شارل الياس شرتوني: الجمهورية المستحيلة

61

الجمهورية المستحيلة
شارل الياس شرتوني/12 كانون الأول/2019

جمهورية تبتلعها السيول في حين تغرق الاوليغارشيات الحاكمة في عملية تصفية الحسابات بين اطرافها دون أي احساس بخطورة التآكل الذي يصيب البنية الدولاتية، والانهيارات التي تطال البنيات المالية والاقتصادية والاجتماعية والتجهيزية والتربوية والبيئية …،.

ان مجرد التنصت لما آل اليه الخطاب والاداء السياسيين، ومراقبة تداعيات الانحراف السلوكي والعنف المتفشي عل كل المستويات، كاف للتبصر في احوال جمهورية متداعية لا سبيل لترميمها، لقد تجاوزنا كل العتبات.

يحيلنا هذا الاستقراء إلى حيثية الحياة السياسية وتحديدا إلى مسألة تأليف الحكومة ومقاربة المسائل الحيوية التي يتعلق بها مصير البلاد.

ان واقع المماطلة الإرادي وغير الإرادي سوف يؤجل عملية الإنقاذ الملحة في وقت نحن بحاجة إلى روافع سياسية واقتصادية واجتماعية وتجهيزية توقف الانهيارات وتضع البلاد على خط التعافي في آجال زمنية قياسية، نحن بحاجة، إذا ما استعرنا تورية طبية، إلى علاجات طارئة وصاعقة تخرجنا من دائرة الخطر المميت ومؤشراتها المتنوعة (هشاشة السلم الأهلي والانكشاف على نزاعات المنطقة، الانهيارات المالية والاقتصادية والاجتماعية، و تبدد عناصر التوافق السياسي والاجتماعي … ).

تكمن خطورة ما تظهره أزمة التأليف الحكومي في المؤشرات التالية:

أ- نحن أمام شرخ بين واقع الديناميكيات الاوليغارشية القائم على التنكر للواقع التغييري الجارف الذي يجتاز البلاد والاغتراب اللبناني، والعمل على اعادة ترميم قواعد لعبة المحاصصة المعتادة بين اطرافها وخارجاً عن أي مقاربة للأزمات البنيوية التي تطرحها الحراكات المدنية على تنوع مصادرها. لم نر حتى الساعة طرحاً لأي من اطرافها يتناول مسألة التأليف الحكومي من زاوية العمل الاصلاحي ومقاربة الملفات المحورية (تحصين السلم الأهلي، استعادة الأموال المنهوبة على مدى ثلاثين سنة من حكم الطائف، معالجة ملفات السياسة العامة، والتحضير لانتخابات مبكرة تمهد لمجلس تأسيسي يضع الخيارات الناظمة للجمهورية الثالثة، فتح أبواب المشاركة المدنية والسياسية من خلال لجان العمل المتخصصة، والسلطات المهنية الناظمة، والتواصل بين لجان العمل النيابية والعمل المدني على تنوع مداراته… ).
ان اقتصار المشاورات بين أعضاء النادي المغلق الذي حكم البلاد منذ ثلاثين سنة من خلال تبعيات إقليمية محكمة، يؤشر إلى التشبث بالاقفالات التي وضعتها الاوليغارشيات حماية لتفردها، ولسياسات النهب التي انتهجتها، وللشبكات الزبائنية التي بنتها على حساب الكيان الموضوعي للدولة، ومفهوم وتطبيقات دولة القانون، والخير العام، والحقوق المواطنية والمدنية، والضوابط الدستورية والقانونية ومرجعياتها الميتا-قانونية (الشرعية العميمة لحقوق الإنسان) .

لقد تمت عملية تفكيك أوصال الدولة في لبنان منذ ثلاثين سنة لحساب مبان دستورية فارغة المضمون، ومستخدمة كغطاءات تضفي شرعية مزورة لعملية قرصنة المؤسسات الدولاتية من قبل اوليغارشيات الطائف المتعاقبة.
ان النمط التفاوضي المعتمد متماثل بكل جوانبه مع ارث مديد من التزوير والاستخدام المبرح للمؤسسات الديموقراطية التي امست اطرا فارغة وتابعة لمراكز القوى الحاكمة. ان كل ما جرى من تداول على السلطة على مختلف مواقعها لا يعدو كونه تسويات بين أعضاء النادي المغلق واوصيائه الإقليميين (الاوليغارشيات السنية والشيعية والدرزية وأوليائهم الإقليميين، سوريا، السعودية، ايران، وملحقاتهم في الأوساط المسيحية…).
ان العزوف الإرادي عن فتح المشاورات مع الحراكات المدنية، وفشل تلك في بناء روافع لعمل سياسي فعلي لمواجهة الاوليغارشيات المتحدة حول حماية وجودها وديمومتها ومصالحها، قد ادى بنا إلى حال المراوحة والتآكل الحاضرة مدغمة بأزمات بنيوية قاتلة.
الحراكات المدنية مدعوة إلى ايجاد تسويات فيما بينها حول أولويات سياسات انتقالية تحمي السلم الأهلي وتحول دون الانهيارات البنيوية، وتدفع بالسياق الاصلاحي على أساس وفاقات مرحلية ومتحركة.
ان الإبقاء على حيوية الحراك لا تنفي ضرورة صياغة تحالفات سياسية هادفة وعينية ومرحلية بين أطراف الحراك المدني الاتين من مشارب سياسية وثقافية مختلفة. ان منطق الإضراب المطلق هو منطق مدمر لذاته ومنطلق لخيارات عدمية تحفز العنف والنزعات التوتاليتارية التي عرفتها الثورات الكبرى.

-ب أما دور حزب الله في ترسيخ الواقع النزاعي المقفل فهو قائم منذ عقدين على قاعدة سياسة انفصالية شيعية مرتبطة بسياسات النفوذ الإيرانية المتحركة، وبالديناميكية الناشئة عن انفجار النظام الدولاتي الإقليمي، والدخول المبرح في سياق الصراعات السنية -الشيعية بمرتكزاتها السعودية والإيرانية والتركية والارهابية.
ان التحاق حزب الله باللعبة السياسية المحلية استنسابي ومصلحي وثنائي يعتمد اللعب على الهوامش القائمة بين نزاعات الخارج، وصيانة المصالح الريعية والحيازية والزبائنية في الأوساط الشيعية من خلال تقسيم العمل بين حزب الله وزعامة نبيه بري.
ان استمرارية هذا الواقع الازدواجي والعلاقة الاستنسابية مع البنية الدولاتية اللبنانية هو أساسي في تركيز الآليات النزاعية في الداخل والخارج ، وفي تثبيت واقع دولة الريوع والحيازات والشبكات الزبائنية، والحؤول دون أي عمل اصلاحي يعطي للدولة اللبنانية حيثية قانونية وسياسية وتدبيرية فعلية.
ان الاستمرار في هذا النهج سوف يؤدي إلى تبدد العقد الدولاتي والدخول في متاهات النزاعات الإقليمية المفتوحة.
لا بد من التذكير ان هوامش اللعب داخل التركيبة الدولاتية الحاضرة قد تلاشت، وها نحن أمام انهيار ما تبقى من هذه الدولة، ولعبة الفوضى الناشئة بمتاهاتها.
حزب الله وحلفاؤه متروكون لحساباتهم الاستراتيجية وتقدير هوامشهم بين تخوم الداخل المتداعي والخارج المتفجر والمفتوح على كل صراعات المنطقة.