رائد جرجس: عالمٌ كماروني

77

عالمٌ كماروني
رائد جرجس/نقلاً عن أرشيف موقع مجموعة الفكر اللبناني لسنة 2013

09 شباط 2020

1- دور الموارنة في التثقف ونشر الثقافة
عُرِف الموارنة منذ زمن بحبهم للثقافة ونهمهم لتحصيل العلم. فكانت التسمية الشهيرة التي أُطلقت في القرن السادس عشر “عالمٌ كماروني” لما تميّز به تلامذة المدرسة المارونية التي أُنشأت في روما سنة 1584 في عهد البابا كليمانس الثالث عشر. وكان للموارنة دور رائد في نشر الثقافة عبر القرون الماضية من خلال ترجمة الكتب الليتورجية والتراث السرياني الماروني إلى لغات عديدة، أو من خلال علماء أخصائيين في شتى المجالات. واستمر النمو الثقافي والتحصيل العلمي عند الموارنة مع “انفتاح لبنان على الغرب في ظلّ حكم الأمراء المعنيّين، ووصول الإرساليّات الكاثوليكيّة إلى الشرق وإنشائها العديد من المدارس المهمّة في مختلف المناطق.” فكانوا يشكّلون حجر الأساس للتواصل الحضاريّ بين ثقافتهم المسيحيّة المشرقيّة الخاصّة والثقافة الغربيّة المسيحيّة.(1) واستمر دور الموارنة متميزاً في نشر الثقافة العربية أيضاً ابتداءً من القرن السابع عشر، مع المطران جرمانوس فرحات (1670-1732) والخوري بطرس التولاويّ (1657-1746) (2) بالإضافة إلى العديد من المفكرين والأدباء.

في القرن العشرين لمعت أسماء هي الأكثر شهرة في تاريخنا الحديث كجبران خليل جبران والمعلم بطرس البستاني وغيرهما من الأدباء والشعراء والمفكرين. حتى في أيام الحرب، كان لبنان يزخر بالأقلام النشيطة التي تكتب الأدب والشعر والفن والتاريخ كسعيد عقل وفؤاد أفرام البستاني وكمال الحاج وغيرهم. وللكنيسة المارونية دور مهم ومباشر في ترويج الثقافة والتثقيف في كافة أنحاء لبنان، فكان التعليم إلزامياً ومجانياً منذ أكثر من مئتي عام، على عكس اليوم.

وحملت الكنيسة أيضاً هذه المهمة عبر القرون الستة عشر من تاريخها بالرغم مما عانته الرعية من حروب واضطهادات. ولعل أفضل توصيف للمراحل المهمة التي اجتازتها الكنيسة المارونية في تاريخها الكنسي والفكري هو ما وصفه الأباتي بولس نعمان بالمراحل الثلاث المهمة: المرحلة الأولى هي “المرحلة التأسيسية”، والمرحلة الثانية هي “مرحلة بناء الإنسان” التي يقول عنها الأباتي نعمان أن البعد الثاني للعلاقات بين الكرسي الرسولي والموارنة يعود إلى هذه الحقبة من خلال ازدياد زيارات موفدين الكرسي الرسولي إلى الموارنة وخصوصاً جان إليانو وهيرونيموس دانديني. “فشهدنا بالفعل نهضة علمية واجتماعية مميزة. فقام منذ تلك الحقبة هذا الجسر الثقافي الحقيقي بين الشرق والغرب وكان الموارنة أول من اجتازوه منتقلين بذلك من “القرون الوسطى” إلى “الحداثة”.” أما المرحلة الثالثة فهي “مرحلة بناء لبنان الرسالة” كما قال البابا يوحنا بولس الثاني.(3)

هذا “التثقف” المنشود يرتكز على بناء ثقافة الفرد أولاً والمجموعة ثانياً لما فيه خير وتطور المجتمع ككل. فأين نحن اليوم كلبنانيين وموارنة خصوصاً من بناء الإنسان والمجتمع والتواصل مع كافة مكوناته؟

2-“المتعلّم” ليس بالضروري “مثقف”
ما نشهده اليوم من هبوط في مستوى التعاطي بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني وخصوصاً بين الموارنة بسبب الصراعات السياسية، هو نتيجة سلبية لغياب التثقيف الفردي والجماعي. لقد بات التواصل الإيجابي بين اللبنانيين عموماً والموارنة تحديداً يحدّه ضوابط ثانوية كالإنتماء السياسي أو الحزبي مثلاً، أو المواقف من أحداث مرحلية لا تشكل أهمية أساسية في تاريخ الفرد أو الجماعة أو المجتمع. فها نحن أمام أفراد “متعلّمين” لا يتصرفون “كمثقفين”، ويبنون أراءهم على معطيات ليست مؤكدة ويطوّرون علاقاتهم الشخصية في بعض الأحيان حسب ميولهم السياسية. ويتطرّفون أيضاً في مواقفهم وتصرفاتهم مناقضين أبسط القواعد الأدبية والمنطقية وحتى تعاليم الكنيسة. هذا يدل على قلة ثقافة، لأن الثقافة تختلف عن التحصيل العلمي بمفهومه التقني. “إن الشخص المثقف ليس دائماً هو من تلقّى التدريب في الحقل أو المهنة التي تهمه… بل هو شخص يقدّر المعرفة لمجرد المعرفة وذلك يتقدّم أهمية حاجته إليها وكيفية استخدامها”.(4) فحب المعرفة يدفع الفرد إلى الانفتاح على الآخر وقراءة المواقف والأحداث بطريقة مغايرة تعتمد على تحليل أكثر منطقياً ودقة. فيبني الفرد بالتالي فكرة أوضح بقدر سعة اطلاعه واستيعابه.

إن الثقافة هي حولنا في كل مكان، جزء منها موروث من حياتنا الاجتماعية وكذلك من شخصيتنا وحس المنطق لدينا.(5) وقد جمع الباحثان كروبر وكلوكهون تعريفات عديدة عن الثقافة معتمدين على علم الإجتماع والإنتروبولوجيا، منها تعريف توصيفي يرى الثقافة كنظام متكامل للعادات والمعتقدات والمعرفة والقوانين وطرق التعبير وغيرها.

(6) وللثقافة ارتباط وثيق بالإيمان، يقول قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني: “كلّ إيمان لا يتحوّل إلى ثقافة ليس بالإيمان المقبول تمامًا والمعقول كليًّا والمعاش بأمانة”

(7). كما يحدّد المجمع الفاتيكاني الثاني الثقافة على أنّها “كلّ ما يستخدمه الإنسان لصقل إمكاناته المتعدّدة وتنميتها، مجتهدًا في إخضاع الكون بالمعرفة والعمل، مؤنسنًا الحياة الاجتماعيّة، والحياة العيليّة ومُجمل الحياة المدنيّة بفضل تقدّم الأخلاق والشرائع، مترجمًا وناشرًا وحافظًا في مؤلّفاته، عبر الأزمنة، الاختبارات الروحيّة الكبيرة ونزعات الإنسان العظمى، حتى تُستخدم لتقدُّم أكبر عدد من أعضاء الجنس البشريّ كلّه”.

(8) فها نحن إذاً أمام “ثقافة الإيمان” التي تملي علينا التصرف بالطرق المناسبة بعيدًا عن التعصب والحقد والكراهية وعداوة الآخر. لذا نتساءل هل أن حدّية المواقف عند الموارنة في ما بينهم من جهة وتجاه المجموعات اللبنانية الأخرى من جهة ثانية هي نتيجة مباشرة لقلة الثقافة في أيامنا هذه؟

3- أسباب مؤثرة
أ- الوضع الإقتصادي
لا شك أن الوضع الإقتصادي له تأثير مباشر على قلة الثقافة. فحاجة الأهل أو الفرد إلى تأمين المستلزمات الأساسية للعيش تتقدم عند معظم اللبنانيين على ضرورة شراء الكتب أو المشاركة بالنشاطات الثقافية أو البحوث العلمية خارج النطاق المدرسي. فالكتاب كاد أن يتحول في لبنان بعد الحرب وبسبب تراجع مستوى الدخل الفردي إلى “رفاهية” مكلفة بالنسبة إلى الكثيرين من أصحاب الدخل المحدود. وقد أثّر الوضع الإقتصادي سلباً كذلك على مجموع ساعات العمل بحيث يضطر الفرد أحياناً إلى الاعتماد على وظيفتين لسد حاجاته مما لا يترك مجالاً للتحصيل العلمي الجامعي أو حتى للمطالعة الشخصية والتثقيف الفردي.

ب- الوضع السياسي والأمني
أثّر الوضع السياسي والأمني على الثقافة الفردية في مراحل عديدة من تاريخنا الحديث. فكان الضغط السياسي يتعاظم على كل من يخالف السلطة الحاكمة بالرأي أو الفعل. فنشطت الأجهزة الأمنية بقمع التجمعات السياسية والندوات والنشاطات الثقافية وحتى الرياضية التي تعتبرها “مشبوهة”. ووصل الضغط المتزايد إلى حد منع كتب وأفلام لمؤلفين لبنانيين وأجانب بما يتناسب مع السياسة المتّبعة. وبلغ قمع حرية الرأي والتعبير ذروته مع محاولات الترهيب لكتّاب وسياسيين وصحافيين دفع بعضهم حياتهم ثمناً لمواقفهم وتوجهاتهم الفكرية أو السياسية. وقد ساهمت وسائل إعلام عديدة بتغطية هذه الممارسات من باب الترويج لسياسة معيّنة وإضفاء صبغة الخيانة أو العمالة على كل شخص صاحب رأي مخالف، تماماً كما في البلدان ذات الأنظمة الديكتاتورية والشمولية. أمام هذا الواقع ابتعد الكثيرون من اللبنانيين والمسيحيين خصوصًا عن المشاركة الفعلية في الحياة العامة أو السياسية أو حتى عن التعبير عن آرائهم خوفاً من المواجهة والملاحقة.

ج- تأثير الأنظمة المجاورة
لقد لعبت الأنظمة المجاورة دوراً سلبياً أثّر على تطوّر المستوى الثقافي عند الفرد والجماعة في لبنان. كان الموارنة تحديداً بين نارين، نار الإنتماء العربي الذي رفضوه لسنين طويلة ونار التحالفات الآنية التي اقتضتها الحاجة أحياناً بسبب ما فرضته الحرب من مخاطر وجودية في بعض المراحل. فكانوا يترنّحون بين نخبة مفكرة رافضة لفكرة العروبة من جهة، تروّج لثقافة لبنانية بحتة وقومية لبنانية

(9) وأخرى تسمي نفسها “تقدّمية” ذو فكر يساري

(10) أو “قومي عربي” يدعو إلى القومية السورية أوالقومية والوحدة العربية

(11). وقد عمل نظام البعث السوري في السنين الأربعين الماضية على تحجيم الدور الثقافي والريادي للموارنة محاولاً دفعهم نحو الإلتحاق الكامل به أو الذوبان كأقلية عددية وسياسية في لبنان ليس لها أي تأثير. فقمع هذا النظام حرية التعبير واغتال مفكرين وسياسيين بارزين، ليسوا من الموارنة فقط بل من مختلف الطوائف، بسبب ما يتميّزون به من انفتاح وتقارب بين مختلف مكونات الوطن. وقد تعاظم دور هذا النظام في قمع الحريات والفكر الحر حتى برز بشكل واضح بعد انتهاء الحرب في لبنان منذ سنة 1991 وما بعد. لقد عمل النظام السوري وملحقاته في لبنان على اضطهاد كل من يعارضه، فسجن ونفى شخصيات سياسية وقتل من قتل بغرض الترهيب وكم الأفواه. فبات من البطولة تنظيم أو حضور ندوة ثقافية تناقش الأوضاع السياسية السائدة، أو مجرد الإعلان عن رأي معاكس لمشيئة هذا النظام. فكيف للمجتمع أن يتطور ويتثقف في ظل وجود هكذا نظام ديكتاتوري فوق رأسه وفي ظل غياب الرأي الآخر والتحليل الموضوعي؟

د- غياب المثل الأعلى
سبب آخر يؤثر على المستوى الفكري والثقافي لدى الأفراد والمجموعات هو غياب المفكرين الكبار الذين يشكّلون مثالاً يحتذى ومرجعية كل في مجاله. كان للموارنة مفكرين وأدباء وشعراء يزخرون بالنشاط والإنتاج الفكري المتواصل حتى خلال الحرب. تُناقَش كتاباتهم وأفكارهم وتولّد ردود فكرية مؤيدة أو مناقضة من مختلف الإتجاهات. كل هذا يغني الساحة الثقافية والفكرية بعكس ما هو عليه الوضع اليوم، حيث تخلو الساح إلا من بعض السياسيين الذين يحتلون مساحة واسعة من اهتمام الناس، فلا يقرؤون إلا تصريحاتهم ولا يستمعون إلا إلى خطبهم.

ه- الإجتهاد الشخصي
بالرغم من كل ما سبق، يبقى للإجتهاد الشخصي عند كل فرد من أفراد المجتمع أهمية كبرى. فبوجود أدوات الإتصال الحديثة من إنترنت وغيرها، يجب على الفرد أن يبذل الحد الأدنى من الجهد المطلوب للإطلاع على الأحداث من زوايا مختلفة. فلا يقرأ جريدة واحدة أو يشاهد محطة تلفزيونية واحدة أو يستمع إلى سياسي واحد أو مرجعية واحدة كما هو الحال عند الكثيرين اليوم. بل يبحث كل الشخص عن “الرأي الآخر” ليكوّن صورة مغايرة تقبل الشك بالحد الأدنى، وترتقي إلى الموضوعية في الحد الأقصى، لأن لا أحداً يملك الحقيقة المطلقة! هكذا يبني الفرد ثقافة شخصية تتميز بحس النقد والموضوعية، ما يؤثر على مواقفه وطريقة مقاربته لكافة المواضيع.

و- النظام التربوي
بقي النظام التربوي اللبناني والمنهج الدراسي بدون مراجعة لسنين طويلة. فلم يكن يركّز بصيغته القديمة على تطوير “حشرية” التلميذ ليسأل ويكتشف ويقارع بالحجج والبراهين. بل كان المنهج الدراسي يعتمد بشكل كبير على الدرس والحفظ على طريقة التربية الفرنسية القديمة المعروفة بما يسمى cours magistral. هذه الطريقة المتّعبة والآحادية في أغلب الأحيان (من الأستاذ إلى التلميذ) لا تشجّع على بناء شخصية التلميذ ليكون مشككاً بطريقة علمية أولاً. وتتطلّب ثانياً وقتاً طويلاً للدرس خارج أوقات الدوام بسبب كثافة المواد التعليمية في البرنامج. فلا يبقى الوقت الكافي للطالب ليقوم بأبحاث خاصة في المجالات التي تهمه. هكذا تقتصر الثقافة المكتسبة أيام الدراسة على المواد الأساسية التي يدرسها الطالب دون غيرها والتي قلما يرجع إليها بعد التخرج لانتفاء الحاجة.

ذ- العولمة الزائفة
من أسباب تراجع الثقافة عند الفرد أيضاً هو مفهومه وتطبيقه الخاطىء للعولمة والعصرنة. فالعولمة لا تعني التخلي عن الثقافة الخاصة بمجتمعات وبيئات معينة لتبني أشياء غريبة عنها. فها نحن نرى الكثيرين من أبناء مجتمعنا يبتعدون شيئاً فشيئاً عن القيم التي قامت عليها الكنيسة والتي بنيت عليها أسس مجتمعنا اللبناني كالإنتماء إلى العائلة، واحترام الأديان، وشرعة حقوق الإنسان، إلخ. فيحملون مبدأ العلمانية مثلاً ليضربوا به كل ما يتصل بالكنيسة ومواقفها عن جهل أو عن قصد. فاحترام المرجعيات الدينية مثلاً لا يتعارض مع مبدأ العلمانية (laïcité) وهو تعبير سياسيّ عن حركة العلمنة الشاملة النازعة إلى الحدّ من طموح الدين إلى الشموليّة. ويعني ذلك فصل الدين عن الدولة. ومن ظواهر العولمة المؤثرة سلباً أيضاً، تلك التي تجعل الفرد يتخلّى عن مبادئ مهمة يجب أن يناضل ويدافع عنها في مجتمعه، ليتبنى أفكاراً أقل أهمية تنتجها مجتمعات و”أسواق” غربية فتحوله إلى فرد “إستهلاكي” للمعلومات والسلع وليس إلى إنسان منتج فكرياً ومساهم إيجابياً في بيئته.

4- النتائج المباشرة لغياب الثقافة الفردية
إن البعد الثقافيّ هو عنصر أساسي في تطوّر المجتمعات البشريّة وتفاعلاتها المتبادلة. فبغياب الثقافة الفردية والجماعية تتراجع القيم الأخلاقية والإنسانية في المجتمع. من النتائج المباشرة لغياب الثقافة على المستوى الفردي في مجتمعنا نعدد الآتي:

أ‌- الشخص بدل الجماعة
تحجيم وإغفال أهمية العمل الفكري الذي يُترجم بشكل من أشكاله من خلال البرامج السياسية والإجتماعية وذلك لصالح بناء صورة الشخص الواحد وحشد شعبيته. بحيث بات الفرد في المجتمع المسيحي يتبع الشخص إلى حد التأليه، بعيداً عن برنامج سياسي أو إجتماعي واضح وبدون محاسبة أو تحليل منطقي للأقوال والأفعال. فيغيب بذلك العمل الجدي لبرنامج يحمل هوية لبنانية تاريخية ويؤدي إلى ترسيخ الكيان اللبناني الذي طالما عملوا لأجله الموارنة منذ مئات السنين. كما أن الإنسياق وراء أشخاص يشكّل خطراً كبيراً على الجماعة ككل (الموارنة والمسيحيين عموماً) في ظروف دقيقة في حال أخطأ هذا الشخص أو ذاك. إن دور الجماعة أساسي وأهم في المراحل التأسيسية للكيان اللبناني كما في المحافظة عليه في أوقات المحن. فإذا انحصر تمثيل الجماعة بشخص ما، من الممكن أن يصغر دور هذه الجماعة مع انكفاء دور الزعيم أو يكبر بشكل مصطنع مع سطوته، فلا يدوم على أسس صلبة بل يتبدّل حسب السياسة وميزان القوى على الأرض.

ب- تجييش الشارع
بغياب الثقافة الفردية والجماعية يسهل تجييش الشارع ليتلهّى بأحداث صغيرة وحملات تكتيكية تقوم بها جهات سياسية أو أجهزة مخابرات لتشتت الأنظار عما هو أهم على المستوى السياسي أو الأمني أو الإستراتيجي. في التاريخ المعاصر غرق الموارنة والمسيحيون مرات عديدة في “مطبات” جانبية شتتت أنظارهم وفرّقت قواهم لعدم مواجهة ما هو أهم وما يؤثر سلباً على مستقبلهم ومستقبل أولادهم. الأمثلة هنا كثيرة، كالصراعات المسيحية التي أضعفت قواهم وشتت أنظارهم عن الأخطار الحقيقية المحدقة بلبنان وبوجودهم، وتسببت بهجرة مئات الآلاف من المسيحيين. وكذلك ملف التجنيس الذي هُرِّب في عهد الرئيس الهراوي وضم مئات الآلاف من غير المستحقين في حين كان الشارع المسيحي ومن ضمنه الموارنة منهمكين بالهموم المعيشية والأمنية. أما من هم في السلطة فكانوا يتقاسمون الحصص حسب المصالح الشخصية. فقد أخلّ هذا الملف بالتوازن الديموغرافي الحساس في لبنان وساعد على تحويل المسيحيين أقلية عددية، وزرع عائلات سورية لاتمت إلى لبنان بصلة في مختلف المناطق حسب الحاجات الإنتخابية.

ج- تأييد الأنظمة الديكتاتورية والشمولية
تراجع الثقافة الفردية أدى إلى نتائج كارثية على مستوى التفكير والتقييم عند الكثيرين من الموارنة. فأصبح جزء كبير من الموارنة يتطلّعون إلى أنظمة ديكتاتورية وإلى حكّام ديكتاتوريين كأنهم منقذين. فبعد أن كان الموارنة يأملون التشبه بالتقدم الحضاري والثقافي للغرب لما يمثله من قيم إنسانية وحرية معتقد وانفتاح، باتت الجمهورية الإسلامية الإيرانية أو سوريا أو غيرها من بلدان لا تتمتع بالحد الأدنى من حرية الرأي والحرية السياسية هي أقرب إلى الكثيرين منهم من فرنسا أو أوروبا أو غيرها من البلدان الراقية. مؤسف ما آلت إليه الأمور عند هؤلاء الموارنة اليوم بعد أن قاوم أسلافهم كافة الطغاة الذين حاولوا طمس حريتهم والقضاء على خصوصيتهم، منذ أيام المماليك مروراً بالعثمانيين ووصولاً إلى تاريخنا المعاصر خلال الحرب الأهلية.

د- قلة أدب
ومن النتائج الظاهرة والواضحة لغياب الثقافة هي طريقة التعاطي على المستوى الفردي بين أبناء العائلة الواحدة أحياناً وبين اللبنانيين عموماً من مختلف المشارب والمذاهب. فتتميز المواقف والأحاديث في الصالونات كما على صفحات التواصل الإجتماعي بقلة أدب قل نظيرها. فتغيب أبسط قواعد السلوك الإجتماعي والحضاري، كاحترام الآخر واحترام المقامات الزمنية والروحية وعدم التشهير والتجريح بسبب الرأي السياسي، أو الإنتماء الديني، إلخ. لقد غاب النقاش الموضوعي بين أفراد مجتمعنا ليحل مكانه جدل مضن يرتكز على الغرائز والعواطف بغياب ثقافة التحليل والمنطق. وهذا التصرف ينتقل تدريجياً من جيل إلى آخر.

5- الحرية والثقافة
لقد ناضل الموارنة طوال قرون بغية العيش بحرية وممارسة معتقداتهم الدينية. والثقافة الحديثة لا يمكن أن تكتمل بدون حرية، فكلاهما يشكلان الرئتين الحيويتين اللتين يتنفس من خلالهما أي مجتمع أو جماعة. والثقافة لا تقتصر فقط على معناها العام بل تتعدد مع الحداثة التي يشهدها العالم. فهناك الثقافة البيئية والثقافة الدينية والثقافة السياسية وثقافة حقوق الإنسان. وبالنظر لما عاناه اللبناني والمسيحي في بلده وفي الشرق يجب عليه أن يكون المدافع الأول عن حقوق الإنسان. وهنالك أيضاً الثقافة الرياضة، والفنية وغيرها. لكن الشرط الأساسي للتحصيل الثقافي هو حريّة الفرد. فيجب على الفرد أن يكون حراً في اختيار نمط عيشه وفي التفكير والتعبير. والموارنة، عبر تاريخهم الطويل، جسّدوا هذه الحرية ومارسوها في أحلك الظروف فكيف لهم أن يتخلوا عنها اليوم؟ لقد دفع الموارنة “ضريبة” غالية من أجل الوصول إلى “لبنان الرسالة” الذي تحدث عنه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني. فكانوا المدافعين الأوائل عن حرية المعتقد وحرية الثقافة، فحوّلوا لبنان إلى ملجأ لكل المجموعات المضطَهدة فكرياً أو دينياً. وتحوّل بالتالي هذا الوطن – الملجأ إلى واحة تلاقي بين مختلف الأديان والثقافات ليصبح ما هو عليه اليوم، نموذجاً يتغنّى به كثيرون.

إلا أن هذه المرحلة- الرسالة لا يجب أن تُحدَّد بزمن ولا يجب أن تنتهي مع انتفاء سبب ما. بل يجب أن تستمر لأهميتها في بناء الجسور والتواصل بين مختلف الأديان في لبنان. فلا يمكن أن ينجح “لبنان الرسالة” إلا في حال ارتكز التواصل بين أبنائه ومجموعاته على معرفة معمّقة لخصوصيات كل فئة من فئاته من خلال الثقافة والإنفتاح وتطوّر الفكر الإنساني. لذا من الضروري أن يبدأ العمل من الخليّة الأصغر في المجتمع حتى الوصول إلى الخليّة الأكبر. أي من الفرد إلى العائلة مروراً بالنادي والقرية والمدرسة والأبرشية والمنطقة. هذا العمل الفكري والثقافي يجب أن يعرّف الإنسان الماروني على تراثه وتاريخه ونضال أجداده وعلى الفكر الماروني من خلال عمل مراكز الأبحاث المتخصصة والنشاطات الثقافية الدائمة والمعارض والمتاحف وغيرها من الوسائل الحديثة التي تجذب الشباب. ومن المهم أيضاً أن يطّلع اللبناني على كافة الثقافات وينفتح على معرفة لا تقتصر فقط على دينه بل تتعداه لتشمل كافة الأديان والثقافات في لبنان والشرق. من الممكن أن تكون هذه بداية لمرحلة جديدة نعود من خلالها إلى ثقافة تصقل شخصية الإنسان وتؤثر على تصرفاته وفهمه وتقييمه للمواضيع وتطبع مواقفه بموضوعية أكبر وفهم أشمل. أتمنى أن تصحّ تسمية “عالم كماروني” على كل ماروني ومسيحي ولبناني في يوم من الأيام.
المراجع:
(1)موقع Maronite-evangelization
(2) المصدر نفسه
(3) L’Orient le Jour, L’Eglise maronite et le Saint-Siège, 1600 ans de liens privilégiés, 17-02-2011 عن موقع “الإتحاد الكاثوليكي للصحافة”
(4)John Lechte, Key Contemporary Concepts: From Abjection to Zeno’s Paradox, 2003, p.134-135
(5) Definitions of culture in sociology and anthropology, cultural studies reader website, 03 march 2012
(6) Culture: A Critical Review of Literature, 1952 – Definitions of culture in sociology and anthropology, from cultural studies reader website, 03 march 2012
(7) يوحنّا بولس الثاني، الرسالة بخطّ يده لتأسيس المجلس الحبريّ للثقافة، 20 أيّار 1982، الوثائق الكاثوليكيّة 79 (1982)، 604-606
(8) دستور راعويّ حول الكنيسة في عالم اليوم، عدد 53 عن موقع Maronite-evangelization
(9) تمثل هذا التيار بفكر الفيلسوف اللبناني كمال يوسف الحاج والشاعر سعيد عقل والمفكر شارل مالك وغيرهم.
(10)الحركات اليسارية في لبنان مثل الحزب الإشتراكي والحزب الشيوعي
(11)الحزب السوري القومي وحزب البعث السوري وحزب البعث العراقي وحركة الناصريين (نسبة للزعيم المصري جمال عبدالناصر). وقد مثلت هذه الأحزاب والحركات العديد من الشخصيات المسيحية خلال وبعد الحرب في لبنان.

**اضغط هنا لقراءة الدراسة التي في أعلى المنشورة سنة 2013 على موقع مجموعة الفكر اللبناني 

.