الكولونيل شربل بركات/ايلول والثمن الكبير المستمر من أجل لبنان الكبير

551

ايلول والثمن الكبير المستمر من أجل لبنان الكبير
الكولونيل شربل بركات/02 أيلول/2020

*أيلول يا شهر الشهداء كأني بك شهر الغلة حيث يحلو العنب والتين ويبدأ المزارع بتحضير مؤونة الشتاء. صرت لنا قاطف الأبطال وجامع الأحبة إلى خوابي الله فهو من ينتقي أفضل الثمار وقد حرمتنا منها.

*ويوم بدأت الثورة في 1958 كانت لنا حصة الأسد في التضحية وقدمنا على مذبحه “بنوا” خيرة الأبناء وافتخرنا بأننا شاركنا في أوجاعه.

*ويعود “كيروز” لأن الحاجة في القلب تبقى أكبر من حاجتنا في الجنوب الذي استند فيه ظهرنا إلى جدار ليّن احترم من خلفه سيادتنا وحريتنا والكرامة.

*كانت مدارسنا تعلّم حبه، وترفع أرزته، وتنشد أهازيجه. وكنا نرسم مشاريع المستقبل في ظل بنيانه الشامخ دعما له ولتقدمه وتعاون بنيه.
وكبرنا وشعرنا بأن البعض لا يشبهنا في تعلقه بهذا الوطن، فأشفقنا عليه لأنه لم يعرف بعد أهميته وعظمته.

*****
منذ ما قبل ايلول 1920 وأثناء التحضير لذلك الاعلان المهم بأن دولة لبنان الكبير قد عادت إلى الوجود بحدودها الطبيعية وبمناطقها وشعوبها المتعددة، قدمت عين إبل في الخامس من أيار من ذلك العام خيرة أبنائها من مختلف الأعمار رجالا ونساء في سبيل أن يصبح لبنان واقعا ويضم كل بنيه تحت أرزه الوارف الظلال.

وقد نشأنا ونحن نتعلّم في كتاب الحياة بأن هذا الوطن، الذي سقيناه من دماء الآباء والجدود ومن عرق الجباه وعمل السواعد، لم يكن بناؤه سهلا ولا استمراره صدفة، ولذا فعند كل مفترق كانت لنا وقفات ونضال. لم نتوانَ مرة عن الالتزام به، ولا أهابتنا تهديدات ووعيد، أو خفف اندفاعنا مصاعب أو مجهود.

لبنان بالنسبة لنا كان دوما هدف واضح، واستمراره، بالرغم من كل العوائق، حلم نستلذ الركون إليه.

كانت مدارسنا تعلّم حبه، وترفع أرزته، وتنشد أهازيجه. وكنا نرسم مشاريع المستقبل في ظل بنيانه الشامخ دعما له ولتقدمه وتعاون بنيه.
وكبرنا وشعرنا بأن البعض لا يشبهنا في تعلقه بهذا الوطن، فأشفقنا عليه لأنه لم يعرف بعد أهميته وعظمته.

يوم ضرب الزلزال منطقة بسري كانت عين إبل، وبالرغم من حالتها الاقتصادية المتواضعة، من المتبرعين لضحاياه. كيف لا ونحن جزء من لبنان وهؤلاء مواطنون مثلنا تضرروا من جرائه ولا بد لنا من أن نسهم، ولو بفلس الأرملة، لنشعر بأننا جزء من هذا الوطن العزيز وسند لكل أبنائه.

ويوم بدأت الثورة في 1958 كانت لنا حصة الأسد في التضحية وقدمنا على مذبحه “بنوا” خيرة الأبناء وافتخرنا بأننا شاركنا في أوجاعه.
ثم كثرت الاعتراضات وتفشت الأحزاب المرتبطة بالخارج تهدم صرح الوطن الذي نحب، فلم نقف ساكنين ولا قبلنا أن نهادن، وانطلقنا نواجه بالكلمة وبالفكر كل متشدق على الوطن ومتاجر بنظريات تهدد كيانه.
ولم تنتهِ القضية بالنضال الفكري ولا بالنقاش العقائدي لأن أعداء لبنان بدأوا باستعمال السلاح والتهديد به. عندها عرفنا بأن شجرة الحرية في هذا الوطن قد عطشت وكل ما عملناه لن يخدم بقاءها ولا بد لنا أن نرويها من دمائنا.

بعد تصادمه مع جماعة المعتدين في الدكوانة وانتهاء تلك الجولة “باتفاق القاهرة” المشؤوم، وبعد أن أصبحت الاعتداءات الاسرائيلية خبز الجنوبيين اليومي ردا على تحرشات الفلسطينيين المسلحين، أحب “بشير” أن يزور الجنوب ويرى بأم العين ماذا يجري على الحدود. فرافقناه يومها من الأشرفية إلى عين إبل ومن ثم أخذناه بزيارة لعيتا الشعب حيث اجتمعنا برئيس البلدية يومها وقمنا سوية بمشاهدة البيوت التي دمرت حديثا ردا على عملية غير ناجحة للمدعين بالمقاومة. ومن ثم زرنا معه رميش. وقد شعر بشير يومها بأن كل ما كان يخشى منه على لبنان بدأ يحصل يوميا وأن هذا البلد، الذي حافظ على الهدنة حتى أثناء حرب 1967، بدأ يدخل في عملية استنزاف سوف تكلفه الاستقرار وتدخله تلك اللعبة الخاسرة.

وتدور الأيام ويكبر الجرح النازف ويلتذ البعض بلحس الدماء التي تجري من جسده معتقدا بأنها دماء الاعداء. ونصل مع هذه الثورة وأزلامها من المنظّرين في المقاهي والمكاتب إلى مرحلة التعدي على الدولة والدفع صوب التخريب الداخلي. فتنطلق الثورة المضادة التي تركز على الدولة والجيش ودعمه ليكون وحده صاحب القرار وتكون الدولة حامية الوطن الحقيقية لا تلك المتماهية مع عصابات عرفات والتي لا تحمل هم الوطن.
وتتطور الاشتباكات وها هي الحرب التي لا بد منها تقع ويجول “كيروز” على رأس حفنة من الرجال ويتنقل على الجبهات من الاسواق إلى الفنادق وحدود العرين في الاشرفية. وترسم المناطق الحرة بالدم الذي لا بد منه هذه المرة.

ويعرف “العدو” المتخفي بثياب أهل البيت بأن الجيش الذي كاد يقهره في 1973 هو القوة القادرة على حماية الوطن، فيهاجمه ويقسّمه ويستولي على أسلحته وثكناته. وعندها لا يعود هناك فرق بين من يلبس ثياب الوطن وبين هؤلاء المدافعين عن الكرامة، فنلتحق نحن بهم ونساعدهم على ضبط الحدود وحماية الناس ومنع التهجير.

ومن غبار المعارك، التي تعبق من بسابا وكفرشيما إلى عاريا والزعرور وتل الزعتر ومنها إلى المسيلحة وشكا والعاقورة، تظهر حاجة عين إبل إلى الصمود. فننطلق سوية عبر البحر هذه المرة لنرسم حدود لبناننا الكبير الذي صمدنا فيه طيلة أربعة قرون وعرفنا الحرية معه منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن.

ويعود “كيروز” لأن الحاجة في القلب تبقى أكبر من حاجتنا في الجنوب الذي استند فيه ظهرنا إلى جدار ليّن احترم من خلفه سيادتنا وحريتنا والكرامة.

وتدور الدوائر ويبعد الوطن ولكنه لا يبارح الصدور ولا السواعد المدافعة عنه. ويتطلب الدفاع عن زحلة متاعب وتضحيات. وفي النهاية تضعف قوى الشر ويكبر الأمل بأن لبنان عائد إلى عزه. ولكن، ومع سقوط البشير في أيلول 1982، تنهدم مجددا كل الآمال ويكثر التعدي فينطلق “كيروز” وأترابه مدافعين عن الأهل بمواجهة جحافل الشر.

ويتساقط الأبطال… ونخسر “القمر” الذي زين الساحات وزاد الكبر…

أيلول يا شهر الشهداء كأني بك شهر الغلة حيث يحلو العنب والتين ويبدأ المزارع بتحضير مؤونة الشتاء. صرت لنا قاطف الأبطال وجامع الأحبة إلى خوابي الله فهو من ينتقي أفضل الثمار وقد حرمتنا منها.

اليوم وفي ظل المآسي التي نمر بها وفي غمرة الفحش الذي يلطّخ إسم لبنان وعزة بنيه ومسيرة شهدائه، ويجعلنا بمواجهة مرتزقة جدد لا يهمهم من الوطن سوى شعارات فارغة واستعلاء جارح واستقواء بأعداء الوطن. نقف إجلالا لأرواح من أعطوا لبنان كل شيء وسقوا شجرة الحرية فيه لكي يستمر صراخ الأحرار في الساحات بدون خوف بمواجهة الطغمة المستبدة الفاسدة، التي لا تعرف الوطن ولا تشعر بمشاكل الناس أو تضحياتهم، فهم وطنهم في جيوبهم لآن رؤوسهم لم ترتفع ابدا ولم يعرفوا إلا الذل، فكيف يشعرون بالفارق بين محتل وحر.

يزورنا راس فرنسا التي كانت تحمل شعار الحرية والمساواة ليعزي القلوب بعد جريمة تفجير مناطق المقاومة اللبنانية الحقيقية التي صمدت خلال كل الحروب وكانت دوما شعلة الأمل وخزان المعترضين على كل جور. وقد ضربوها بهذا التفجير عن سابق تصور وتصميم لتصمت الأفواه. وها نحن نرى كيف همدت بنتيجتها أفواج الثوار ضد الطغيان وخفت أعدادهم في شوارع العاصمة.

الرئيس الفرنسي مشكور كونه حضرإلى لبنان للتشديد على دوره المستمر في المنطقة، بالرغم من محاولات القتلة كم صوته واستلحاقه بمنظومتهم. وهو حاول أن يحتضن الناس ويخفف من معاناتهم. ولكنه ليس المخول بأن يفرض القانون الدولي وحده، ولو عرف مكامن الخطر ومنابت الشر، وعلى اللبنانيين ألا يخافوا أو ييأسوا من مواقفه الغير مجدية حاليا، ولكن اصرارهم على قول الحق، وتمسّكهم بحقوقهم في الحياة والحرية والكرامة والسيادة لن تلبس أن تجني ثمارها والمستقبل الزاهر لا بد آت والطغات إلى نهاية…

من الأرشيف/ اضغط هنا لقراءة دراسة نشرت عام 2008 في ذكرى خمسين سنة على استشهاد إبن بلدة عين أبل البارالملازم أول بنوا رزق الله بركات

* ملاحظة: الصورة المرفقة هي للشهيد الملازم أول بنوا رزق الله بركات وهو يتسلم من الرئيس كميل شمعون سيف تخرجه كضابط من المدرسة الحربية

*في أسفل صورة للشيخ بشير وهو يعلق على صدر الشهيد كيروز وسام البطولة والشجاعة