د.فيليب سالم/عن الثورة اللبنانية التي لن تموت

86

عن الثورة اللبنانية التي لن تموت
د.فيليب سالم/08 كانون الأول/2019

من زمان، ونحن ننتظر هذه الثورة. ومن زمان نحن نقول إن الذين أخذوا لبنان الى قعر الذل، لا يُمكنهم ان يرفعوه الى قمّة الكرامة.

وكم قُلنا ان مسؤولية قيامة لبنان هي مسؤولية شعبه، مسؤولية المجتمع المدني فيه؛ إذ أن السلطة السياسية لا تُريده أن يقوم من “موته”. يومذاك قيل لنا إن ذلك حلمٌ، ذلك مستحيل.

فتعال وانظر كيف تحوّل “المستحيل” اليوم الى حقيقة تملأ ساحات المدن والقرى.

تعال وانظر كيف انشق اللبناني عن طائفته ومذهبه ومنطقته وزعيمه وتسلّق الى لبنان.

هذا هو لبّ القومية اللبنانية التي أؤمن بها. القومية التي أدعو الثوار الى اعتناقها.

تعال وانظر كيف انتفض اللبنانيون وتحوّلوا من رعايا مُهمَلين الى مواطنين ثائرين.

ها قد امتلأت الأرض بالثوار، وحتى الأطفال أصبحوا ثواراً.
وها نحن جئنا اليوم ننحني أمامكم، أيها الثوار، ونقول لكم: إن السماء تُبارككم والأرض تفتخر بكم.

ولكن دعونا أيضاً نُصارحكم بأننا خائفون عليكم. خائفون لأن كثيرين يتربّصون بالثورة. يريدون إخمادها. يُريدون اغتيالها.
أتذكرون كيف اغتيلت الثورات العربية؟

هذه الثورة هي فرصتنا التاريخية. حُلمُنا الأخير. ليس مسموحاً لهذه الثورة ان تُغتال أو ان تموت. من أجل ذلك جئنا للحوار والكلام معكم.
لقد تعلّمت من تجربتي في الطب، أنه لا يُمكنك الوصول الى أهدافك إن لم تكن لديك القدرة على المثابرة، بل الإصرار عليها؛ وإن لم تكن لديك القدرة على التمرّد. التمرّد كل يوم. التمرّد على الإحباط.

فالإحباط هو العدو الأكبر للثورة. الثورة تحتاج الى نفس طويل. وإيّاكم ان تخافوا الفشل؛ فالفشل هو قسمٌ من الطريق التي تأخذكم الى النجاح. والذين يخافون الفشل لا يُمكنهم صنع النجاح.
الفشل هو أستاذ كبير تتعلم منه، ثم تتمرّد عليه.
كنا ندعو، أيها الثوار، الى التمرّد من دون عنف. فعلّمتمونا شيئاً أعظم. التمرّد بالحضارة. وها قد أعطيتم العالم أروع نموذجٍ للثورة، الثورة الحضارية. لقد ذكّرتم العالم بان الحضارة كانت هنا، عندنا، في أرضنا، قبل ان تكون في أي ارض أخرى.

إن معنى لبنان العميق يكمن في حضارته. وقوة هذه الثورة هي الحضارة. لذلك جئنا نقول لكم أنه لا يجب المحافظة على الحضارة فحسب، بل يجب الإرتفاع بها الى أعلى.

فكلّما ارتفعنا بالحضارة ازدادت الثورة قوة، وكلّما انحدرنا بالحضارة ازدادت الثورة ضعفاً. إذا رشقوكم بالحجارة فارشقوهم بالورود. وإذا صرخوا في وجوهكم بالعداء فعانقوهم بالمحبة. ونطلب منكم ألّا تعملوا بما لا يليق بكم.

إن قطع الطرق وشلّ المؤسسات التي تُعنى بمصالح المواطنين وحاجاتهم يُضعفان الثورة. فالثورة هي من أجل الناس، من أجل المواطن العادي. وقدسية الثورة هي من قدسية المواطن. والرجاء احترام الآخرين، كل الآخرين. وعدم التشهير بالذين يخالفوننا الرأي.

نحن هنا لنضمّهم الى صدورنا ولندعوهم الى الطريق الصحيح، الى الإلتحاق بالثورة.

وفي الثورة تحتل القيادة المرتبة الأولى. فالقيادة تأخذ الثورة الى النصر، ودونها تذوب الثورة وتندثر. فماذا تبقّى من الثورات العربية؟ لقد تقهقرت ودُفنت لأنها كانت تفتقر الى القيادة الحكيمة، كما كانت تفتقر الى الحضارة.

نحن نحترم براءة الثورة وعفويتها، إلّاأان البراءة والعفوية وحدهما من دون قيادة لن تتمكنا من الوصول بنا الى أهدافنا. إن الطريق الى النصر طويل. وحدها القيادة الذكية تعرف الطريق.

فمن واجب الثوار اختيار قيادة تليق بالثورة، ونطلب من هذه القيادة ان تعمل على استراتيجية طويلة المدى. كما نطلب منها القيام بتنظيم دقيق لكوادر الثوار.

إن القيادة والتنظيم هما ضروريان لحياة الثورة ودونهما تنزلق الثورة الى الفوضى وتنطفئ.

ومن أولى مهمات القيادة تحديد أهداف الثورة. يجب ان تكون هذه الأهداف على مستوى الثورة؛ أقرب الى الحلم منها الى الواقعية الضيّقة. الأهداف الكبرى تبدأ دائماً بالحلم. هذه الأهداف يجب ان تكون تسلسلية، تدريجية، تبدأ بتأليف حكومة جديدة وتنتهي ببناء الدولة المدنية.

بين الحكومة والدولة المدنية مسار طويل يمر بوقف الهدر فوراً، واستعادة الأموال المنهوبة ومحاكمة الفاسدين، الى انتخاب برلمان جديد، وعملية إصلاح جذري لمؤسسات الدولة، الى بناء الدولة.

ثم فصل الدين عن الدولة وعن التربية، وفصل لبنان عن المحاور وتحييده، الى بناء الدولة المدنية. ليومنا هذا كانت الدولة دولة أزلام. فالموظف “زلمة” المدير، والمدير “زلمة” الوزير، والوزير “زلمة” رئيس حزبه، ورئيس حزبه “زلمة” أحد ما.

لم يكن هناك من هو “زلمة” الناس العاديين او “زلمة” لبنان. إن الأزلام لا يبنون دولاً. نريد أناساً يرفضون التزلّم لأحد إلّا للبنان. نريد سلطة من الأحرار.

ويجب الإسراع في انتخابات نيابية للاستفادة من المناخ الوطني الذي صنعته الثورة على أمل ان تفرز هذه الانتخابات جيلاً جديداً من السياسيين.

جيلٌ يؤمن بأن العمل العام هو مسؤولية وليس جاهاً. وهو خدمة الناس وليس التسلط عليهم. وان خدمة الناس لهي شرف كبير.

ونعود الى بناء الدولة، إذ أن هذا هو الهدف الرئيس والأساس للثورة، وليس هناك من هدف يليق بالثورة أقل من الوصول الى بناء الدولة، الدولة المدنية.

وعندما يتكلم رئيس الجمهورية عن الدولة المدنية فهو صادق إلّا أن بناء هذه الدولة يمرّ حتماً بإطاحة الطبقة السياسية التقليدية.

إن هذه الطبقة التي حكمت لبنان منذ الإستقلال لم تشأ قيام الدولة لأن قيامها يُهدد مصالحها ويُلغي امتيازاتها.

هذا وجهٌ من وجوه الفساد السياسي الذي بسببه كان الفساد المالي وتالياً كان الإنهيار الإقتصادي. وعندما نتكلم عن الطبقة السياسية، نحن نعرف جيداً ان هناك بينهم مَن لم يكن فاسداً ولكنه كان يعرف الفاسد.

كان يعرف الفاسد إلّا أنه اختار ان يبقى صامتاً. بصمته هذا كان شريكاً في الجريمة. جريمة اغتيال لبنان.

إن البعض قد يعتقد ان لبنان يُقاس بمساحته الجغرافية، أو بعدد سكانه أو بعدد عسكره.

إن لبنان يُقاس فقط بحضارته لأنه كيان حضاري قبل ان يكون كياناً سياسياً. وان كانت هناك من عظمة في هذا الشرق فهي في لبنان.
وحده لبنان من دول الشرق كلها هو رمز التعددية الحضارية ومعانقة الآخر.

وحده رمز انصهار حضارات الشرق والغرب في حضارته.
فهو في الجغرافيا مُكبّل في أرض الشرق، أما في الحضارة فهو يعيش في العالم.

كثيرون من أهله لم يعرفوه. كثيرون أهملوه، وكادوا ان يبيعوه. الى أن جاء الثوار فحرّروه ونفضوا غبار الموت عن وجهه.

* الدكتور فيليب سالم، طّبيبُ وباحث وكاتب وأستاذ جامعي ومستشار دولي، يحمل الآن مسؤولية ادارة “ساينت لوك”، المركز الطّبي الطّليعي في الولايات المتحدة لمعالجة السرطان.