يوسف بزي: مرحباً بالحريري../مجيء الحريري هو إنقاذ لباسيل من دفنه حيّاً وتمديد باذخ لسلطة برّي الجاثمة على جسد الديموقراطية الواهن وفك حصار عن عهد محجور في عزلة الخواء والهذيان. هو تبرع بالدولة لصاحب الدويلة، الذي لا قوّي إلا هو، الذي لن يربح إلا هو، الذي يحرس الدوامة ويديرها، ككابوس لا نهاية له

185

مرحباً بالحريري..
يوسف بزي/المدن/23 تشرين الأول/2020

*مجيء الحريري هو إنقاذ لجبران باسيل من دفنه حيّاً. هو تمديد باذخ لسلطة نبيه برّي الجاثمة على جسد الديموقراطية الواهن. هو فك حصار عن “عهد” محجور في عزلة الخواء والهذيان. هو تنصيب لمثال حسان دياب الأجوف في رئاسة الحكومة. هو تبرع بالدولة لصاحب الدويلة، الذي لا “قوّي” إلا هو، الذي لن يربح إلا هو، الذي يحرس الدوامة ويديرها، ككابوس لا نهاية له. 

اليوم وليس حينها، يكتسب اعتذار مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة وجاهةً إضافية أو معنى أسمى، بوصفه ترفعاً وإنفة ونفوراً من وحل السلطة اللبنانية ومفاسدها. ويبدو اليوم، أن ما فعله “الثنائي الشيعي” بأديب، كان مصدر بهجة سرّية للحريري شخصياً. بل يبدو أن زعيم تيار المستقبل، الذي اضطر للاستقالة في 29 تشرين الأول 2019، قد لجأ بمقدار من الخبث إلى “استعمال” أديب -الغافل تماماً عن المكائد- ككاسحة ألغام بشرية، دافعاً إياه إلى الميدان لتنفجر به العبوات الناسفة وتطيح به، منظفاً الطريق، فاتحاً ثغرة عبور الحريري مجدداً إلى السراي.

نال الحريري خليطاً متنافراً من 65 صوتاً نيابياً، بصحبة مئات آلاف الرصاصات الطائشة في سماء خريفية يمتزج فيها الرمادي بالأزرق والبرتقالي بالأبيض والأصفر بلطخات خضراء باهتة، في يوم لبناني شاحب شحوب الساحات الكئيبة الخالية، المهجورة بقوة اليأس واللاجدوى. فعاد إلى “مهنته” بيّاعاً سياسياً قليل البراعة كثير المساومة مدمن الاستدانة والتسليف.

ومع هذه العودة، التي تُخرجنا من بلادة حسان دياب وزمنه السادر، سنستأنف سيرة علاقة يمكن وصفها بالـ”فيتشية” بين الزوج اللعوب الحريري – باسيل، وما فيها من زواج وطلاق متكرر، وكثيرة الفضائحية، مع اضطرارهما وفق الشرع السائد إلى “التجحيش” المقيت مراراً.. والأشبه بالخيانات العلنية المخزية.

وعلى هذه السيرة تقوم السياسة اللبنانية، أو بالأحرى “تقع” في حفلة دسائس متناسلة منذ 15 عاماً بلا توقف، ينظمها ويخربها ويقلبها ويقمعها ويحييها حزب القوة الناهي والزاجر كيفما أراد.

أتى مصطفى أديب بملامحه الباردة وغادر سريعاً، في إعلان مقتضب عن استعصاء التحول والخروج من دوامة نظام سياسي واقتصادي لا يحيد عن المناهبة والمحاصصة، ولا يبرع إلا بتغذية العلاقات الريعية الطائفية. فكان عزوف الديبلوماسي القليل الحيلة إعلاناً مهذباً عن الفارق الشاسع بين مخيلة فرنسية وحال لبنانية ممتنعة عن إصلاح ذاتها. وصاحَبَ هذا الفشل تلك الخلجات الأخيرة للتمرد المدني، الذي كان انكساره تأجيلاً فادحاً للمستقبل. يعود الحريري الذي لا يملك إلا فكرة ميتة عن تكرار “إعادة البناء والإعمار” إياه، وتصوراً كسولاً عن إدارة سياسية هي عينها التي تجرّع سمّها (وعنفها) مرات لا تُحصى، من غير دراية منه أنه شريك في طبخة السم هذه. فما أن يدخل السراي حاملاً مشروع رفيق الحريري وقد بات سراباً وماضياً، حتى يوقظ نزعة الممانعة إلى لعب دور التخوين والترهيب وإلى تحسس المسدس، ويوقظ في العونية عصبيتها وغريزتها التواقة إلى نسخة باهتة ومشوهة من “المارونية السياسية” حين رست على ذاكرة مأزومة ومتقوقعة. وهذا عدا عن إحيائه تلقائياً تلك التقاليد التي رست بين أركان السياسة والدولة في التنافس الضاري على مصادر التربح والتكسب وسوء استخدام السلطة والنفوذ. هكذا نعود إلى الدوامة. فلا يفعل الحريري إلا ما فعله منذ العام 2009: طرحُ سياسات ومشاريع وأفكار.. وتبني نقيضها مرغماً أو رضوخاً أو صفقةً حرصاً على بقائه “رئيساً”. مجيء الحريري هو إنقاذ لجبران باسيل من دفنه حيّاً. هو تمديد باذخ لسلطة نبيه برّي الجاثمة على جسد الديموقراطية الواهن. هو فك حصار عن “عهد” محجور في عزلة الخواء والهذيان. هو تنصيب لمثال حسان دياب الأجوف في رئاسة الحكومة. هو تبرع بالدولة لصاحب الدويلة، الذي لا “قوّي” إلا هو، الذي لن يربح إلا هو، الذي يحرس الدوامة ويديرها، ككابوس لا نهاية له.