محمد أبي سمرا/الجميزة ومار مخايل: روح الجماعة المسيحية والكيتش حربًا وإعمارًا

70

الجميزة ومار مخايل: روح الجماعة المسيحية والكيتش حربًا وإعمارًا
محمد أبي سمرا/المدن/12 حزيران/2021

تهيأ لي في جولتين أو ثلاث زائرًا مستطلعًا حال شارعي الجميزة ومار مخايل، أن إنجاز إعمارهما وتجديدهما واستئناف الحياة فيهما على الصورة التي كانت عليها قبل انفجار المرفأ، تنطوي على إرادة متفائلة وفرحة في طي المأساة ومحوها. ليس مأساة انفجار مرفأ بيروت وحدها، بل كل ما ألمَّ بالبلاد وأهلها وخبروه وعرفوه، أقله منذ 17 تشرين الأول 2019. وهما طيّ ومحو يوحيان أو يريدان القول إن الكارثة -بل الكوارث- صارت من الماضي والذكريات المتهيئة للنسيان.

والنسيان من طبيعة الحياة البشرية، وطبيعة عيش البشر في نهر الزمن الذي لا يتوقف عن الجريان، ويستحيل عليهم إيقافه. ولا أحد يملك غير إعادة الأعمار جوابًا شافيًا على الخراب الذي تخلفه الكوارث.
لكن في زيارتي الجميزة ومار مخايل اليوم، بعد إعمارهما من جديد، لم تغب عن ذهني فكرة قالتها لي شابة من ناشطات 17 تشرين: لقد أذهلها مشهد المندفعين الفرِح في حملات إزالة الردم والركام من الشارعين في الأيام التي تلت الانفجار. وكأنما تلك الحملات أرادت محو آثار الجريمة وطيّها سريعًا، بلا حِداد ولا تبصر ولا ألم، كأنما ليس من جريمة وقعت. والصبية اليائسة الناقمة على الفرح في إزالة الردم والركام، لم تقترح مثلًا: أن تلبس الحشود المشاركة في الحملة ثيابًا سودًا، وتجعل منها احتفالًا مأتميًا جنائزيًا، رمزيًا مسرحيًا، أو أي عمل آخر.

وأنا بدوري رأيت آنذاك أن مشهد الشبان والفتيات من حاملي الرفوش والمكانس في تدفقهم على الشارعين وغدوهم ورواحهم في ما يشبه التنزّه في الخراب، طالع من مناخ أغنية رحبانية-فيروزية فرحة متفائلة وبريئة: طلعت يا محلى نورها الشمس الشموسي (والأصل لسيد درويش). ومنذ تلك الحميّة الغنائية البريئة التي لابست ذلك المشهد وحتى اليوم، ساد صمت، بل بكمٌ كامل حيال ما حدث من خراب وإعمار، وكأنما الفعلين (الخراب والإعمار) ليسا من أفعال البشر، بل الطبيعة أو القدر، ولا يستدعيان حيرة وتفكيرًا وريبة وتبصرًا وسؤالًا وشكوكًا.

أليس هذا ما فعلناه، نحن اللبنانيين، في طيّنا صفحات حروبنا الأهلية التي خرجنا منها وغادرناها إلى زمن إعادة الإعمار والبناء في الحقبة الحريرية، عندما انطلقت الجرافات لإزالة الردم ولاركام، كأنها تعلن وتقول: لا صوت يعلو فوق صوت الجرافات لطي صفحة الحروب؟!

وها هو المشهد الفيروزي يتكرر اليوم في الجميزة ومار مخايل، ولو على نحوٍ آخر وبطريقة أخرى: منظمات المجتمع المدني وحملات التطوع وهيئات الإغاثة والمساعدات والهيئات الكنسية والرعوية والجمعيات الأهلية والمنظمات الدولية..، تبادر كلها للمشاركة في “عرس” إعادة الإعمار. وقد تكون هذه شهادة ومثلًا فعليين على حيوية المجتمع المسيحي في لبنان، وعلى روحه التضامنية الحية الفاعلة، مقيمًا ومغتربًا.
والروح هذه تشبه ما أشارت إليه لوسي بارسخيان (“المدن”، الأربعاء 9 حزيران الجاري) في تحقيق صحافي لها من زحلة: المغتربون أو المهاجرون الزحليون يبادرون إلى إرسال مبالغ من الدولارات الطازجة لأهلهم المقيمين، الذين ينشِّطون بها مقاهي ومطاعم البردوني التي يرتادونها في موسم الصيف هذا، منتظرين قدوم المهاجرين بأموالهم لنجدة موسم الاصطياف وإحيائه. وهنا أيضًا تنطوي انتظارات اللبنانيين المنكوبين، على إشاحتهم أبصارهم وبصيرتهم عن نكبتهم أو إزاحتها جانبًا، كي ينصرفوا إلى “أعراس” الصيف وحفلاته وأغانيه ورقصه وسهراته مع أهلهم المغتربين، كأنما النكبة لم تقع. وهم في هذا يبرهنون أنهم شعب “يحب الحياة، مهما جار الدهر عليهم”، على ما تقول وتكرر الإعلانات في محطاتهم التفزيونية.

وروح الجماعة وروابطها التضامينة الحية ومبادراتها، تلك التي تلامس إرادة إعادة إعمار الجميزة ومار مخايل وبعث الحياة فيهما، يمكن تذكر سوابق لها تماثلها. فمن عايش حروبنا الأهلية في لبنان، وخصوصًا حرب السنتين (1975 – 1976)، لابد أن يتذكر أن روح الجماعة المسيحية في هذين الشارعين إياهما، وامتدادًا إلى الصيفي والمدور والتباريس والأشرفية، هي التي انبعثت وهبت في جيل شبابي واسع، هو جيل بشير الجميل ورفاقه، فامتشقوا السلاح دفاعًا عن الجماعة إياها ومناطقها. وعلى الرغم من اختلاف نتائج انبعاث تلك الروح في سنتي الحروب، عن نتائج انبعاثها بعد انفجار المرفأ، فإن مادة الروح المنبعثة (حربيًا ودفاعيًا آنذاك، وللإعمار وبعث الحياة من الركام اليوم) هي نفسها: روح الجماعة وإرادتها.

أما وسط بيروت الذي لا تسكنه مباشرة روح الجماعة -وهو أصابه الانفجار ولو على نحو أقل من الجميزة ومار مخايل، ومسكون بروح مشروع رفيق الحريري وطيفه وروح جماعته السياسية والأهلية- فلم يشهد حملات إزالة الردم والركام التي شهدتها مار مخايل والجميزة. ربما لأن شركة استثمارية مغفلة تولت إعماره وتتولى إدارته. وهو لا يزال خاويًا لا حياة فيه وغارقًا في العتمة. لماذا؟ لأن شركات التطوير العقاري الإعمارية، لا تحركها روح الجماعة وإرادتها ودفاعها عن نفسها وعصبيتها وتاريخها وتراثها وذكرياتها، بل الخطط الاستثمارية والتوقعات الاقتصادية المستقبلية وحسب.

ومعظم من شاركوا في حملات إزالة الركام والردم في مار مخايل والجميزة، ومن شاركوا وتطوعوا في حملات إعادة إعمارهما، كانوا من المشاركين/ات في انتفاضة 17 تشرين. وكثرة منهم كانوا ناقمين على جيل آبائهم، لأن أولئك الآباء طووا صفحة الحروب الأهلية وورثوها لأبنائهم وبناتهم من بعدهم، فثاروا في 17 تشرين على إرثها وتركتها الثقيلة عليهم.

لكنهم لمّا حملوا مكانسهم ورفوشهم الجديدة اللامعة في ذلك المشهد الكشفي الفيروزي لإزالة الردم والركام، كان يلابس عملهم ذاك فرح غامر متفائل يناقض طبيعة ما حدث في الانفجار وما عاشوه قبله وبعده من كوارث ومآسٍ، أرادوا إزالتها وطي صفحتها، بلا حيرة ولا حداد ولا سؤال ولا ريبة ولا شكوك، بل ممتلئين بيقين إعادة الإعمار المتفائل وحب الحياة. وهم في هذا نسجوا على منوال آبائهم الذين نقموا عليهم، لأنهم طووا صفحة الحروب الأهلية وورثوهم إياها.

قد يكون هذا كله من سنن الحياة البشرية المتدافعة تدافع الزمن الذي لا يكف عن الجريان بالبشر وأفعالهم: طي المآسي والكوارث والنسيان، ومباشرة العيش وإنشائه من جديد.

والعيش في أصله وفصله مستحيل من دون أن يلابسه الكيتش: كيتش الأمل والتفاؤل والخير والخلاص والمستقبل والرفاه والمتعة والوعود الكبيرة والصغيرة، على الرغم من هذه الهوة الكالحة التي سقط فيها لبنان واللبنانيون منذ نحو سنتين.

لكن ماذا يفعل شخص مثل الشخصية الوحيدة في فيلم إيليا سليمان الأخير “أن شئت كما في السماء”؟ وهو شخص ناقم نقمة صامته على أصناف الكيتش كلها التي تلابس حياة البشر وأرواح جماعاتهم، مهما اختلفت أنماط عيشهم وثقافاتهم وتقاليدهم، من الناصرة في فلسطين، إلى باريس، فنيويورك.

لا يفعل شيئًا سوى جلوسه وتنقله في العالم شاهدًا صامتًا، يائسًا ومتفرجًا على طقوس الكيتش وكلماته وصوره وجموعه التي تجتاح شوارع العالم.