شارل الياس شرتوني/مقاربة نقدية لواقع التفكك السياسي ومفارقات البرنامج الاصلاحي

100

مقاربة نقدية لواقع التفكك السياسي ومفارقات البرنامج الاصلاحي
شارل الياس شرتوني/11 أيار/2020

تتزامن الاخبار المتواترة حول تهريب الطحين والمازوت والدولارات الى سوريا وفضائح استيراد الفيول، مع نشر البرنامج الاصلاحي للحكومة بعد انقضاء مئة يوم على بداية عملها، ومع تنامي الخيبات والاحباطات حول امكانية الخروج من النفق المظلم والطويل الذي دخلته البلاد على خط التواصل بين الازمات المالية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتربوية والوبائية المتداخلة. ثمة فرق بين التطلعات الاصلاحية لجهة صدقية التشخيص المالي والاداء الحكومي الفعلي، وحماية هوامش الحركة لجهة حماية السلم الاهلي والاستقرار الامني.

تنبىء بعض التصريحات التي ادلى بها رئيس الحكومة حسان دياب عن غياب مفهوم التوافق في وضع الخيارات الاصلاحية وانفاذها، وانصياع لاملاءات سياسات النفوذ الشيعية دون اي تمييز فطن في صدقيتها المهنية والسياسية، الامر الذي يستدعي شكوكا وتحفظات حول اولوية الهم الاصلاحي في دائرة نظرها. ان واقع التبعية لسياسات النفوذ الشيعية هو بحد ذاته عائق اساسي في مجال ارساء سياق اصلاحي مستدام لانه يخالف، بادىء ذي بدء، مبدأ الاجماع القيمي الذي ينتظم على اساسه اي عمل اصلاحي، هذا ان كنا بعد اليوم في مجال التفتيش عن محاور اصلاحية جامعة، ام بصدد الخوض في سياسات انقلابية وانقلابيه مضادة.

من غير المسموح لهذه الحكومة التموضع عند تخوم مبهمة، او انحيازية، او غير مهنية اذا ما اردنا ان يكون للاصلاح في هذه البلاد سبيلا. لا بد من استعادة نقدية لمحاور الاصلاح كما تناولتها الورقة الحكومية على نحو يظهر مفارقاتها سواء لجهة الاعلانات المبدئية ام الآليات الاصلاحية المعتمدة:

أ- منهجية العمل: لقد انطلق العمل من منهجية خاطئة ونزاعية لجهة حيثيات تشكيل الحكومة وآلية عملها والمناخات التي هيمنت على ادائها، الامر الذي لم تبدده تصريحات حسان دياب النزاعية، ومحاولات بعض الوزراء أخذ المسافة النقدية عما سبقهم، والقصور المعنوي لمعظم الوزراء، وفقدان التوليفة الحكومية برمتها للقوام المعنوي والاستقلالية الادائية.

ان هيمنة الثنائي الشيعي فاقعة الى حد يهدد تماسك الاداء الحكومي بشكل مستمر، ويعرض التوازنات البنيوية للبلاد على خط استوائي يتراوح بين الشأن المالي والشؤون الاستراتيجية بكل مندرجاتها الحياتية والامنية. ان تجربة المائة يوم كنت خاطئة في منشأها لانها اضاعت على البلاد وقتا ثمينا في مجال تخريج الحلول التقنية، والتفاوض مع الصندوق الدولي للنقد والدول المانحة، واستعادة مناخات الثقة التي تستوجبها اية خطة أصلاح فعلية.

اما السبب في ذلك فهو ارتباط الحكومة بشكل آسر بمصالح ومفكرات سياسات النفوذ الشيعية ومواقيتها واهدافها، وتحالفاتها الانتهازية والمتحركة مع الاوليغارشيات السياسية-المالية التي تحرص على تحصين مقابضها، وحماية مكتسباتها، والحؤول دون اي تسرب يحد من قدرتها الاستنسابية في التحرك واحكام الاولويات، وانتقاء الشراكات في العمل وتخريج المصالح المشتركة.

ان فقدان الحكومة للاستقلالية المعنوية والثقل المهني المرادف هو العامل الاساسي الذي حال دون صياغة متماسكة وفاعلة للسياسات الاصلاحية، الامر الذي يستوجب اساسا التعاون مع مهنيين يتمتعون بالصدقية المتعارف عليها دوليا ( سواء لجهة المعرفة التقنية بالملفات، والعلاقات الدولية على مستوى الحكومات، والاسواق المالية والمؤسسات الدولية، والقوام المعنوي والتمثيلي على مستوى صيانة التوازنات البنيوية في البلاد )، ام على مستوى اشراك القطاعات المدنية والمهنية في مجال تخريج السياسات الاصلاحية ( Stakeholders ).

ان المقاربة الانطوائية التي اعتمدت في مجال اعداد الخطة الاصلاحية هي تعبير مباشر عن القيود المفروضة من قبل سياسات النفوذ الشيعية، والخوف من توسيع دائرة الاستشارة والصياغة وفقدان القدرة على الاملاء، كما تظهرت مع تجاهل مبادرة نقابة المحامين التي الفت لجنة دراسات قانونية لدرس مسألة حماية ودائع المواطنين، واستعادة الاموال المنهوبة والمهربة، ودفعت باجتماعين مهمين مع ممثلي نقابات المهن الحرة، ورؤساء الجامعات الخاصة من اجل توسيع دائرة التداول الاصلاحي.

ان مجرد اخذ البعد والتجاهل المبرحين والتموقف عند تخوم سياسات النفوذ الشيعية، وتجاهل حيوية وتعددية الحراكات والمبادرات المدنية والمهنية، قد اصاب صدقية الادعاءات الاصلاحية وتماسك الاداء الحكومي بهذا الشأن.

ب- الشأن المالي: لقد تمحورت الورقة الاصلاحية المالية حول معالجة ازمة المديونية العامة بشقيها الداخلي والخارجي ( ٨٧ مليار دا، ٦٢٪؜ بالليرة اللبنانية، ٣٢،٥١٪؜ بالعملات الصعبة موزعة بين المصارف والمصرف المركزي٩٠٪؜ / و١٠٪؜ من الحاملين الاجانب )، وازمات السيولة والملاءة، واعادة رسملة المصارف وهيكلتها، واعادة هيكلة المصرف المركزي والقطاع العام، وتجفيف مصادر الفساد والاهدار والزبائنية، واعادة النظر بسياسات الجباية العامة، لجهة الاقتطاعات الضرائبية والموارد الجمركية والعقارية، وتثبيت سعر النقد وتخفيض نسبة الدين العام بالنسبة للناتج المحلي ( ١٧٩٪؜ الى ٩٠ ٪؜ ٢٠٢٠-٢٠٢٧ ) ومعالجة مشكلة الانكماش الاقتصادي …،. لقد اصابت الخطة الاصلاحية في مجال تشخيص المشاكل البنيوية للمديونية العامة كما بلورته دراسة ” لازرد ” لجهة السياسات الريعية التي امتازت بها السياسات المالية المتعاقبة في البلاد منذ بدايات جمهورية الطائف. اما المفارقات التي تطبع المشروع الاصلاحي المقترح فتنعقد حول المحاور التالية : أ- غياب قاعدة احصائية جامعة تنبع عن فقدان تشريح مالي لكل الاداءات والسياسات التي اسست للفساد المعمم، والزبائنيات النافذة على كل المستويات، والاهدار الذي يوصف سياسات رصد الاعتمادات والاولويات والتلزيمات ( وزارات، ادارات، مصالح مستقلة، مؤسسات مشتركة بين القطاعين العام والخاص، جباية الاموال العامة من موارد ضريبية وجمركية وعقارية وقطاعية… ). ب- ان اعتماد مبدأ توزيع الخسائر على المصارف ( المساهمين، المودعين ) والمصرف المركزي هو امر طبيعي لكنه يفترض تمييزا مبدئيا بين المودعين الذين وقعوا ضحية سياسة التوظيف المضللة، والمساهمين والاداريين المصرفيين والمصرف المركزي والاوليغارشيات السياسية-المالية الذين صاغوا ونفذوا هذه السياسة بشكل طوعي انطلاقا من احتساب دقيق لمصالحهم الفردية والزبائنية. لا بد من تصحيح المقاربة الاصلاحية في هذا المجال على قاعدة تنسيب المسؤوليات في عملية توزيع الخسائر واقتطاع الودائع التي ينبغي ان تقع على عاتق الذي صاغوا هذه السياسات الريعية ونفذوها وافادوا منها على مدى ٣٠ سنة، وتلافي سياسة ” الارباح الخاصة والمخاطر المعممة “.تضاف الى ذلك سياسة اعادة رسملة المصارف على قاعدة الدمج المصرفي واكتتاب المودعين في اصدارات الاسهم العائدة لمصارفهم ( Bail in ) التي يجب ان تترافق مع اعادة هيكلة المصارف على قاعدة اتفاقيات بازل الثلاث لجهة متطلبات رأس المال، وادارة المخاطر وتوحيد المعايير الناظمة، وتأمين الشروط الموضوعية للاستقرار المالي على مستوى الامن السياسي والوطني، واصلاح اليات الحوكمة والعمل القضائي، وايجاد مناخات الثقة المحفزة للاستثمارات الخارجية على تنوع مصادرها. تتطلب هذه السياسة اعادة نظر ببنية العمل المصرفي لجهة حجمه ووظائفه، وتوزع نشاطاته، وشفافية مداولاته، والتزامه بقواعد العمل المصرفي العالمي. على عمليات الدمج ان تقترن بعمليات تقييم للاصول والموجودات العائدة للمصارف المعنية من قبل صندوق النقد الدولي، للتحقق من مصادرها واستئصال ومصادرة المنتجات المالية المبيضة والسامة.اما الامر الملفت في البرنامج المطروح فهو غياب اي مقاضاة لاعمال النهب والاهدار وتبييض الاموال والاثراء غير المشروع والتهرب الضريبي وتبادل المعلومات المالية عملا بالمواد القانونية ( ٣١٨، ٥٥،٤٤ ) وباولوية المواثيق الدولية النافذة في كل من هذه المجالات.

يجب ان تستند اعادة النظر ببنية المصرف المركزي الى عدم تكرار تحوله اداة في خدمة السياسات الريعية للاوليغارشيات السياسية-المالية وضابط ايقاع مصالحها، من خلال سياسة تواصل عضوية بين قطاع مصرفي يعاني من تضخم سرطاني دفعت بها سياسات تبييض الاموال والريوع السياسية التي بنيت على اساسها سياسات الهندسة المالية التي اعتمدها. ان حيازة المصرف المركزي لهذا الدور المضخم في التداول المالي عائد الى دوره داخل المنظومة الريعية القائمة على خط استوائي بين مصالح الاوليغارشيات الشيعية-السنية ومواليها في الاوساط المسيحية، وحلفائها المصلحيين في الاوساط الاوليغارشية المالية، والبنية المصرفية القائمة. لقد تم تثبيت سعر النقد المضلل الذي كلف ٤٠ مليار دولارا بناء على اولويات السياسات الريعية واملاءاتها، لا انطلاقا من تقدير أولويات البلاد الانمائية ( التجهيزية، الاقتصادية، الاجتماعية، التربوية، البحثية، البيئية … ).تفهم عملية تثبيت سعر النقد لمدة محدودة زمنيا حماية للسلم الاجتماعي وريثما تبني البلاد قدراتها الاقتصادية، وليس على مدى ثلاثين سنة يتحول فيها المصرف المركزي الى ممول للسياسات الريعية، وتستنكف فيها المصارف عن دورها في تمويل الاقتصاد والتحول التدرجي باتجاه الاقتصاد المعلوماتي والاخضر على مختلف تطبيقاتهما، لحساب تمويل الاقتصاد الريعي الذي ارسته الطبقة السياسية المالكة للمصارف الكبيرة ( الالفا بنك ، ١٨ / .٢ ) ولمعظم القطاعات الاقتصادية في البلاد. ان دور المصرف هو بخدمة الاقتصاد وتحفيز روافده لا الحلول مكانه، لان ثبات النقد لا يرتبط بالتدابير المصطنعة والمضللة بل بقوة الاقتصاد وتنوع رافعاته. الهيكلة تتمحور حول الحفاظ على التوازنات المالية والاقتصادية الكلية، وضبط المداولات المالية ومعدلات الفوائد، ومراقبة سياسة الاستدانة، وضبط نشاطات المصارف، وحماية الودائع، وصيانة وتنمية المحفظة المالية، واعطاء الاستشارة المالية للدولة واقراضها في الحالات القصوى، وسياسة الاصدار والسيادة النقدية. ان مجرد سرد هذه الوظائف كاف لاظهار ان المصرف قد خرق معظمها كمؤشر بين لتهاوي مفهوم وواقع السيادة الدولاتية في بلادنا.

ج- ان غياب اي مقاربة تفصيلية للعلاقة العضوية بين المفكرة الاصلاحية المالية العينية والامن الوطني والاستقرار السياسي، واعادة الاعتبار لمفهوم دولة القانون من خلال تفكيك اقفالات المنظومات الاوليغارشية، عبر مفاهيم الحوكمة الرشيدة والحكم الفدرالي، والقوانين الانتخابية التمثيلية، والقضاء المهني والمستقل، ومفهوم الدولة الانمائية وما تفترضه من تواصل مع الفاعلين المهنيين والمدنيين، امر مقلق يطرح اسئلة متشعبة حول اهداف هذه الطروحات وصدقيتها. ان غياب هذا الافق الاصلاحي يعكس حدود خبرة الفريق الوزاري، وضيق هامش التحرك الذي يتمتع به، ودرجة تسكع الواقع الدولاتي اللبناني الذي تحكمه سياسات نفوذ اقليمية محكمة، وواقع السيادة المحدودة والاستنسابية، والمداخلة في الصراعات الاقليمية على تنوع محاورها واقطابها، كما يظهره دور حزب الله بشكل نافر، مع كل المفارقات السيادية والاخطار التي تلازمها على المستوى الاقليمي. ان غياب المفهوم التداخلي في صياغة البرنامج الاصلاحي سوف يضعف صدقيتها ويحول دون الخوض في سياقات تفاوضية ناجحة دوليا.