من الأرشيف: مقالة لجومانا نصر تحكي مآسي مجزرة بلدة العيشية…54 شهيدا في التهجير الأول و47 في الثاني.. العيشية هل تتذكرون؟

950

54 شهيدا في التهجير الأول و47 في الثاني.. العيشية هل تتذكرون؟
جومانا نصر- المسيرة/تشرين الأول 2013

العيشية ملحمة متكررة تشرين الأول 1976. تاريخ قد لا يتذكره إلا أبناء بلدة العيشية الجنوبية. يومها يروي التاريخ أن مجزرة حصلت في تلك القرية التي كانت تشكل قطبة مسيحية في وجه الطغاة. يومان وسقطت العيشية ليسجل على لوحة الشهداء سقوط 52 من أبنائها. لكن سيرة المقاومة والعنفوان التي خطها هؤلاء الشهداء شكلت خارطة طريق لمفهوم الصمود والبقاء في أرض كانت ولا تزال محط أطماع القوات المشتركة سابقا، وقوى الأمر الواقع اليوم.

21 تشرين الأول 2013، 38 عاما على مجزرة العيشية وكأنها اليوم، كيف يتذكر من عايشوا وقائعها لحظات الجحيم القاتلة؟

قد يكون التاريخ وحده حافزا لحك الذاكرة وسكبها من جديد في قالب يحاكي الأجيال التي لم تتعرف إلى العيشية بعدما عاد إليها أهلها ولو بتواضع.

صحيح أن أجراس كنيستي سيدة “الحبل بلا دنس” ومار أنطونيوس عادت لتقرع إما فرحا بولادة طفل أو مناسبة دينية، لكنها تنشد حزنا في كثير من المرات مع وصول جثمان أحد أبنائها من وراء الحدود، وربما على بعد مرمى حجر من بيت القرميد ورائحة الأرض، في صندوق خشبي محكم الإقفال، وفي سيارة الصليب الأحمر الدولي ليدفن في أرض العيشية إلى جانب أهله ورفاقه في الشهادة.

يقولون إن قدر العيشية هو البقاء كما أبناؤها. لكن لا شيء يعزز مفهوم البقاء في هذه الأرض إلا قوة الإيمان والشجاعة. ما عداهما… الرحيل أو الخضوع لقوى الأمر الواقع. لماذا نكتب سيرة العيشية اليوم؟ الجواب في حكاية المجزرة.

يروي الخوري بولس عنيد الذي عايش فصول المجزرة في كتابه”ملحمة العيشية”:”…في 21 تشرين الأول من العام 1976 كانت المجزرة. وتشردت العيشية…ذاك الهجوم البربري على العيشية لا ينسى. وإذا كنا نروي اليوم روينا فصول الملحمة التي عشناها، إنما لاستعادة الأحداث والتذكير بالتاريخ لئلا يضيع هول المذبحة في ذاكرة الأجيال. تلك المذبحة التي حوًلت وطن الأرز برمته إلى غرف للتعذيب”.

منذ التاريخ شكلت العيشية مع المزارع المحيطة بها، بوابة المتصرفية في القرن التاسع عشر. فكانت المدخل الجنوبي لقضاء جزين من خلال الجرمق أو ما يعرف بجبل الريحان، والمعبر الأساسي نحو منطقة البقاع الغربي. وحتى تاريخ سقوطها يحكى أن الهدف من الأحداث الإستفزازية التي سبقت المجزرة، كانت تهدف إلى تأمين خط عبور آمن للقوات المشتركة بين البقاع والجنوب ومن دون مقاومتهم. حتى جاءت ساعة الصفر.

فجر التاسع عشر من شهر تشرين الأول اخترقت سيارة إسعاف تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني كانت تقل عددا من المسلحين من القوات المشتركة مدخل البلدة وفتحت النار على المواطنين. فقتل من قتل، وأصيب العديد من المواطنين. وعند محاولتها التقدم إلى داخل البلدة، قاومها أهالي البلدة فتوقفت وقتل من فيها، ووقع السائق أسيرا في أيدي الأهالي الذين تولوا نقله وتكليفه إسعاف الجرحى كونه كان يعمل ممرضا. لاحقا شن المسلحون هجومات متتالية على البلدة لكن المواجهة مع الأهالي دفعتهم إلى الإندحار خلف أسوارها من جديد.

ويروي احد ابناء البلدة الذي عايش فصول المجزرة أنه في ليل 20 تشرين الأول كثفت القوات المشتركة هجوماتها براجمات الصواريخ وكافة أنواع الأسلحة الثقيلة. لكن قرار أبناء العيشية كان الدفاع عن وجودهم حتى الرمق الأخير، وبما توافر من عتاد وعديد. حتى الصغار تولوا نقل الذخائر والطعام. ومع انبلاج الفجر توضحت الصورة:”جيش لبنان العربي” في أرض المعركة!

صحيح أنهم لبنانيون كما الأهالي الذين كانوا يدافعون عن وجودهم. لكنهم انفصلوا عن الجيش اللبناني. وساهم تدخل عناصرهم في المعركة إلى جانب قوات”الحركة الوطنية” الذين كانوا بالآلاف واستعمالهم سلاح المدفعية من نوع (106) في إسقاط المتاريس الترابية التي شيدها أبناء بلدة العيشية للدفاع عن خطوطهم الأمامية. ويروي الخوري عنيد” كانت اللحظات أشبه بيوم القيامة. أو كأن إعصارا عصف بالبلدة أو ما يشبه التسونامي. الأطفال والنساء والشيوخ لجأوا إلى أقبية البيوت.فقتل من قتل من الشباب الذي هب للدفاع عن بيته وحرماته .ومنهم من حمل الأولاد وفر في الأودية شرقا إلى بلدة القليعة أو شمالا نحو جزين. لكن على الجبهات خطَ الرجال والنساء والأطفال سطورا من البطولة . فالمتراس الذي كان يتولى الأب الدفاع من خلاله عن أهل القرية، كان يحتضن أيضا الزوجة التي تحمل الطعام إلى الشباب. أما الأطفال فكانوا يتولون نقل الذخائر إلى المواقع غير آبهين بأزيز الرصاص وأصوات الراجمات التي كانت تتساقط على البلدة.

انتهى القصف لتبدأ عمليات الإبادة والتصفية. ويضيف شاهد العيان:” كنا مجموعة من النساء والشيوخ والأطفال. وصلنا إلى أحد الأقبية. لكن القصف كان يلاحقنا. بقينا حيث نحن ننتظر وصول “الجزارين”. فجأة سمعنا صوت الكاهن يردد:”إذا كان لا بد من الموت فلنستقبله واقفين متكلين على الله الذي لا يهمل عبيده عند ساعات الخطر” رددنا فعل الندامة. ومنحنا الخوري البركة.

وفي صباح 21 تشرين الأول جاء القرار في تجميع الأهالي أو من بقي منهم، وسوقهم كالنعاج غلى الكنيسة. ويروي الشاهد بحرقة:”كان مشهد الجثث مقززا. وكنا نتعرف إلى بعضها من دون أن نصدر أي رد فعل. هذه جثة فؤاد نصر الذي استمر في مقاومة المعتدين حتى الموت وأمام انظار والدته. وهناك جثة جرجس عون، وأخرى للشهيد خليل نصر التي تشلعت أطرافها وفصل الرأس عن الجسد”.. مشهد لن ينساه الراوي الذي لم يكن يتجاوز الحادية عشرة من عمره. وقد لا يكون وحده الذي حفره في الذاكرة ليكون عبرة لحكايات الأجيال اللاحقة.

قرار تجميع الأهالي في الكنيسة لم يكن بدافع حمايتهم أو ترحيلهم. فالكنيسة كانت مزنرة بالألغام .وكان القرار في تفجيرها وهدمها على رؤؤس الأهالي وعددهم نحو 300 حتى لا يبقى من يخبر سيرة العيشية. ويضيف الراوي، أمضينا الوقت في الصلاة في انتظار ساعة الصفر. لكن علمنا لاحقا أن مفاوضات حصلت على أعلى المستويات بين قياديين من القوات المشتركة وشخصيات سياسية وروحية أسفرت عن فك الألغام المزروعة حول جدران الكنيسة.

في هذا الوقت كان المسلحون يعبثون بالبيوت ويحرقونها بعد سرقتها، ويستبيحون الأرزاق.أما داخل الكنيسة فكانت حرب إبادة. إذ كان يتولى مسلحون المناداة على الرجال الذين تمت الوشاية بهم، ومنهم عمي جرجس فرحات نصر الذي وشى به أحد المواطنين من الطائفة الشيعية لأنه أراد الإنتقام منه بعدما منعه ذات مرة من التقدم إلى داخل البلدة بسيارته حيث كان يشارك جرجس في تحرك تضامني مع الجيش اللبناني. فاقتاده المسلحون إلى أمام عتبة منزله وأمطروه بوابل من الرصاص مزقت جسده.وبعد الكشف على الجثة تبين أنه تعرض لإطلاق النار أيضا على أصابعه انتقاما كونه رمى حجرا كبيرا يومها على سيارة المخبر لمنعه من الدخول عنوة إلى العيشية. ثم نادوا على والدي، وأخذوه إلى نفس الموقع وطلبوا من شقيقي الأكبر أن يطلق النار على والده. فصرخ احد المسلحين:” بيكفَي قتلنا خيو. اتركون”.واستكملت عمليات الإبادة لتشمل أيضا الجرحى الذين لم ترأف بهم إصاباتهم فتمت تصفية البعض على مرأى من أولاده أو أهله.

بعد يومين على انتهاء المجزرة أعطي الأمر للكاهن وبعض الأشخاص لسحب الجثث من الطرقات والأحراج. فتمت الإستعانة بجرار زراعي “تراكتور” لتجميع الجثث ونقلها على دفعات إلى الكنيسة . وكان يطلب من الأهالي الخروج “لملاقاة ” الأحبة جثثا مكدسة في السيارة. كانت لحظات أقسى من الجحيم. وسمح للكاهن أن يتلو صلاة الأبانا والسلام بعد تدوين الإسم في سجل الوفاة قبل نقل “الحمولة” إلى مدافن البلدة ورميهم بطريقة عشوائية. وبعد مرور نحو الأسبوعين تم إجلاء الأسرى أو من بقى منهم بعدما خرج البعض من خلال تدخل بعض الوساطات. وكان التهجير الأول”.

ولاحقا كتب على اللوحة الرخامية :54 شهيدا سقطوا في مجزرة العيشية.
لكن جلجلة أبناء العيشية لم تنته. فالشهداء الذين سقطوا بين العامين 1982 و2000 تاريخ انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، وصل عددهم الى 47 شهيدا.

ذنبهم أنهم رفضوا أن تتكرر مأساة التهجير، فقرروا البقاء لكن الثمن كان مزدوجا: مرة في الإستشهاد،ومرة في ترحيلهم عن قريتهم إلى ما وراء الشريط ولصقهم تهمة العمالة.

من أصل 5000 نسمة، ثمانون فقط يعيشون اليوم في حنايا أشجار الصنوبر التي تكلل البلدة.

وحتى لا يصير التاريخ مجرد حكاية أو فصلا من كتاب، تعود الذكرى في كل سنة في قداس ولقاء مع احبة حملوا البندقية والسلاح الأبيض ذات يوم ودافعوا عن أغلى ما لديهم: بلدة العيشية.