رياض قهوجي: هل أميركا تريد حرباً مع إيران وهل طهران تسعى لاتفاق مع واشنطن؟

109

هل أميركا تريد حرباً مع إيران وهل طهران تسعى لاتفاق مع واشنطن؟
رياض قهوجي/النهار العربي/19 تشرين الثاني 2020

تشهد العلاقات الأميركية -الايرانية ومنذ اندلاع الثورة الاسلامية في ايران عام 1979 وانشاء منظومة الولي الفقيه الاسلامية في طهران وتسلمها الحكم حتى اليوم توترا يتصاعد أحيانا ويخف أحيانا أخرى.

وأسقطت الجمهورية الاسلامية الايرانية حليف أميركا الأول في المنطقة، شاه ايران، مفقدة واشنطن حليفاً رئيسياً في دولة تملك موقعاً جغرافياً استراتيجياً وموارد طبيعية كبيرة. أتى ذلك في وقت كانت الحرب الباردة في أوجها بين أميركا والاتحاد السوفياتي، وكانت ايران تشكل عمقاً استراتيجياً للغرب يواجه الحدود السوفياتية في آسيا الوسطى وبحر البلطيق. وبلغت قوة العلاقات حينها حجماً كانت ايران تمتلك أحدث المقاتلات الأميركية يومها والتي لم تصدرها واشنطن لأي دولة أخرى وهي طائرة اف-14. كما سمح لطهران حينها بانشاء برنامج نووي يشمل بناء مفاعلات ومحطات لتوليد الطاقة واجراء الابحاث. لكن كل ذلك انتهى بين ليلة وضحاها وباتت أميركا لايران “الشيطان الأكبر” وايران لأميركا “عضو محور الشر”. ويرى العديد من المحللين بأن مشاعر القادة لدى الطرفين تتحكم الى حد كبير بقرارات ومنطق أخذ القرار لدى الجهتين، مما يضع امكانية التطبيع بينهما صعبة جداً، ولكن هذا لا يعني أن كلا الطرفين لا يحاول التواصل مع الآخر ويسعى لرسم شكل لهذه العلاقة يمكن التعايش على أساسها. فما هو واقع الحال اليوم والبيت الأبيض على موعد وصول سيده الجديد، جو بايدن، بعد شهرين.

أول مواجهة بين أميركا وايران وقعت بعد أسابيع قليلة من انتصار الدولة الاسلامية وفرار شاه ايران الى الولايات المتحدة حين أقدم طلاب الثورة الايرانية على احتجاز طاقم السفارة الأميركية رهائن لعام ونصف تقريباً، مما شكل اهانة كبيرة لأميركا قيادة وشعباً حيث احتلت أخبار الرهائن شاشات التلفزة الأميركية طوال هذه الفترة زارعة شعور الغضب والكراهية للنظام الايراني. وزاد فشل عملية الانقاذ العسكرية، التي حاولتها القوات الأميركية، من مشاعر الاحباط والنقمة دفع ثمنها الرئيس جيمي كارتر في الانتخابات التي خسرها لصالح رونالد ريغن، الذي اعتمد سياسة متشددة جداً ضد طهران أدت الى أول مواجهة عسكرية بينهما في مياه الخليج ابان فترة ما يسمى بحرب الناقلات، حيث قامت القوات الأميركية باغراق بعض زوارق وسفن البحرية الايرانية. وكانت أميركا دعمت العراق في حربه مع ايران وسهلت له استلام وتصنيع أسلحة متقدمة لتمكينه من الاستمرار. لكن بعض الجهات الاستخباراتية في الادارة الأميركية اكتشفت في هذه الفنرة بأن النظام الايراني براغماتي ومنفتح على التواصل خلف الكواليس مع واشنطن، وظهر ذلك في فضيحة ما يسمى “ايران غايت” والتي تمكنت ايران خلالها من الحصول على ذخائر وقطع غيار لمعداتها الأميركية الصنع مقابل أموال حصلت عليها الاستخبارات الأميركية لتنفقها على تسليح وتدريب ثوار “الكونترا” في نيكاراغوا.

بعد انتهاء الحرب العراقية-الايرانية ومن ثم الحرب الباردة بفوز المعسكر الغربي بقيادة أميركا وانهيار الاتحاد السوفياتي، تراجعت حدة الخطابات بين الجانبين. وفيما انشغلت ايران باعادة بناء قدراتها، تحول تركيز أميركا على العراق بعد غزوه الكويت، الأمر الذي أدى الى تعاظم الوجود الأميركي-الغربي في منطقة الخليج العربي مما رفع من مستوى القلق الايراني الذي وجد قوات “الشيطان الأكبر” على جدوده المباشرة. وعندما أطلق الرئيس جورج بوش الأب عملية السلام في الشرق الأوسط متجاهلا كليا دور ايران في المنطقة وانضمت منظمة التحرير الفلسطينية لها، وجدت القيادة الايرانية نفسها في عزلة مهينة لها وهي التي تعتبر نفسها مرجعية للمسلمين والتي تحمل القضية الفلسطينية في طليعة شعاراتها ومقدمة اهدافها. وبدأت ايران تستغل العراقيل التي وضعتها اسرائيل في تنفيذ التزاماتها نحو اتفاقيات السلام كوسيلة لشق طريقها الى وسط القضية الفلسطينية من جهة ولتثبيت نفسها بلبنان عبر “حزب الله” ومباركة دمشق الوصية على لبنان في حينه. ولم تمانع اسرائيل ضمنا في التدخل الايراني عبر مساعدة وتمويل “حماس” و”الجهاد الاسلامي” و”حزب الله”، لأن ذلك كان يعطيها الحجج للتنصل من الاتفاقيات والمضي بسياسة الاستيطان.

مع وصول ادارة ديموقراطية للبيت الأبيض بقيادة بيل كلينتون تغيرت السياسة الأميركية، وباتت منفتحة أكثر على الحوار والتواصل مع ايران. وتزامن ذلك مع وجود الرئيس محمد خاتمي في سدة الرئاسة بطهران وهو صاحب خطاب حوار الحضارات. جرت حينها أول عملية تواصل كبيرة ومهمة بين الجانبين، لكن لأهداف واجندات مختلفة.

فالقيادة الأميركية كانت تأمل من التواصل مع خاتمي بأن تتمكن من تقوية التيار الاصلاحي في ايران لمساعدته على اضعاف المرشد الأعلى آية الله الخامنئي تمهيداً لولادة نظام ليبرالي-ديموقراطي من رحم الجمهورية الاسلامية. أما إيران فكانت تريد أن تعترف أميركا بدورها ومكانتها إقليمياً ودولياً ورفع العقوبات المهينة عنها، وتعطيها دوراً مهماً في المنظومة الاقليمية التي كانت تعد عبر عملية السلام. فاعتمدت واشنطن حينها سياسة احتواء ايران وإبقاء التواصل معها مع رفع بعض العقوبات الاقتصادية لتقوية تيار خاتمي. لكن الرياح لم تجرِ كما تشتهي السفن، اذ اكتشفت القيادة الأميركية أن صاحب القرار أولا وأخيراً في طهران هو خامنئي وليس خاتمي.

يقر علم العلاقات الدولية بأن كل صاحب قرار يحمل في ذهنه صورة نمطية عن العالم والقوى الأخرى، خاصة الخصوم، وتكون هذه الصورة صنيعة خبرات سابقة وتجارب، وقد تجعل منه اما متشدداً أو متهاوناً أو وسطياً في تعامله مع الظروف والتطورات. أظهرت كافة التجارب والخطابات أن لدى خامنئي صورة نمطية ثابته عن أميركا بأنها قوة لا يمكن الوثوق بها ولا يمكن الاستمرار دونها، وأن من يقف بطريق تحسن العلاقات بينهما هي اسرائيل ودول الخليج العربية. ومع انتخاب الرئيس جورج بوش الابن رئيساً عاد إلى سدة القيادة الأميركية صناع قرار لديهم نظرة متشددة اتجاه ايران، وهي لا تنسى اهانة احتجاز الرهائن. وعندما اجتاحت أميركا أفغانستان والعراق وجدت إيران نفسها محاصرة من جهات عدة من قبل أميركا مما زاد من خوفها، ودفع بخامنئي لتعزيز مكانة التيار المتشدد المتمثل بالحرس الثوري عبر انتخاب أحمدي نجاد.

وشهدت العلاقات توتراً شديداً وقلقاً من امكانية اندلاع الحرب نتيجة انقطاع التواصل كلياً بين الطرفين. لكن ذلك لم يحدث، لأن أحد أهداف ادارة بوش الابن من اجتياح العراق وأفغانستان حينها كان إنشاء أنظمة ديموقراطية رأسمالية على حدود ايران من أجل تشجيع هذا الفكر السياسي داخل ايران وتعزيز مكانة التيار الاصلاحي لقلب النظام. وجاءت العقوبات الدولية التي فرضت على ايران بسبب برنامجها النووي لتزيد من مستوى الضغط واظهار النظام عللى أنه عاجز.

لكن القيادة الايرانية تحت خامني باتت تدرك أن سياسة أميركا الخارجية غير مستقرة وقابلة للتغيير مع رؤسائها، فأيقنت لعبة كسب الوقت، وكيفية الاستفادة من أخطاء واشنطن. ومع وصول باراك أوباما لسدة الرئاسة وسحب القوات الأميركية من العراق أيقنت طهران أنها أمام صانع قرار أميركي غير تقليدي ولا يشارك رؤية الساسة الأميركيين التقليديين نحو ايران ولا نحو الاسلام السياسي، وبالتالي دخلت المفاوضات وفي الوقت ذاته استغلت الفراغ الذي أحدثته قرارات أوباما على الساحتين العراقية والسورية لتوسع مناطق نفوذها في المنطقة.

وكانت النتيجة اتفاقاً نووياً يجمد تقدم البرنامج الايراني دون انهائه ورفع عقوبات وحرية بالعمل والتحرك في الشرق الأوسط دون المساس بإسرائيل. طبعا هذا لم يدم، لأن عودة الجمهوريين مع شخصية شعبوية مثل دونالد ترامب يملك صورة مسبقة سلبية جداً عن ايران ويرفض أي من سياسات أوباما الداخلية والخارجية، أعاد فرض العقوبات بشكل قاس جداً على ايران واعتمد سياسة التهديد والوعيد، مما شكل صدمة للقيادة الايرانية التي شعرت بالاهانة والضعف. وزاد الأمر بلة اغتيال أميركا لقائدها العسكري قاسم سليماني. لكن هدف ترامب لم يكن يوما دخول حرب مع إيران، وكان ذلك واضحاً في الغائه هجوماً كانت أميركا على وشك شنه على منصات صواريخ ايرانية رداً على اسقاط طائرة دون طيار. بل كان هدف ترامب، الذي ينادي دائماً بعودة القوات الأميركية من الشرق الأوسط، هو الضغط بشدة إما لدفع النظام للدخول بمفاوضات ضمن الشروط الأميركية، أو لاحداث ثورة في الشارع لاسقاط النظام. ومجددا، لعبت طهران خطوة شراء الوقت والمراهنة على سقوط ترامب وعودة الديمقراطيين للسلطة، وهذا ما حدث فعلا.

ما يمكن استخلاصه من هذه المراجعة أن أميركا لم تسعَ يوما للدخول في حرب مع الجمهورية الاسلامية في ايران. بل هي سعت دائما لسياسة احتواء تترافق مع محاولات لتغيير النظام. فموقع ايران الاستراتيجي، وامتلاكها لمخزون كبير من النفط والغاز وموارد طبيعية أخرى، ووجود جالية ايرانية كبيرة في أميركا وأوروبا مما يعطيها لوبياً فاعلاً، كلها أمور تجعل فكرة الحرب مع ايران مستبعدة رغم ذكريات أزمة احتجاز الرهائن المهينة. ومن ناحية أخرى، لا تسعى ايران لحرب مع أميركا أو اسرائيل رغم تهديداتها المتكررة. فأهم أولويات النظام الشمولي هو البقاء وبالتالي فطهران تدرك أن أي حرب مع أميركا ستكون مدمرة وتعني تهاية النظام. وتدرك أيضاً أن الأمر ذاته ينطبق على حرب مع اسرائيل التي ستأتي أميركا لنجدتها عند الحاجة.

ولذلك عمدت لاستخدام مجموعات وميليشيات مسلحة لتقاتل بالوكالة عنها كل من أميركا واسرائيل لابعاد شبح الحرب عنها، ولاستنزاف أميركا. ولكنها حتما تعمد لرفع مستوى الردع لديها عبر برامج تسلح تضم تطوير صواريخ باليستية وبرنامج نووي. الا أن الخطر يكمن دائماً بأن يخلف أي هجوم للميليشيات الايرانية خسائر تشعر الأميركي باهانة كبيرة موازية لاهانة هجوم 11 أيلول (سبتمبر ) 2001، الارهابي على الأراضي الأميركية. حينها “لن تسلم الجرة.” لعبت ايران أوراقها بمهارة حتى الآن وهي تستعد للتعامل مع رئيس أميركي جديد، فهل تتغير المعادلات أم تبقى على حالها؟