الكولونيل شربل بركات/الفنانة القديرة ماجدة الرومي مجددا

141

الفنانة القديرة ماجدة الرومي مجددا
الكولونيل شربل بركات/09 حزيران/2020

تتصدر غلاف مجلة فوغ لهذا الشهر الفنانة القديرة ماجدة الرومي والتي لا تظهر كثيرا في الاعلام هذه المدة ومع ذلك فهي تسكن كفيروز والكبار ضمير اللبنانيين بدون أن تخدش صورتها الأقاويل وتجرح رصانتها كثرة التصنع. وقصتي مع ماجدة تبعد في الزمن إلى بدايات الحرب سنة 1976 يوم طلب منا أن ننتقل إلى ثكنة كفرشيما التي يوجد فيها الكومبيوتر الرئيسي لقيادة الجيش والذي كان من المحتمل خلال الأحداث تلك أن ينتبه له بعض اللصوص الكثر في تلك الأيام فيهاجمون الثكنة التي لا يوجد فيها أية حماية ويسكنها يومها ثلاث ضباط من سلاح الهندسة لا يمونون على أحد من أهالي البلدة ولا يمكنهم الدفاع عنها في حال تعرضها لمجموعة مصممة على مهاجمتها.

كنا لا نزال في المدرسة الحربية ولكننا كنا نقوم بمساندة الجبهات حيث يتطلب ذلك وكان الحماس والوطنية يدفعاننا للتوجه بدون سؤال إلى اي مكان معرض للسقوط. وقد سبق وأن طلب منا التوجه إلى الحدث لمساندة الرائد عون ابن حارة حريك الذي كان يتمركز قرب الريجي مع دبابة وملالة وعدد صغير من العناصر محاولا الدفاع عن الحدث حيث كانت المنطقة على طول طريق صيدا القديمة تعتبر ساقطة. ويتمركز الاشتراكيون في مدرسة الشويفات بينما بقيت صحراء الشويفات والعمروسية مناطق يتجول فيها جماعات الفلسطينيين. يومها ونحن متوجهين صوب الريجي إذا بمسؤول القوى النظامية في قسم كفرشيما يلاقي علينا قائلا بأن الرائد عون يطلب منا التوجه إلى بسابا لأنه ليس بحاجة للدعم وبسابا كادت أن تسقط تلك الليلة من جراء هجوم القوات المشتركة عليها.

غيرنا طريقنا وانتقلنا برفقة ابن كفرشيما الذي أوصلنا عبر التلال إلى قرب بسابا حيث بدت أول البيوت أمامنا وقال لنا أنا سأعود وعليكم ان تقتربوا من البيوت حيث تجدون المختار الذي بقي وحيدا في القرية. تقدمنا ومعنا فرقة من حراس الأرز على راسها كيروز وبعض الرفاق من التلامذة الضباط ووجدنا المختار وابنه وأحد أبناء حومال وكان مسؤول القوى النظامية فيها وقد أمضوا الليل كله ساهرين حيث ظهرت بضعة ألغام وضعت في وسط الطريق كانت كافية مع بنادقهم لتمنع دخول القوى المعادية في الليلة السابقة. فقد حاول بعض من رافق الملالة نزع الألغام فأمطروهم بالرصاص ما جعلهم يهربون. وكان خوف المختار أن يعودوا مجددا لمحاولة احتلال البلدة الفارغة من السكان.

كان أهل كفرشيما يحضرون أنفسهم للهرب يومها إذا ما سقطت بسابا لأن المنطقة خالية من مراكز دفاعية ولا يوجد سوى الملازم أول ليون مع أم 42 وسبع عسكريين يتمركزون في الدير بين بسابا وكفرشيما ولن يتمكنوا من صد اي هجوم كبير. من هنا كان لا بد لنا من الصمود في بسابا. وبالفعل بعد أسبوع من العمل في ترصين الأرض ونصب مراكز قتال حول البلدة بدأ الأهالي يعودون وهكذا وبعد اسبوع آخر تسلموا عملية الدفاع عن بسابا وبقي معهم أحد رفاقنا الضباط ليشرف على الدفاع عن القرية.

من هنا ولما رأى العقيد وهبة ما جرى معنا وتأثيره على أهالي كفرشيما طلب منا أن نأتي إلى كفرشيما لتدريب الأهالي على الدفاع ما يؤمن حماية الثكنة وقاعدة المعلوماتية التي يديرها.

وفور تمركزنا في الثكنة قمنا بانشأ غرفة عمليات مع الخرائط اللازمة وتوزعنا على شباب البلدة فقمت أنا بالاشراف على نمور الأحرار وجورج رفيقي بالاشراف على الكتائب. وكان الكتائب والأحرار كما في كافة الجبهات لا يمكن أن يتعاونوا. ومن هنا وبوجودنا حصل التنسيق لأول مرة والتدريب على الدفاع عن البلدة من خلال خطة عسكرية وضعناها وجعلناهم يقومون بالعمل كل حزب في جهة؛ فكان الأحرار بمقابل
كفرشيما بينما الكتائب باتجاه طريق صيدا. وهكذا في خلال بضعة أيام بدأت الأمور بالتحسن وأصبحت كفرسيما قلعة محصنة وعادت الثقة إلى الأهالي ولم يعد أحد يريد الهرب. لا بل اصبحت كفرشيما جبهة ثابتة من طريق صيدا القديمة إلى طريق بسابا محمية مع مجموعة متجانسة من الشباب المحلي القادرين على الدفاع عنها.

في هذا الجو وكنا أنا وجورج قد أصبحنا منظورين، رايت ماجدة الرومي التي كانت قد ظهرت سابقا في التلفزيون أثناء التنافس في استيديو الفن قبل بدء الأحداث. وكانت تبدو صبية مهضومة وبالطبع تريد التعرف على هؤلاء الضباط الصغار الذين شغلوا البلدة. وهي ككل الأهالي ساهمت بمساعدة شباب البلدة ما استطاعت كما كان يحدث في كافة المناطق.

ولكنني اعجبت ليس فقط بماجدة التي غنت لبنان من كل قلبها واشتهرت بعدها وانطلقت صوب المجد، ولكن تلك الماجدة التي حفظت لبنان في قلبها ودافعت عن صورته وعن حضارته وصلّت له بصوتها الملائكي. ولذا يوم رايتها في برنامج “خليك بالبيت” منذ أكثر من عشر سنوات لم يسعني إلا أن أكتب عن الفخر والاعجاب اللذين شعرت بهما وهذا ما قلته يومها:

ماجدة الرومي الساحرة البيضاء
الكولونيل شربل بركات/01 تموز/2009
أطلت علينا أمس النجمة اللبنانية السيدة ماجدة الرومي بكل البساطة وبكامل الأناقة التي لا يزيّفها الإغراق باللمعان ولا تطغى عليها كثرة الألوان المحشورة بدون تناسق…
في ذلك الجو العائلي ومن بيت حليم الرومي في كفرشيما الذي تربت فيه والذي زاده جمالا الدفئ الذي تنشره بسمتها وصراحتها وطلتها… استمعنا إلى نجمة بكل معنى الكلمة… نجمة مترفعة عن أوساخ هذا العالم الذي يُغلّف كل يوم بقشرة جديدة من التصنع والتحايل تمنعنا من تلمّس بساطة الحياة في من يشاركنا هذه الفترة من زمن الأرض التي تدور وتدور غير آبهة بمن يعتقد بأنه سيدها فهي رأت الملايين قبله تعبر وتزول ولا يبقى منها سوى ما يحبه الناس فيسعون إلى تخليده…
ماجدة أظهرت قوة الخير فينا وحدثتنا بكل بساطة عن طاقاتنا الكامنة في المحبة والجمال… حدثتنا عن الشعر، عن الفلسفة، وحدثتنا أيضا عن مفاهيمها للسياسة وخاصة في لبنان…
أعطتنا ماجدة أمس من خلال الحلقة التلفزيونية “خليك بالبيت”، الثقة بأننا لن نفقد الوطن الذي يحلم به اللبنانيون ولو تقلّب السياسيون في مذاهبهم ومصالحهم كيفما شاءوا ولو تشبثوا بالكراسي وفضلوها
على حب الناس ولو بدّلوا وجوههم وثيابهم وأقوالهم وما سموه بالمبادئ ألف مرة لأن الإحساس الواضح والطبيعي للبنانيين يبقى واحدا…
حدثتنا ماجدة عن الشهادة والشهداء الذين أثروا فيها وحملوا لبنان الذي نحب في قلوبهم حتى الموت وكدنا أن ننساهم في مرحلة التجاذبات السياسية والتقاتل على المناصب…
وحدثتنا عن الشعر والفن. وذكرتنا بكبار الشعراء التي أحبت من أمثال سعيد عقل ونزار قباني ومحمود درويش وفيكتور هيغو… هؤلاء الذين يلخصون أحيانا كثيرة نضال الشعوب ولكنهم أيضا يرون بوضوح، كما تعلمت أن ترى، مصالح الناس البسيطة أكثر بكثير من الشعارات القاتلة التي تكبّل من يدّعون القيادة فيتحجرون في أماكنهم ويتصلبون في مواقفهم دون أن يدركوا أن الزمن لا يستقر وأن الأجيال الجديدة تجذبها الحياة المتحركة، ربما في نملة تعمل مهما صغرت، أكثر من كل التماثيل الصامتة مهما عظمت…
“من حق اللبنانيين أن يسعوا إلى السلام…” هي قالت. وهي على حق. “من حقهم بعد أن دفعوا خمسا وثلاثين سنة من الحروب أن يحلموا بالاستقرار، أن يبنوا للمستقبل، أن يلحقوا بركب الحضارة”… “كلمات ليست كالكلمات”… إنها الحقيقة الصارخة التي يطلقها اللبنانيون كلهم اليوم قبل الغد ليذكروا من يدعون القيادة بأن الأوطان لا تقوم على الحقد وأن الإنسان يجب أن يسعى للخير.
لم تخجل ماجدة أمس من أن تقول الحقيقة بصراحة وصدق. هي قالت كل ما يختلج في صدور اللبنانيين فليت من يجلس على الكراسي يملك الوقت للتأمل بهذه الكلمات…
تكلمت ماجدة التي لا تزال تملك لمحة الجمال الطبيعي ببساطتها المعهودة عن عمق الشعور البشري، عن لغة العيون، عن النظرة التي تدرك قبل أي مظهر آخر من هو الشخص المقابل. تكلمت في خضم هذه الفوضى من الأعمار والألوان وفي مسرحية الفحش العارمة عن قرار طبيعي يرفعها إلى مستوى أعلى من التشنجات التي ترافق من يتمسكون بالتفاصيل ويحاولون أن يوقفوا الحياة لا بل يسعون أحيانا إلى تغيير المظهر وتجديد الشباب… “أنا اعتزلت الغرام”… جملة مفيدة وصريحة ولا حاجة للتفسير. ولكنني لم أعتزل الحياة وسأحياها بكل فخر وسأصارع من أجل الحق والخير.
ماجدة التي كرمتها الجامعة الأميركية في بيروت بشهادة الدكتورا الفخرية تستحق بالفعل التكريم وتستحق أن يفخر لبنان بها لا بل كل ناطق بلغة الضاد لأن أمثالها يعكسون الخير الذي يسكن داخل هذه الشعوب ويظهرون بأنها قادرة على مجاراة الحضارة الإنسانية لا بل الإضافة عليها وليست فقط مصدر الحقد والتطرف والفوضى…
ولكن ماجدة لخصت فلسفتها في آخر فقرة عندما سألت عن الصراع الذي تقول أنه أحيانا بين “قاتل ومقتول” فاختارت أن تكون القتيل لا القاتل إذا لم يكن هناك من مفر وهي عمق الفلسفة اللبنانية التي قامت على تقبل الآخر وتناسي الأحقاد والعبور من مراحل التقاتل إلى مرحلة البناء… فهل من يستمع؟…