وأنا أجد نفسي معكم أنتم المجتمعون اليوم هنا في الاشرفية في بيروت، الأقرب الي والى نهج تفكيري وإلى تفكيرِ ونهجِ كثيرين مثلي في لبنان وخارج لبنان. سأقولها صريحةً وواضحةً مرةً ثانية، أنا أعتبر أنكم أنتم المجتمعون هنا وغيركم كثير اقرب الي، اكثر بكثير من الذي يرفع راية ولاية الفقيه العابرة للحدود السياسية في طهران، او راية الخليفة الحاكم في الموصل والرقة، لأنكم أنتم تشبهون لبنان وتشبهون شعب لبنان وتاريخ لبنان بماضيه وحاضره ومستقبله وتعبِّرون عن حقيقة طموح اللبنانيين إلى مستقبلٍ آمنٍ وزاهر متلائم مع مصالحنا ومع حركة العالم من حولنا. مع أمثالكم نريد أن نبنيَ معاً ونُعْليَ في بناء لبنان على أساس الثوابت الوطنية والعيش المشترك، ونتشاركَ سويةً في صنع مستقبله وفي تطوير حياته السياسية نحو الدولة المدنية لكي يتمكن وطننا من التلاؤم مع طموحات أبنائه ومع محيطه العربي والعالمي ومع عالم العصر وعصر العالم. بلدُنا صغير لكنه مؤثّر، باعتباره كما قال قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، أو كما وصفه في تلك الكلمة الثاقبة، حين قال: لبنانُ أكثرُ من وطن، إنه رسالةٌ للإنسانية في العيش المشترك والواحد لخدمة الانسان، وعنوانٌ للحيوية المجتمعية المحفزة على الإنجاز والتقدم وإطلاق المنافسة الإيجابية والبناءة بين أبنائه بما يحقق التقدم على مسارات التميز الحميد لتحسين مستوى ونوعية عيشنا المشترك.
وعلى هذا، فإنّ السؤال اليوم أي لبنان نريد وأي لبننة نريد ان نُصدِّر إلى محيطنا في هذا الشرق؟ هل اللبننة هي إرسال شبابنا إلى الموت في صراعات محاور لا تعنينا والتي لن يخرج فيها أحد منتصراً. أم اللبننة هي نقل قيم اجتماعنا اللبناني النبيل من طريق العدوى الايجابية إلى محيطنا؟ ففي السابق استُعمل تعبير اللبننة للدلالة على العنف وعلى النزاعات العبثية المتناسلة واللامنتهية. ونطمح الآن لاستعمال هذا التعبير بالمعنى الايجابي وليس السلبي لتلك الافكار النبيلة ومنها ما يتمثل بثقافة قبول الاخر والحرية والاعتدال والعيش المشترك والتداول السلمي للسلطة. فلبنان تحول فيما مضى في جانب من مشكلته، أرضاً للنزاعات الدولية والإقليمية. ولكن اللبنانيين نجحوا في التقاط اللحظة المناسبة، والاستفادة من فرصة الإجماع الإقليمي والدولي التي كانت سانحةً آنذاك على الحل لابتكار التسوية التاريخية المناسبة في الطائف، حيث أعادوا صياغةَ ميثاقهم الوطني، وعملوا على إنعاشَ حياة بلدهم بعد أن شارف على التفكك والزوال. نحن نأمل ان ينتقل النموذج اللبناني في التسوية الوطنية والاعتراف بالآخر والحكم الجامع والمحتضن لكل المكونات وفي المشاركة والتداول السلمي للسلطة الى أسلوب لمعالجة المعضلات والحرائق في العالم العربي. نحن نأمل ان يتعمم نموذجُ حلِّ الطائف في لبنان باعتباره رسالة، في العالم العربي، وعلى وجه الخصوص بعد ان فشلت كل صيغ الحكم السابقة في الاستمرار والإقناع وفي حفظ المكوِّنات الوطنية في بعض الأقطار العربية. بإمكان بعض الأخوة العرب تحويلُ مشكلة الحكم لديهم الى فرصة مستجدة، عبر الخلاص من صيغة الدولة الديكتاتورية الاستبدادية والانتقال الى صيغة الدولة التشاركية المتمثلة بالصيغة اللبنانية الحالية على أساس أن لا تتسلُّطَ فئةٌ على أُخرى، أو مجموعة على باقي المجموعات فتهمشها أو تلغيها أو تفرض عليها ما لا يقره الاجماع الوطني. ولكن على أساس صيغة لا غالبَ ولا مغلوب ومن خلال ممارسة الاعترافِ بالآخر والاحترامُ المتبادلُوالتكامُلُ فيما بين جميع المجموعات لما فيه منفعةٌ للجميع.
هذا الحل اي اللبننة بالمعنى الايجابي عبر نموذج الطائف والدولة التشاركية بات مناسباً الآن، بعد أنهار من الدماء في سوريا والعراق. وهنا نكون قد استعملنا شعار اللبننة في المكان المناسب بالفعل.
أنا لا أقول إن صيغتنا للحكم في لبنان خالية من الشوائب والحقيقة أنها مازالت في طور الاستكمال وهي في جوهرها وفي حسن تطبيقها تشكل في الحقيقة نموذجاً يحتذى به. لكنني ما أدعو اليه هو اعتماد روح التقارب والتكامل والحل السلمي وغير العنفي للاختلافات منهجاً وأسلوباً، واعتماد ارادة التشارك والمشاركة صيغةً للحكم بديلاً عن الاستبداد والديكتاتورية والتسلط. هل هناك من يتصور مثلاً حلاً مستقبلياً في سوريا وفق الصيغة القديمة الاستبدادية العائلية الحزبية والعصبوية؟ هل يمكن في العراق إعادةُ حكم الطاغية الديكتاتوري وفق نموذج صدّام حسين أو المالكي؟ لم يعد امام دول المشرق العربي على الاقل سوى استلهام النموذج اللبناني الذي طُوِّرَ وجرى الإجماع عليه في الطائف، وهو الذي أَنقذ لبنان وحمى الجمهورية.
أيها الإخوة والاخوات،
عندما تتعقد الأحوال وتصبح الأمور صعبة على التمييز هنا نفتقد ونعرف أهمية العودة إلى التمسك بالمبادئ الاساسية التي قام عليها العقد الاجتماعي اللبناني لكي تكونَ هي بوصلَتُنا في الابحار في هذه اللجة المليئة بالألغام وهي الضمانة في وصولنا إلى بر الأمان.
وبالتالي فإنه مع اختلال الموازين علينا ان نعود الى الاوزان الاصلية والقواعد الاساسية. ونحن في لبنان تعاهدنا على الشراكة والعيش المشترك والواحد وهو المنطلق الذي نتمسك به وفيه. وانطلاقاً من الأُسس التي راكمها وانطلق منها اجدادنا فإننا نعيد التأكيد عليها:
اولاً: نعم للبنان القائم على العيش الواحد المشترك بين المسيحيين والمسلمين المتشاركين سوية في الحقوق والواجبات وفي استيعاب دروس الماضي وفي تعزيز بناء الحاضر والدفاع عنه وتحمل أكلافه والتنعم بمنافعه والانطلاق نحو المستقبل الرحب بثقة واقتدار. ونعم لاتفاق الطائف ولمبدأ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين.
ثانياً: نعم للنظام الديمقراطي المدني السلمي الملتزم قولاً وعملاً بمبدأ التداول السلمي للسلطة المحترمِ لحقوق الإنسان.
ثالثاً: نعم لإعادة الاعتبار للدولة ودورها وعدالتها. دولة القانون والمؤسسات التي تحترم الجدارة والكفاءة والانجاز ومبدأ تكافؤ الفرص.
رابعاً: نعم لتطبيق القانون واحترام الدستور ودعم المؤسسات الرسمية المدنية والامنية وفي طليعتها الجيش اللبناني والقوى الأمنية الأخرى التي يجب ان تعمل جميعها ضمن القوانين وتحت إشراف سلطة الدولة وبإمرتها.
سأكررها، نعم لاحترام الجيش اللبناني، ونعم لاحترام القانون في لبنان. ولا لسلطةٍ ولا لأي سلاحٍ خارجٍ عن سلطة الدولة اللبنانية.
خامساً: نعم لتعزيز العلاقات العربية- العربية القائمة على الندية والشراكة والتعاون والتكامل فيما بينها وفي ظل الاحترام المتبادل للاستقلال والسيادة.
سادساً: لا لكل أشكال التطرف والإرهاب أكانت باسم الدين أم باسم المعتقد أم باسم الحزب أو الطائفة. ونعم للتقيد بالقانون وإنزال القصاص العادل بالمجرمين وأحكام العدالة.
إنطلاقاً من ذلك فإننا نعتبرُ أنّ الأَولوية الآن هي في الحفاظ على استمرارية الدولة وتفعيل مؤسساتها وعلى رأسها رئاسة الجمهورية. وعلى ذلك، فإننا نؤمن بأن انتخاب رئيس للجمهورية هو المهمة الاساسية والاولى التي يجب الالتزام بها وتنفيذها من قبل النواب والقوى السياسية لكي يعاد تكوين السلطة في لبنان والانطلاق في رسالتنا القديمة الجديدة لمواجهة الأخطار والتحديات المحيطة بلبنان.
إننا نعتقد أنّ الرئيسَ المطلوبَ للجمهورية هو الرئيس الذي يشكل رمز وحدة البلاد، الرئيس والجامع والحكيم والعادل والمؤمن بصيغة الطائف والمحترم للدستور. الرئيس الذي يتمتع بالرؤية والصفات القيادية والحوارية، القادر على جذب الجميع إلى المناطق المشتركة فيما بينهم.
نحن لا نؤمن برئيسٍ للجمهورية ينحاز للمحاور الإقليمية او الدولية، بل برئيس يؤمن بإعلان بعبدا ويلتزم به.
نحن لا نؤمن برئيس للجمهورية يحمل مشاريع ثأرية أو انتقامية.
نحن لا نؤمن برئيس للجمهورية يتبنى لغةَ انتصار فريقٍ أو هزيمةَ فريقٍ من اللبنانيين، بل نريد رئيساً يجمع صفوف اللبنانيين ويحقق المصالحة بينهم تحت لواء احترام الدستور والقانون واحترام حقوق الإنسان والحريات ويعمل على تجنيبهم الويلات والشرور لكي يتوحد الشعب من خلفه وينطلق نحو المستقبل بثقة واقتدار.
من هنا، وفي ضوء ما وصلت اليه حال البلاد من تعطيل لجلسات انتخاب رئيس للجمهورية فإننا وكما عبرنا عن ذلك في أكثر من مناسبة، إننا على استعداد للبحث والتوافق بخصوص الرئيس الجديد الذي يحظى بتأييد غالبية اللبنانيين.
لذلك فاننا نمد أيديَنا ونبسُطَها على أساس الحوار مع شركائنا في الوطن للتفاهم المبني على الحرية واحترام السيادة وسلطة الدولة والقانون واحترام الرأي الاخر وليس على اساس الارغام والتسلط والاستقواء.
أيها الأخوة والاخوات… أهلاً بكم في عروس العواصم العربية بيروت.. بيروت مدينة الحضارة والمدنية.. بيروت الأبيّة المناضلة والصامدة.. أهلاً بكم في الأشرفية.. أشرفية الأبطال والاحرار.. أشرفية الانفتاح والاستنارة والعيش المشترك والواحد..
معاً كنا ومعاً سنكون ومعاً سنعمل لمستقبلنا الواحد.. لكي يبقى لبنان.. عشتم وعاش لبنان..
كلمة النائب السابق سمير فرنجية في لقاء الجبل
31 آب/14
وألقى النائب السابق سمير فرنجية كلمة جاء فيها: أيها الأصدقاء، نحن اليوم أمام خيار مصيري: فإما الاستمرار على ما نحن عليه من انقسامات وصراعات قد تؤدي في ظل ما تشهده المنطقة الى العودة بلبنان الى زمن الحرب وإما العمل على طي صفحة الماضي والشروع في بناء سلام هذا البلد. أضعنا في الماضي فرصاً عديدة لإنقاذ بلدنا:
عام 1989، أتاح لنا اتفاق الطائف فرصة سلام أولى لم نتمكن من التقاطها بسبب اعتراضات داخلية أفسحت في المجال أمام النظام السوري لفرض وصايته على البلاد.
عام 2000، أتاح لنا انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان فرصة سلام ثانية أفشلها قرار سوري بعدم السماح للجيش اللبناني باستلام المناطق المحررة بحجة عدم انسحاب اسرائيل من مزارع شبعا.
عام 2005، أُتيحت لنا فرصةٌ ثالثة للسلام، على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري؛ وذلك من خلال التلاقي المسيحي – الاسلامي في 14 آذار 2005، ما أجبر القوات السورية على الانسحاب. فرصةُ السلام هذه أطاح بها النظام السوري الذي أطلق “ثورة مضادة” أرفقها بحملة اغتيالات سياسية لم يسبق لها مثيل في تاريخ لبنان.
عام 2010، أتاح اقتراح تقدمت به المملكة العربية السعودية في نهاية وساطتها بين لبنان وسوريا والقاضي بعقد مؤتمر من أجل “المصالحة والمسامحة”، أتاح لنا فرصة سلام رابعة أجهضها النظام السوري.
أيها الاصدقاء، لا يوجد اليوم أمامنا فرصة سلام جديدة. فالمنطقة سائرة نحو المزيد من العنف في ظل اصطفافات وتقابلات سياسية ومذهبية حادة يعتبر فيها كل طرف بأنه في موقع الدفاع المشروع عن النفس. والإشارات عن تحولات خارجية قد تحد من خطورة هذا الوضع لا تزال إشارات خجولة وملتبسة.
والسؤال المطروح علينا اليوم هو الآتي: هل بإمكاننا ابتكار فرصة سلام جديدة أم أننا أمام قدر لايمكن مواجهته؟
لا يزال أصحاب المشاريع العنفية على موقفهم وإن بدأت ترتسم تساؤلات متزايدة حول كلفة هذا الخيار والقدرة على الحسم. أصحاب هذه المشاريع لم يدركوا بعد أن العنف، مهما تعددت مبرراته وتنوعت أشكاله، لا يؤدي في نهاية المطاف سوى الى الخراب. ويكفي للتأكيد على ذلك التذكير بتجارب كل “المقاومات” على اختلاف أشكالها، تجربة “المقاومة اللبنانية” ضد الوجود الفلسطيني المسلح التي انتهت ب”حرب إلغاء” بين المسيحيين، وتجربة “المقاومة الوطنية” دفاعاً عن المقاومة الفلسطينية التي انتهت ب”حرب المخيمات” ضد الفلسطينيين و”حرب إلغاء” بين الأحزاب الشيعية، وأخيراً تجربة “المقاومة الاسلامية” ضد اسرائيل التي تنتهي اليوم ب”حرب إلغاء” ضد الثورة في سوريا.
في مقابل هذا المنطق القائم على العنف، بدأ يرتسم منطق آخر – تعبر عنه الحيوية المستجدة لتشكيلات المجتمع المدني – يقول بإمكان مواجهة هذا القدر شرط تحقيق أمرين:
الأمر الأول هو اعتماد موقف أخلاقي لا يقيم تمييزاُ بين إرهاب وآخر، فيدين كل أنواع الإرهاب، من إرهاب اسرائيل بحق المدنيين في غزه، الى إرهاب النظام السوري بحق شعبه، الى إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية بحق الأقليات الدينية والأتنية في العراق. وكذلك لا يقيم تمييزاً بين حق وآخر، فيقر بحق الانسان في هذه المنطقة بالحماية ، أكان ينتمي الى أقلية أو أكثرية.
والأمر الثاني هو تجاوز الحدود الطائفية المرسومة لتوحيد الجهد بين المعتدلين في كل الطوائف في مواجهة المتطرفين في كل الطوائف والعمل، بالتعاون مع الناشطين في المجتمع المدني، على انشاء شبكة أمان تحد من المخاطر التي تتهددنا وتعيد للمجتمع مناعته في مواجهة العنف وتمهد الطريق ل”انتفاضة سلام”.
أيها الاصدقاء،
السلام بات شرطاً ملازماً لبقاء لبنان، لبقائة بمسلميه وبمسيحييه.
ويكفي للتدليل على هذا الأمر الإشارة الى أن ما يقارب 40% من سكان لبنان أصبحوا من غير اللبنانيين، وهذه النسبة الى ارتفاع بسبب استمرار المجازر في سوريا.
حان الوقت لطي صفحة الصراعات التي تعطل قدرة الدولة على حماية البلد والشروع في بناء سلام لبنان الدائم.
السلام يحتاج اولا الى “الادراك بأن “خلاص لبنان يكون لكل لبنان او لا يكون، ويقوم بكل لبنان او لا يقوم، ذلك انه ليس من حل لمجموعة دون اخرى، ولا لمجموعة على حساب أخرى”. الكلام هنا للمجمع البطريركي الماروني
السلام يحتاج ثانيا الى استعادة الدولة لسيادتها المفقودة منذ العام 1969 وتأكيد حقها الحصري في امتلاك القوة المسلحة.
السلام يحتاج ثالثا الى تحرير الدولة من صراعات الطوائف عليها والشروع، تأسيسا على اتفاق الطائف، في بناء دولة مدنية، كي لا تبقى هواجس الطوائف ومخاوفها المحرك الاساسي للتاريخ اللبناني.
السلام يحتاج رابعا الى انهاء حقبة سوداء في تاريخ العلاقات اللبنانية – السورية والبحث مع القوى التي تناضل من اجل قيام نظام ديموقراطي في سوريا، في تصور مشترك لعلاقات مستقبلية تضمن حقوق البلدين.
السلام يحتاج خامسا الى طي صفحة الماضي مع الفلسطينيين، ودعم الجهود الرامية الى اقامة دولة فلسطينية مستقلة هي شرط السلام في المنطقة.
أيها الأصدقاء،
أشعر في هذه الأيام يشئ من المهانة عندما أرى البعض يتوسل،باسمي، حماية من هنا أو هناك. أقول لهذا البعض أن حمايتي، كحماية شريكي في هذا الوطن، تأتي من مكان واحد، تأتي من دولة أتشارك معه في بنائها وإدارتها. وأقول أيضاً لهذا البعض أنه من المعيب المطالبة بحماية المسحيين والاستمرار في الوقت ذاته بالسكوت عن مجازر متواصلة بحق المسلمين.
أرى أن الوقت قد حان لوضع حد لهذا المسار الانحداري الذي حوّلنا من جماعة لعبت دوراً أساسياً في قيام الكيان اللبناني وبناء دولته الى أقلية يدفعها هاجس الخوف الى البحث عن حماية لها من خارج الدولة، وعلى حسابها.
نحن في هذا الشرق لسنا أقلية إنما جماعة، والفرق بينهما كبير. “نحن لسنا أقليّة ترتبط بعلاقات جوار وتساكن مع الآخرين، وتبحث عن سبل تنظيم تعايشها مع الأكثريّة والمحافظة على خصوصيّتها. إننا جماعة لها دور فاعل من خلال تواصلها وتفاعلها مع كلّ الجماعات في رسم مستقبل مشترك لها ولهم، يقوم على المبادئ التي تؤمّن للإنسان حريّته وتحفظ كرامته وتوفّر له العيش الكريم”.
هذا الكلام ليس كلامي. إنه كلام المجمع البطريركي الماروني.
أيها الأصدقاء
لا نريد حماية من الغرب. نريد منه أن يشاركنا في معركة السلام وأن يعمل من أجل ذلك على تصحيح أخطاء ارتكبها وأوصلت المنطقة الى ما هي عليه:
خطأ إبقاء الصراع العربي-الاسرائيلي دون حل، الأمر الذي ولّد حروبا دوريةُ ونزاعات دموية.
خطأ التحالف مع أنظمة الاستبداد في المنطقة زمناً طويلاً وعلى حساب شعوبها.
خطأ تدمير الدولة في العراق وابقاء مواطنيها من دون حماية.
خطأ السكوت على جريمة ضد الانسانية ترتكب في سوريا.
أيها الأصدقاء لا نطلب من الغرب سوى تصحيح أخطائه . أما خلاصنا الفعلي والحقيقي فبيدنا معاً وجميعاً.
محمد حسين شمس الدين
وألقى محمد حسين شمس الدين كلمة جاء فيها: ألأخوة والأخوات والأصدقاء السلام لجميعكم ورحمة الله وبركاته. يقول قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر في إرشاده الرسولي المخصَّص لسلام الشرق الأوسط – وأنقل هذا بالمعنى لا بالنصّ الحرفي: “السلام قيمة ثابتة ومتأصّلة في وعي أبناء هذه المنطقة وثقافتهم وتطلعاتهم منذ القدم. ولذلك نلاحظ أنهم، وعلى اختلاف أديانهم، إنما يحيّون بعضهم بعضاً بتحيّة السلام”.
وقبل أن أدخل في صُلب موضوعنا، أودّ أن أشير إلى نقطة لم أتمكن من إطّراحها جانباً. فقد يتبادر إلى ذهن البعض منكم أنني أتحدّث بصفة شيعية، وربما تمثيلية بمعنى ما. وقد يكون في ذهن الذين دعوني إلى هذا المنبر، مشكورين، أني بهذه الصفة الافتراضية أحقّق المراد. هنا يوجد خطأ “تقني” طفيف يمكن استدراكه بما يلي: الواقع أنن أشعر بانتماء إلى كل الجماعات المكوّنة للحالة الوطنية اللبنانية، بما فيها المكوّن الشيعي بطبيعة الحال، كما أشعر بمسؤوليةٍ حيال كل منها، دون ادعاء أية صفة تمثيلية، ولو جزئية. هذا على صعيد الاجتماع الوطني الانساني. أما على الصعيد الإيماني، فأرى إلى نفسي مسلماً ومسيحياً في آن معاً، وبمقادير غير متفاوتة كثيراً في الجوهر، وقد أشعر بصلة مع اليهودية بمقدار ما يُتيح لي فهمي لإسلامي ومسيحيتي في إطار الإيمان الإبراهيمي الكبير. على هذا لا أراني أصلح لشهادة على سبيل “العيّنة” وفق التصنيف اللبناني الشائع. وعلى هذا لستُ ههنا لأتضامن معكم من خارج سياقكم، بل لأتضامن مع قناعاتي التي أتعهّدها داخلكم. إسمحوا لي إذاً أن أطرح من على منبركم – منبري هذا بعض الأسئلة والإشكاليات بخصوص المسيحيين في لبنان والمنطقة العربية:
عام 1919 حمل البطريرك الياس الحويّك إلى مؤتمر السلام في باريس مطلب إنشاء دولة “لبنان الكبير” بحدوده الحالية وتكوينه التعدّدي. ومما قاله البطريرك، مخاطباً رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك جورج كليمنصو:
“اسمحوا لي، سيادة الرئيس، أن ألفت عنايتكم إلى ميزة يتفرّد بها مطلبنا هذا؛ وهي أنه للمرة الأولى في الشرق هناك من يريد إحلال “الوطنية السياسية” محلّ “الوطنية الدينية”. وهذا أمرٌ عظيم الشأن، سوف تترتّب عليه نتائج بالغة الأهمية، كما لا يخفى عليكم. وعليه فإن لبنان المنشود يمتلك شخصية خاصة لا يجوز – ومن منظار الحضارة نفسها – التضحيةُ بها لأية اعتبارات مادية”.
هذا الكلام، في سياق خطبة مطوّلة، نُشر للمرة الأولى أواخر العام الفائت، أي بعد نحو مائة سنة، مأخوذاً من ملفات البطريرك الحويك المصنّفة سياسية في أرشيف البطريركية المارونية في بكركي. فرح به عقلي كثيراً، لأنه أكمل دورة قناعاتي التي بدأت بفرضيّة أن اللبنانيين، لا سيما المسيحيين منهم، إنما اختاروا صيغة العيش المشترك في كيان وطني سيّد مستقلّ، ومجتمع تعدّدي مفتوح، بفعل حكمة فطرية وعقل عملي أكثر مما هو بفعل وعي نظري – فلسفي. وهذه على أي حال فرضية لصالحهم. ثم جاء المجمع البطريركي الماروني عام 2006 ليقول إن هذا الخيار ما كان عفوياً لدى الكنيسة بل واعياً، انطلاقاً من أن الشهادة للإيمان لا تكون أحسن ما تكون إلا في إطار العيش مع الآخر المختلف، لا في إطار الاعتزال داخل جماعة صافية – وكان قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، في إرشاده الرسولي عام 1997، قد دعا المسيحيين اللبنانيين إلى الانخراط الفاعل والمسؤول في الدفاع عن القضايا العادلة لمنطقتهم العربية وبالشراكة مع المسلمين، تأسيساً على واجب الشهادة للإيمان. ثم أتاني كلام البطريرك الحويك ليقول لي إن ذاك الخيار كان واعياً أيضاً ومؤسساً على فكرة سياسية سوسيولوجية متقدمة على زمنها الشرقي. هنا اكتمل فرحي باكتمال دورة قناعاتي القائلة بأن لبنان الكيان، من دون مسيحييه، لا طعم له، ومن دون مسلميه لا حاجة إليه. غيرً أني – وأصارحكم – غضبت في الوقت نفسه: غضبتُ أولاً إذ بدا لي وكأن كلام البطريرك الحويك قد “خُبّئَ” عنّي طوال سبع وستين سنة من عمري، وسحابة قرن من عمر الزمن. ثم غضبتُ تالياً وخصوصاً لما أجريتُ مقارنة خاطفة بين صعودٍ تاريخي مبهر لحيوية مسيحية واثقة وشجاعة، ساهمت في إنتاج تجربة فذّة من التفاعل الإنساني، وبين واقع حالنا في السنوات الأخيرة حيث لم نعد نسمع سوى كرازةٍ بالخوف وانقطاع الرجاء.. وبصخبٍ أحياناً: “نحن المسيحيين قلقون على مصيرنا من وعود هذا “الربيع العربي”، ونفضّل استبداداً موصوفاً عرفناه على استبدادٍ مضمر في أحشاء هذا الربيع! نحن في لبنان ضقنا ذرعاً بشراكة غير منصفة في صيغة عيشنا، ونريد تغيير ملامح هذا الوجه الذي اخترعناه: نريد انتخاب نوابنا بأنفسنا وحصرياً، وانتخاب رئيس الجمهورية من قبلنا أولاً ليصادق عليه المسلمون، وبالتالي نريد عقداً وطنياً جديداً يلاقي فكرة “المثالثة الشيعية – السنيّة – المسيحية” بدلاً من “المناصفة المسيحية – الإسلامية” المعمول بها حالياً بموجب اتفاق الطائف، وبصرف النظر عن العدد! أخيراً وليس آخراً، نريد حمايةً دولية للأقلية المسيحية في لبنان والمنطقة العربية، بوجه إرهاب عجائبيّ البطش والقدرات، وما هو في الواقع إلا إرهابٌ إسلامي، وسنّي تحديداً، كما أخبرنا كل المجتمع الدولي وجميعُ أصدقائنا في المنطقة الذين يرشحون أنفسهم لحمايتنا مشكورين!”…
بصراحة، أشهد أني صُدمت بهذه المقارنة السريعة:
– صُدمت˚ أولاً إذ˚ رأيتُ إخوتي المسيحيين، في تصورهم لأنفسهم، كيف انتقلوا من دينامية تاريخية رؤيوية فاعلة، إلى حالة منفعلة متلقّية تتقلّب على سطح صفيحٍ ساخن!
– وصُدمت ثانياً إذ رأيتُ أنهم لم يُصغوا جيداً إلى تعاليم كنيستهم التي بذلت الجهد الأوفي في التجدُّد – وأأكثر من”كنيسة” إخوتي المسلمين – كما في التوجيه والموعظة الحسنة، منذ الفاتيكان الثاني عام 1965 حتى زيارة البابا فرنسيس الشجاعة مؤخراً ‘لى القدس، وما بين ذاك وهذه!
– وصُدمت ثالثاً إذ رأيتُهم يتحفّزون لسحب ملحهم من عجينتي اللبنانية والمشرقية، فقلتُ: فبماذا أملحّ إذاً؟!
وبصراحة أيضاً سأشهد لقناعاتي، ومن الآخر:
الإرهاب واقعٌ ملموس وخطير، ولكنه في معلوماتي ومعايناتي وتقديري “مصنوع” في القسم الأعظم منه – والإرهاب صناعة كما تعلمون. المفارقة أن الذين يرشّحون أنفسهم لحمايتنا من الإرهاب هم صانعوه وراعوه في الأعمّ الأغلب!
الإرهاب في المقام الأول هو إرهاب أنظمة استبدادية، من اسرائيل إلى سورية إلى العراق إلى ما شئتم. والمفارقة أنه يجري تعتيم وقح على هذا الجانب، قيُلقى القبض على سلاح الجريمة، ويتم الدعاءُ للمجرم بطول العمر!
أطروحة حماية الأقليات ورقة استُلَّت من متحف التاريخ الحديث وتمّ وضعها على الطاولة. أنا لا أؤمن مطلقاً بهذه الورقة، بل أقول مع الإمام محمد مهدي شمس الدين: ليس في هذا الشرق أكثريات وأقليات، بل هناك أكثريتان فقط: أكثرية مسلمة تضمّ عرباً وغير عرب، وأكثرية عربية تضمّ مسلمين ومسيحيين… وبإمكان اليهود أن يختاروا الإنتساب إلى أيّ من الأكثريتين. كما وأقول مع البطاركة الكاثوليك في الشرق: “نحن جميعاً، مسيحيين ومسلمين، مسؤولون عن بعضنا بعضاً أمام الله والتاريخ”.
قناعتي أيضاً أن الصخب الجاري في لبنان هو صخب على السطح، على مستوى الطبقة السياسية التي باتت رهينة منطقها الاستنفاري وارتباطاتها غير اللبنانية. أما العمق الأهلي فيبدو يوماً بعد يوم أكثر تحرراً من هذا المنطق وأكثر استنتاجاً للعبر والدروس.
أخيراً أرفض التهويل، ولا أهوّن. المسألة هي حقاً شديدة التعقيد والحساسية والحرج. لذا فإن التعامل معها يتطلب حداً أدنى من الانفعال ومقداراً عظيماً من الإحساس بالمسؤولية، ومن الشجاعة والقدرة على الإبداع.
كلمة فارس سعيد
وكان النائب السابق فارس سعيد قد ألقى كلمة أفتتاحية، جاء فيها:
نفتتح اليوم اعمال الخلوة العاشرة للقاء سيدة الجبل التي تكتسب اهمية اضافية هذه السنة نظرا إلى الأحداث الخطيرة التي تعصف بالمنطقة
اريد ان ارحب بكم فردا فردا و اخص بالذكر المشاركين المسلمين الذين سيشاركوننا في النقاش لاننا نؤمن بأن لا حلول لمشاكلنا الا معا
معا سنطرح مواضيع الساعة و معا سنستكشف الحلول
معا سنؤكد ان الارهاب يستهدفنا جميعا مسلمين و مسيحيين
معا سنؤكد ان لا تمييز بين ضحية و اخرى لان الذين يُقتلون في سوريا على يد الاسد ليسوا اقل قيمة من الذين يقتلهم داعش
معا سنوجه رسالة الى الداخل اللبناني لنؤكد اننا عرفنا القتل على الهوية قبل غيرنا و عرفنا السيارات المفخخة قبل غيرنا و حاولنا اقتطاع مناطق من اجل بناء مجتمعات صافية قبل غيرنا و عدنا الى التلاقي و الوحدة
معا سنقول للعالم العربي و الاسلامي اننا مسيحيون و مسلمون مسؤولون بعضنا عن بعض امام الله و التاريخ فإما ان ننجوا سوية و اما نغرق سوية
معا سنقول للمسلمين اننا لسنا جالية اجنبية في ارض الشرق. هنا مقامنا. هنا بيتنا. هنا بلادنا. و نرتبط معكم بتاريخ مشترك و حاضر مشترك و مستقبل مشترك
معا سنقول للغرب نحن مسيحيو هذه المنطقة لا نطلب حماية احد لان كل من ادعى حمايتنا كان يحمي مصالحه باسمنا. و علينا ان نعمل معكم من اجل حلول لكل المنطقة و ليس للاقليات وحدها في المنطقة.
خلوة “سيدة الجبل” ترفض التمييز بين إرهاب وإرهاب لا لتحالف الأقليات و لا حل لكل طائفة بمفردها
1 أيلول 2014
تميزت الخلوة العاشرة لـ”لقاء سيدة الجبل” أمس بمضمونها، وبتوقيتها البالغ الأهمية، بأفكار وتطلعات ورؤية إلى حلول مختلفة لمشكلات لبنان وشعوب الشرق، أقلياته وأكثريته، في زمن جنون جماعي متنقل بين الطوائف والجماعات.
الخلوة انعقدت صباحا، في فندق “لوغبريال” المقابل لمقر الأمانة العامة لقوى 14 آذار في الأشرفية، والمشاركون جمع من قادة الرأي: سياسيون ومفكرون وكتّاب وأكاديميون، تقدمهم الرئيس فؤاد السنيورة، النواب مروان حمادة، دوري شمعون، احمد فتفت، عاطف مجدلاني، باسم الشاب، وجمال الجراح، النائب السابق مصطفى علوش، وسواهم.
دقيقة صمت إجلالا لشهداء لبنان والنشيد الوطني، ثم افتتح المنسق العام لقوى 14 آذار فارس سعيد اللقاء بكلمة شدد فيها على ان “اللقاء طابعه مسيحي لكن احد اهدافه ووسائل عمله تتجه الى القول ان لا حل لمشاكل لبنان الا بمساحة وطنية مشتركة”. وانتقد حملات استقطاب الناس الى طوائفهم ليعتقد كل منهم ان الحل لمشاكله هو من ضمن طائفته، فيما حل مشاكل اللبنانيين هو حل وطني وحل مشاكل الاقليات في المنطقة هو حل عربي”.
وبعد كلمة للرئيس السنيورة، ألقى العضو المؤسس للقاء سيدة الجبل سمير فرنجية كلمته، ومما فيها: “نحن اليوم أمام خيار مصيري: فإما الاستمرار على ما نحن عليه من انقسامات وصراعات قد تؤدي في ظل ما تشهده المنطقة الى العودة بلبنان الى زمن الحرب وإما العمل على طي صفحة الماضي والشروع في بناء سلام هذا البلد”. وبعدما عرض لشروط السلام قال فرنجية: “أشعر هذه الأيام بشيء من المهانة عندما أرى البعض يتوسل، باسمي، حماية من هنا أو هناك (…) ومن المعيب المطالبة بحماية المسيحيين والاستمرار في الوقت ذاته بالسكوت عن مجازر متواصلة بحق المسلمين”.
وتلاه السيد محمد حسين شمس الدين، بكلمة فكرية نقدية عميقة، جاء فيها: “صدمت أولا إذ رأيت إخوتي المسيحيين، في تصورهم لأنفسهم، كيف انتقلوا من دينامية تاريخية رؤيوية فاعلة، إلى حالة منفعلة متلقية تتقلب على سطح صفيح ساخن، وصدمت ثانيا إذ رأيت أنهم لم يصغوا جيدا إلى تعاليم كنيستهم التي بذلت الجهد الأوفى في التجدد. وصدمت ثالثا إذ رأيتهم يتحفزون لسحب ملحهم من عجينتي اللبنانية والمشرقية، فقلت: فبماذا أملح إذا؟”.
التوصيات
وبعد مناقشات استمرت نحو ثلاث ساعات، صدرت التوصيات، وفيها: “إتفق المشاركون في الخلوة العاشرة للقاء سيدة الجبل على إنشاء لجنة تحضيرية، مهمتها الإعداد لإطلاق كتلة لبنانية عابرة للطوائف تعمل من أجل حماية لبنان وسلامه الدائم. وذلك على الأسس التالية:
أولاً- لا تمييز بين إرهاب وإرهاب. وهذا موقف أخلاقي قاطع. لا يمكن أن نشعر بالإشمئزاز من جرائم “داعش” ونتغاضى عن جرائم الأسد أو نتكتّم عليها (…)
ثانياً- الإرهاب يطاول الجميع، الأقليات كما الأكثرية (…).
ثالثاً- حماية المسيحيين لا تكون من خلال تحالف الأقليات. إن ربط مصير المسيحيين في الشرق بأنظمة أقلوية مستبدّة (…) يحوّله إلى شريك في التسلّط الذي يمارسه نظام متهاوٍ.
رابعاً- ليس هناك حل مسيحي خاص لمشاكل المسيحيين. بل حلّ شامل لكل مشاكل المنطقة. وللمسيحيين دورٌ فاعلٌ فيه. الحل بالنسبة للمسيحيين، هو في العمل جنباً إلى جنب مع المسلمين من أجل عالمٍ عربي متنوّر، ديموقراطي وتعددي.
خامساً- تعميم التجربة اللبنانية. إن التجربة اللبنانية في العيش معاً يُمكن أن تُقدّم للمجتمعات العربية التعددية نموذجاً يُحتذى به. كما أن لبنان المعافى، بانفتاحه وحيويته الفكرية، قد يُصبح مصدر إلهام لعالمٍ عربي متجدد. إن حرية المعتقد التي كفلها الدستور اللبناني منذ سنة 1926 اعتمدتها اليوم تونس ومصر، ويتوجّب تعميمها على العالم العربي”.