إياد أبو شقرا: في لبنان الاستقلال للشعب والاحتلال للسلطة/سمير عطا الله: ثلاثة أعياد أحدها بلا فرح/حسين شبكشي: لبنان وفيروز استقلال وجمال

72

لبنان: الاستقلال للشعب… والاحتلال للسلطة!
إياد أبو شقرا/الشرق الأوسط/24 تشرين الثاني/2019

ثلاثة أعياد… أحدها بلا فرح
سمير عطا الله/الشرق الأوسط/24 تشرين الثاني/2019

لبنان وفيروز: استقلال وجمال!
حسين شبكشي/الشرق الأوسط/24 تشرين الثاني/2019

*****
لبنان: الاستقلال للشعب… والاحتلال للسلطة!
إياد أبو شقرا/الشرق الأوسط/24 تشرين الثاني/2019
كثرةٌ من اللبنانيين أسعدَهم، بالأمس، ما شاهدوه يوم ذكرى الاستقلال الـ76. لم يفاجئهم الاحتفال الهزيل الذي نظَّمته بقايا سلطة لا يجمعُها مبدأٌ ولا تتفِّقُ على رؤية، بل تفقد مع مرور كل يوم ما تبقى من مبرِّرات لوجودها. … بل، فاجأهم المشهد الاحتفالي الحقيقي الذي نظمه الشعب، وشارك فيه بمزيج نادر من الإصرار والفرح والثقة بالنفس. «عيد الاستقلال» الحقيقي كان ذلك الذي احتفل به «لبنان الناس»، لبنان الأمل والطموح ونظافة اليد وسلامة النيّات، بعيداً جداً عن دهاليز الصفقات و«زواريب» السمسرات وأقبية التآمر والتهديد والوعيد. وأنا كاتب هذه السطور، الذي عاش خارج لبنان منذ أكثر من أربعة عقود، تأكدتُ تماماً أنني ما عُدت أعرف اللبنانيين. صحيحٌ أنه كان لدي دائماً قدرٌ معيّن من الواقعية يذكّرني بأن أكثر من 65 في المائة من أبناء هذا الشعب ولدوا بعدما غادرت وطني الأم. وصحيحٌ، أيضاً، أنني من خلال حواراتي مع جيل الشباب من اللبنانيين كان يضايقني جداً ضعف ذاكرتهم – إن وجدت – واختلاف أولوياتهم… عندما يحلمون ويطالبون ويطلقون الأحكام العجلى. بل، صحيحٌ أيضاً وأيضاً، أنهم تربّوا في بلد يعيش حالة متطاولة من ضياعٍ ثقافي، وفوضى تعليمية، وحصار قضائي، ونفاق سياسي، وهشاشة اقتصادية… وكل هذا انعكس على شخصياتهم وأسلوب تفكيرهم.
كل هذا وأكثر…
على الرغم من هذا كله، أسعدني مشهد سحب الإنسان في لبنان اعترافه بطبقة سياسية أمعنت في إذلاله والمتاجرة به. لقد كان الفارق بيِّناً – إن لم يكن صارخاً – بين شعب يحب بعضه بعضاً، ولا تتسع أرحب ساحات البلاد لتعبيره عن نفسه بعدما تقاطر إليها من كل حدب وصوب، وسلطة تتبادل مكوّناتها الكراهية والمطامع، ولا تجتمع إلا على باطل المحاصصة وتقاسم النفوذ، والتكبّر على مَن هم تحت، واستجداء الرضا ممن هم فوق! عندما يقتنع الواحد منا، نحن أبناء العقدين السابع والسادس من العمر، بأننا نتمتع بـ«حكمة الشيوخ»… ونطالب الشباب – بشيء من الفوقية – بأن يتواضعوا و«يضعوا عقولهم في رؤوسهم»، فإن جزءاً من حكمتنا ناتج عن تكرار تجارب الفشل والإحباط، التي راكمت عندنا التردّد والحيطة… وأحياناً كثيرة… الجبن!
الشباب الذين فجّروا إبداعهم وعرضوا شجاعتهم وقلة تهيّبهم، أعلنوا بالأمس، بالفم الملآن أنهم «أبناء الحياة» في قلب بيروت. هؤلاء لن يخسروا شيئاً بشجاعتهم ولن يربحوا شيئاً بتردّدهم… وهذا بالضبط ما يفعلونه… بل ما فعلوه منذ نحو 35 يوماً. أغبطهم؟ نعم أغبطهم. أود أن أكون معهم؟ حتماً… أود أن أكون ضمن صفوفهم، رغم أن محاولة أمثالي إقناعهم بالإحاطة بكل جوانب محنة لبنان – في هذه المرحلة – ستبدو «سيفاً ذا حدين». أمرّ آخر، قد يكون تقنياً بعض الشيء، هو أن «الشيطان يكمن في التفاصيل». وسيكون مفيداً لشباب انتفاضة لبنان، الآن، بعد دخول انتفاضتهم شهرها الثاني – بكل ما اكتسبته من خبرات حوارية وميدانية – أن يبدأوا ببلوَرة تصوّر للاستراتيجية والتكتيك والأولويات المرحلية.
لقد أعطى عاملان اثنان الانتفاضة الشعبية زخماً عظيماً، أسهم في محافظتها على قوة دفعها:
العامل الأول، هو سوء تصرّف أهل السلطة ومواقفهم ومواقف وتصرّفات أتباعهم الاستفزازية. والعامل الثاني، إحجام الجيش – حتى تاريخه، لعدة أسباب موضوعية – عن القمع العنيف المباشر على الطريقتين السورية والعراقية.
هذان العاملان كانا مهمّين جداً بالنسبة إلى توفير متنفسٍ من الوقت للثوار كي يعرفوا ويختبروا بعضهم أكثر، ويتفاعلوا بصورة أفضل مع جمهورهم العريض الذي أعجب بالتزامهم ونقاء تحرّكهم. غير أن المحافظة على قوة الدفع تقضي بالسير أبعد، وإن بإيقاع أهدأ، والبدء بوضع أفكار عملية وعاقلة… ولو اعتبرها المتعجلون إبطاءً لتحقيق المنجزات المأمولة.
أقول هذا لأنني بتّ مقتنعاً أنه ما عاد لدى منظومة السلطة في لبنان اليوم، وتحديداً، «حزب الله» وتيار رئيس الجمهورية، من خيارات سوى ضرب الانتفاضة. وهذا ما ينضح من جانب «الحليفين» يومياً… سواءً عبر تهم «العمالة للخارج» والتخوين الممنهج، أو رفض بدء المشاورات النيابية المُلزمة من أجل تشكيل حكومة جديدة، أو الانقلاب الفعلي على روح «اتفاق الطائف» الذي بات جزءاً من الدستور.
«حزب الله»، الذي يقرّ علناً بتلقيه أمواله وسلاحه من إيران، يواصل كيل تهم «العمالة للخارج» للانتفاضة ولكل معارضيه. و«حليفه» رئيس الجمهورية مُصرٌّ على رفض الإسراع بتكليف شخصية تشكيل الحكومة، من منطلق إصراره على اضطلاعه شخصياً بمهمة التأليف… مع أن في هذا انقلابا صريحا على الدستور وتهميشا متعمّدا لموقع رئاسة الحكومة.
وعليه، أحسب أن بدء العمل على إنشاء تنسيقيات حقيقية – من دون اعتبارها «قيادة» للانتفاضة – بات مسألة ضرورية. فهي من ناحية ستلجم فوضى الاجتهادات، حتى تلك التي لا تخلو من النية الحسنة. ومن ناحية ستسقط من يد السلطة ورقة التلاعب والدسّ والتطويق وزرع العملاء…
إن خطر حرف الانتفاضة عن مسارها النقي احتمال يظل قائماً… طالما ظل موقف السلطة برموزها العلنية وقواها المستترة، كما هو. وهذا واقع يجب أن يظل في البال.
أيضاً خطر الغلو في أي مطلب والمزايدة في أي شعار موجود، سيستغلُّه أولئك الطامعون بجرّ المنتفضين إلى معاركهم وأزقتهم. على القيمين على الانتفاضة إدراك بضع حقائق عن أمراض لبنان المُزمنة، بجانب محنته الحالية، التي تبدأ ولا تنتهي بالاحتلال الواقعي عبر السلاح غير الشرعي. وفي طليعة هذه الحقائق أن الطائفية المتجذِّرة لا تلغيها النيات الطيبة والكلمات المعسولة، بل المؤسسات التي لا بد من بنائها من أجل التمهيد للقضاء على الطائفية، ابتداءً من البيت والمدرسة أولا… قبل الوصول إلى مرافق الدولة. ثم، إن من هذه الحقائق أيضاً الفساد، الذي بات «تهمة» يتراشق بها كثيرون من دون ربطها بالخلفيات التي تنتج الفساد وتحميه وتُمأسسه. بالأمس، كثرة من اللبنانيين الذين كادوا يفقدون الأمل في بلدهم استعادوا ثقتهم فيه، بقدر عودتهم للاعتزاز بانتمائهم إليه. لقد كانت الرسالة مشرقة: لبنان الشعب هو وطن الاستقلال، بينما لبنان السلطة وطن محتل… خارج الزمان والمكان والحسابات.

ثلاثة أعياد… أحدها بلا فرح
سمير عطا الله/الشرق الأوسط/24 تشرين الثاني/2019
مرت ثلاثة أعياد في لبنان، هي بالأولوية: عيد فيروز الرابع والثمانون، وعيد الاستقلال الوطني السادس والسبعون، والعيد الأول لخروج اللبنانيين على سياسة الفساد والخداع وغطرسة الخواء. في 11 يوماً من نوفمبر (تشرين الثاني) 1943، تنازلت فرنسا للبنان عن استقلاله. ومنذ قيام الثورة إلى اليوم، لم تستطع السلطة السياسية تشكيل حكومة توقف الانهيار الاقتصادي الذي يأخذ لبنان إلى هاوية الخوف والمجهول. الانتداب الفرنسي كان أكثر لياقة ورأفة وشعوراً بالمسؤولية.
ثلاثة احتفالات: الأول رسمي باهت خالٍ من الفرح، بلا ناس وجماهير وأغانٍ، والثاني اللبنانيون في الأنحاء والأرجاء والأفراح، في مسيرة واحدة، يهتفون لدولة ذات كرامة. والثالث فيروز، وحيدة بعيدة منعزلة من حولها الجبال والأودية والشطآن تغني: بحبك يا لبنان.
في هذا اليوم المثلث الأعياد، بدت الدولة في بلد آخر وشعب آخر. تملك السلطة، لكنها تتعثر بالشرعية. حكومة مستقالة، وبرلمان محاصر، ورئاسة يصعب عليها أن تصدق كل هذه الحشود في كل هذه الأمكنة، آتين مشياً على الأقدام إلى ساحات الرمز وميادين الثورة.
لا تصدق السلطة أن مرحلة طويلة مضت، ولم يعد لها مكان. الناس على الطرقات تسير نحو المستقبل، والسياسيون في الماضي، يبحثون عن الحصص والبقائيات، ويتحدثون لغة في قِدَم الهيروغليفية. لغة لم تعد تعني شيئاً لأحد، كلمات تصلح لما قبل هذه الثورة التي محت كل ما قبلها. هذه أول مرة يصدّر لبنان شيئاً غير فيروز والرحابنة والشعر والموسيقى والنسيم العليل. يصدر ثورة بلا عقائد وبلا خطابات وبلا تحريض وبلا غضب ولا أحقاد. ثورة فيها ورود وأطفال وأمهات، وفيها لبنان كما تمناه أهله، من دون تشوه السياسيين ووسائلهم وأساليبهم، وصدأ البلادة والتكرار.
كان الاحتفال الشعبي بالاستقلال يشبه فيروز؛ ناس فوق كل أنواع الشره الصغير، طالبو جمال ومحبة وكرامة واستقرار، يريدون من سياسييهم شيئاً واحداً: بلداً يولد فيه الناس، وفيه يعيشون، وفيه هناء الشيخوخة وسكينة المثوى. عندما قيل للسلطة إن المتظاهرين فاقوا المليون، قالت إن الرقم حسب إحصاءاتهم دون ذلك. هل كان ضرورياً أن تعيد العد من جديد؟

لبنان وفيروز: استقلال وجمال!
حسين شبكشي/الشرق الأوسط/24 تشرين الثاني/2019
ليس من باب الصدف أن يكون تاريخ عيد الاستقلال في لبنان مقارباً جداً لتاريخ ميلاد السيدة العظيمة فيروز. كل تاريخ منهما له دلالة عظيمة بالنسبة إلى لبنان. الأول دلالة الاستقلال والآخر دلالة الجمال. لبنان آخر وجديد يولد الآن، لبنان الذي لطالما بنته فيروز والرحبانية في المخيلة الفنية يجري تشكيله الآن. لبنان فيروز ظل مثالياً ومختلفاً عن الواقع السياسي الدموي القبيح. كان لبنان فيروز هو «الكرامة» و«الشعب العنيد» و«بيقولوا صغير بلدي، بالغضب مسور بلدي»، الأيقونة التي تحولت مع الوقت مع شجرة الأرز الشامخة إلى شعار لبنان الخالد. ترفعت فيروز في فنها على منغصات الطائفية والسياسة، فهي التي أبدعت في «غنيت مكة أهل الصيدا» وهي التي لم تنسَ أبداً «زهرة المدائن» و«شوارع القدس العتيقة»، وصدح صوتها بـ«شام يا ذا السيف لم يزل»، وأبدعت في «مصر عادت شمسك الذهب». لبنان فيروز مختلف وحالم ومثالي وهو شبيه بلبنان العبقري الفذّ الآخر جبران خليل جبران الذي قال عنه «لكم لبنانكم ولي لبناني». لبنان الذي خرج إلى عالم الاستقلال ببنية طائفية كرّست التفرقة وكان من الطبيعي أن تكون نتيجتها الحرب الأهلية الدموية المدمرة التي حصلت، والتقسيم الطائفي الذي كرّسه الاستقلال في لبنان كان «سابقة» خطيرة مهّدت لظهور تقسيم مشابه في دولة إسرائيل بعد ذلك، وبات مشروع «لبننة» المنطقة هدفاً في حد ذاته. اليوم هناك مشروع استقلال جديد يتم التظاهر لأجله في لبنان، هدفه هو الدولة المدنية بلا أي هوية طائفية تطغى عليها. قالت لي إحدى أهم الإعلاميات اللبنانيات في العالم العربي إنها الآن تعيش أجمل 37 يوماً في حياتها بشعور مزيج من الفرحة والعزة والفخر. مصرفيٌّ لبناني مرموق قال لي: «أريد لبناناً مدنياً ويمثل الكثيرين مثلي بلا طائفية، لبناناً لا يمكن أن يكون الوجه الذي يمثله هو طائفي إرهابي مثل حسن نصر الله». لبنان فيروز حالم وجميل، وهو كصوتها عالم ساحر وخيالي، وهو التحدي الأعظم الذي يواجه الثوار المثابرين في شوارع وميادين لبنان لتحويل هذا الحلم الجميل إلى حقيقة سياسية. فيروز قالتها: «في شي عم بيصير، في شي بدّو يصير»، كأنها توجه كلامها إلى كل لبناني آمَن بحلمها الجميل وبلبنانها الجميل: «عندي ثقة فيك».