علي الأمين/الحراك الجنوبي يصدّع الثنائية المتسلطة.. صور نموذجاً

69

الحراك الجنوبي يصدّع الثنائية المتسلطة.. صور نموذجاً

علي الأمين/جنوبية/17 تشرين الثاني/2019

الجنوبيون ليسوا بأفضل أحوالهم منذ زمن بعيد. يعيشون يوميات مقيتة في ظل قبضة حديدية تمارسها “طغمة ثنائية”، نصبت نفسها والية عليهم ووليّة أمرهم بالأصالة والوكالة.

تعتمل قلوب شريحة لا بأس بها من أهالي جبل عامل يوماً بعد يوم، ويكظمون غيظهم التاريخي من جراء التمادي في التهميش وسرقة لحظات حرية يستحقونها.

انتفاضة 17 تشرين الأول كانت نقطة التحولات العظيمة في كل لبنان،  وكان للحراك الجنوبي حصّة ودوراً  وحضوراً متمايزاً، بالتزامن مع الخصوصية الجنوبية التي سبقتها وتمثلت بالحدث، الذي يفترض أن يكون  ديمقراطياً، في قضاء صور وفي الجنوب عموما، هو الانتخابات النيابية الفرعية في قضاء صور،  الذي خلق حالاً من القهر والتململ.

فالانتخابات التي كان موعدها في 15 أيلول أي قبل شهر من انتفاضة صور في 18 تشرين الأول، لم تجر لأن أحداً لم يُقدم على الترشح في مقابل مرشح الثنائية الشيعية الحاج حسن عزالدين، أو بسبب انسحاب سيدتين ترشحتا في مواجهة عزالدين، مايا خضرا التي انسحبت وانكفأت بسبب ما نالها من اتهامات وتهديد وضغوط أعلنت هي نفسها عنها في رسالة صوتية مؤثرة، وانسحاب الثانية المحامية بشرى الخليل التي استجابت من “موقع الاعتزاز وبتأثر وطني وقومي ووجداني”، إلى طلب الأمين العام لحزب الله بالانسحاب من المنافسة مع “مرشح المقاومة”.

قهر الجنوبيين.. بالتزكية على هذا المشهد الدرامي انتهت الانتخابات بالتزكية وبفوز الحاج حسن عزالدين بالمقعد النيابي الذي فرغ باستقالة زميله ورفيقه في حزب الله النائب السابق نواف الموسوي، دراما الانتخابات وما رافقها من وجدانيات السلطة والمقاومة، رافقتها سوريالية لم يكن يمكن فهمها قبل انتفاضة 17 تشرين الأول، فالانتخابات وفوز مرشح الثنائية الشيعية، كان في الشكل مخالفا لقانون الانتخاب، باعتبار ان انسحاب  الخليل من السباق جاء بعد الموعد الأقصى المحدد قانونا لقيام المرشح بالانسحاب، ولم تجر عملية الاقتراع في خطوة مخالفة للقانون، بحيث الحقت بإعلان فوز عزالدين بالتزكية.

هذه الدراما والسوريالية عكست في حينه حجم الاطباق لدى الثنائية الشيعية على المجتمع، ذلك أن اشباع نهمهما للسلطة والاستئثار، لم يقتصر على سيطرتهما الكاملة على التمثيل النيابي الشيعي، ولا استحواذهما على التمثيل الوزاري، والتحكم بالإدارة العامة، وسيطرتهما الى حدّ بعيد على الأجهزة الأمنية والعدلية والقضائية، والمؤسسات العامة والبلديات، نهم السلطة احدث استعلاءً وصل الى الحدّ الذي ارادا فيه من المجتمع الانتخابي على وجه العموم، ان ينتقل من فكرة الاختبار الانتخابي المضمون في نتيجته لصالح الثنائية، الى عدم قبول بفكرة الترشح في وجه الثنائية، واعتبار الترشح في وجه مرشح الثنائية عملية تتسم بالخيانة أو التطاول على سلطة الثنائية الممتدة من الأرض الى السماء.

في المقابل لم يكن نبض الاعتراض ولا المجموعات المعارضة في الممارسة خارج هذا التسليم لمنطق الثنائية، سواء كان  طوعا أو كرهاً، هذا في الشكل ولكن في المضمون كان ثمة قناعة شبه راسخة لدى معظم هذه النخب الاعتراضية والمجموعات حولها، أن لا طائل من المواجهة طالما أن السطوة الأمنية والسياسية لدى الثنائية لن تتراجع عن قمع وشيطنة أي قوة معارضة لسلطتهما السياسية والإدارية، في ظل غياب فاضح لسلطة القانون ولمؤسسات الدولة المحايدة، وهذا ما كانوا خبروه في الانتخابات النيابية السابقة ٢٠١٨، وفي كل المحطات السياسية والمطلبية خلال اكثر من ربع قرن.

إحراق “إستراحة صور”.. رمزية النفوذ في 18 تشرين الأول وبالتزامن مع التحركات والاحتجاجات في بيروت وغيرها من المناطق اللبنانية، اختار المحتجون في مدينة صور النزول الى الشارع، واندفع بعضهم بشكل عفوي على ما أظهرت التحقيقات المسرّبة من قبل الأجهزة الأمنية، نحو استراحة صور، التي احرق بعض المحتجين جزء منها.

واختيار مبنى الاستراحة، كان لما يحمله من رمزية لنفوذ السيدة رنده بري، اذ ان الاستراحة في صور كانت تشكل في وعيّ الصوريين والجنوبيين على وجه العموم، نموذجا لكيفية استخدام السلطة من أجل المنافع الخاصة، وعلى رغم النفي الذي صدر لجهة علاقة السيدة بري باستراحة صور، لجهة استثماراً أو ملكية، فان رسوخ هذه العلاقة بصورتها المنفرة في وعي أبناء صور أمر لا يحتاج الى التدقيق أو التحقق.

على أن اللافت أنّ عملية المسّ برموز السلطة من خلال الشعارات أو الشتائم التي وجهها بعض المحتجين في صور، لم تصدر عن تلك الجهات أو النخب المعروفة بخصومتها مع الثنائية أو تجاه حركة أمل، ما كان لافتا في هذه الاحتجاجات أن معظم الذين تدفقوا الى الشارع، كانوا من الشباب الى جانب كونهم من البيئة التي تعتبر موالية للثنائية أو على الأقل ليس معروفا عنها ايّ اعتراض علني، وهذا ما اربك حركة أمل بالدرجة الأولى، باعتبار ان مدينة صور وقضاءها يعتبران معقلا أساسيا لحركة أمل والرئيس نبيه بري، على رغم التراجع في النفوذ لصالح حزب الله.

احراق استراحة صور عملية احراق الإطارات في مفاصل الطرق وعلى الاوتوستراد الساحلي في الجنوب، قام بها مناصرون لحركة أمل، ممن عبروا في خروجهم هذا عن غضب مكتوم، لم يستطيعوا تفجيره في مناسبات تنظيمية لحركة أمل (المؤتمر العام) ومنهم من جرى تهميشه ووقف رواتبه، وبالتالي شكل هؤلاء عنصراً مشجعاً للعديد من المواطنين الذين خرجوا الى الطرقات في اكثر من بلدة، كان من ابرز مؤشراتها حرق الإطارات في معظم التقاطعات الرئيسة في الجنوب وتحديدا في الفترة الممتدة بين 18 و20 تشرين الأول.

“الثنائية” تنقض على المحتجّين اندفاعة المواطنين في التعبير عن غضبهم ضد السلطة، واعتراضاً على سياسة الافقار وعلى البطالة وسوء الأوضاع الاقتصادية، كان ينطوي على انتفاضة يمكن وصفها بالداخلية في حركة أمل نفسها، واذا كان حزب الله اكثر تماسكا من الناحية التنظيمية، واكثر قدرة على افهام محازبيه حقيقة ما اعتبره مؤامرة على المقاومة، فان ذلك لم يمنع من تفلت بعض الذين يندرجون في اطار المناصرين له، لكن ذلك بقي محدودا، وان أحدث بعض الترددات لاسيما على مستوى بعض رجال الدين، ما لبث حزب الله أن قام بعملية امنية اجتماعية استطاع من خلالها الزام من خرج من رجال الدين معترضا على الحكومة وسياساتها الى العودة نحو منازلهم مع التزام الصمت.

من جهتها قامت حركة أمل في البداية وفي 19 تشرين بتنظيم تظاهرة مسلحة في صور قادها النائب علي خريس، لعب جزء منها دور البلطجية ضد المحتجين، فيما وصف النائب خريس هؤلاء بالعملاء للعدو وللسفارات، هذا السلوك من قبل حركة أمل استكمل بحركة اتصالات تضمنت تهديدات للمشاركين في الاحتجاجات، واغدقت الوعود على عناصرها المحتجين، بإعادة مخصصاتهم المالية وبتغيير في الأشخاص المسؤولين في مواقع حركية. وفي مقابل هذه الوعود تم طرد العديد من العاملين في مؤسسات خاصة وعامة، ممن شاركوا في الاحتجاجات، وتم تهديد أقرباء بعض المشاركين بالتضييق عليهم في حال لم يمنعوهم من المشاركة في الاحتجاجات، وساهمت وسائل الضغط هذه مع عملية الشيطنة للاحتجاجات في لجم الاندفاعة النسبية للمواطنين، لكنها لم تستطع ان تنهي مشهد الاعتصام في صور فضلا عن النبطية وكفررمان.

الحراك الجنوبي يصدع القوى المتسلطة الحراك الجنوبي ولا سيما في مدينة صور، احدث اهتزازاً قويا في بنية سلطة الثنائية الشيعية، بحيث بات من الثابت ان الجنوب قبل 17 تشرين هو غيره في 17 تشرين، المشكلة ليست في المجموعات التي تعادي السلطة او تتمايز عنها، بل في البيئة المجتمعية التي توصف بالموالية للثنائية الشيعية، فالانتفاضة الفعلية هي داخل حركة أمل وليس خارجها، بخلاف حزب الله الذي يتماسك تنظيميا ولا يتأثر محازبوه ماليا وهم مقتنعون بأن قائدهم السيد حسن نصرالله عند كلمته، حين يؤكد لهم أن الملاءة المالية لحزبه لن تتأثر لاسيما لجهة دفع رواتب المحازبين، لكن ذلك لا يلغي حقيقة تصدع العلاقة بين الحزب وبعض المؤيدين له في البيئة الشيعية، والتي اضطرته الى أن يصل الى التهديد وعلى طريقته الأمنية الى العديد من الناشطين، بل ثمة من وجّه رسالة اعتداء وتهديد من خلال ارسال مجموعة من البلطجية للاعتداء على احد رجال الدين الذي شارك في الحراك، وقرر هذا الرجل الدين بعد الإهانة الجسدية والتهديد أن يلتزم منزله.

تظاهرات النبطية الى غير ذلك من وسائل استخدمت في سبيل رفع كلفة الاحتجاج لدى الجنوبيين، وهو يعكس أسلوباً قمعياً لم يصل الى استخدامه في مراحل سابقة، وهذا لا يعني بالضرورة أن ليس لدى حزب الله من يتبعونه من دون سؤال، بل ثمة تاييد كبير له في البيئة الشيعية، لكنها تعاني من ارباك وظروف مختلفة عن أيام البحبوحة التي تبعت حرب تموز 2006 ، وهي باتت تنصت الى مايقال عن الفساد، وباتت تشير الى معنى العلاقة بين حزب الله والفاسدين، من دون ان تلامس اتهام حزب الله في هذا الجانب، ومن دون ان تقوى على الخروز من العزلة المجتمعية، قصارى ما يجيب عليه حزب الله هذه القاعدة هو ان المؤامرة مستمرة على المقاومة والسلاح، وأن على الناس ان تتحمل ضريبة الفساد في مواجهة المؤامرة، قد يبدو هذا الكلام غير مقنع لكنه يساعد على كظم الغيظ لدى بيئة حزب الله ضد الفساد والضيق المعيشي، الى جانب عنوان آخر يجري اعتماده في البيئة الشيعية، هو أن ما يجري في لبنان وفي العراق هو امر خطير يريد للشيعة ان يعودوا محكومين لا حاكمين.

مستوى الشعارات والمنطق الذي تروجه الثورة المضادة في الجنوب، بات يفتقد نفس القوة والفاعلية التي كان عليها في زمن الحرب على الإرهاب وإسرائيل، المشكلة أن الناس تعرف من يفسد ومن يسرق وقد تتسامح معه الى حين ولكن ليس الى الحدّ الذي تجوع، ويمكن ان تتقبل الكلام عن الطائفة الحاكمة، ولكنها تريد أن تلمس مكاسب الحكم من جهة، وان تصدق أن بقية اللبنانيين لاسيما ان اقرانهم من اللبنانيين المنتفضين هم فعلا لا يريدون دولة يسقط فيها الفاسد وينعم في ظلالها المواطن الشريف.