رسالة لحسن نصرالله موجّهة من المخرج يوسف ي. الخوري

3390

رسالة لحسن نصرالله موجّهة من المخرج يوسف ي. الخوري

28 تشرين الأول/2019

إسمح لي أن أكلّمك من دون استخدام أيّ لقب من ألقابك الكثيرة، لأنّ الأدبيّات تفرض عليّ أن أخاطبك بنفس العفويّة والأسلوب المباشر اللذَين استخدمتهما في اطلالتك الأخيرة لمخاطبة الشعب المنتفض.

كنت برفقة مجموعة من الأصدقاء نرتشف القهوة معًا حين اندفعت وسائل الاعلام المحليّة والأجنبية إلى نقل كلمتك يوم 25/10/2019. بدأتَ بتلاوة درس “الأَشيا” علينا عبر شاشة التلفزيون، لكنّ البعض منّا تابع نقاشاته الجانبيّة حتى انتفض أحد الحاضرين صارخًا: “سَمْعونا!… إذا مش هامِمْكن اللي بدّو يقولو حسن نصرالله، عالقليلي تسمّعوا وتعلّموا كيف بيعمُل build up لأفكارو، تعلّموا فن الـ communication!” وبالفعل، صمتَنا جميعًا وتوجّهنا بأنظارنا نحو التلفزيون مُنصِتين لحديثك. لم يمرّ على إملاءاتك عشرون دقيقة، وأنت لم تكن بعد قد دخلت صلبَ الموضوع، حتى علا في الصالون شخير أحدنا لدرجة أنّه شتّت انتباهنا عن كلامك، فنظرنا معًا نحو الشاخر، فإذا بصاحبنا الذي زجر في وجهنا مرغِمًا إيّانا على سماعك، قد ملَّ وانسحب من بيننا إلى قيلولة عميقة.

لم نتكوّم حول التلفزيون لسماعك إلّا اعتقادًا منّا بأنّ خطابك قد يشكّل خارطة طريق ترأب الصدع بين المنتفضين والنظام القائم، لكن في الحقيقة، تبيّن لنا أنّ الزمن قد سبقك على غفلة.
شابَت حديثَك أربعُ معضلات في الأساس، فكانت كافية للإطاحة بمحاولاتك التأثير على المنتفضين، إذ: لم تكن متجدِّدًا في خطابك؛ لا تزال جاهلًا لقوّة خصمك؛ جعلت من نفسك طرفًا في الأزمة القائمة؛ نسيت أو تناسيت أنّ بيتك من زجاج.

في خطابك غير المتجدّد:
توجّهت، يا حسن، إلى المنتفضين بنفس الأسلوب الذي تتوجّه به إلى جمهور حزبك، بينما هؤلاء الذين يفترشون ساحات لبنان اليوم منتفضين، يختلفون عن جمهورك، أقلّه لناحية تأليه الأشخاص والتحزّب الأعمى. إستلّهيت كلامك بسردٍ لأحداث انتفاضة الشعب منذ اشتعالها، وهو أمر لا فائدة منه لأنّ الكل يعرفه سواء من النقل المباشر على التلفزيونات أو من مشاركته في تحرّكات الشارع. ثمّ رُحتَ تملي علينا أخبارًا عن شواذ وانتهاكات يرتكبها المنتفضون بحقّ المواطنين، والتي، بغضّ النظر عن مدى صحّتها، تبقى أخبارًا قديمة – “بايتي” على قَوْل اللبنانيين – إذ سوّقها قبلك بأيّام “العونيون” بشتّى الوسائل. أضف إلى ذلك أنّك نطقت بنفس كلام الرئيس ورئيس الحكومة وكأنّ الضوء الأخضر لإطلالاتكم مصدره غرفة العمليّات نفسها.

في جهلك قوّة الخصم:
جيلان يفصلانك، يا حسن، عن هؤلاء المنتفضين، وكان يجدر بمَن حولك لفت انتباهك إلى أنّ التطويل في الكلام والاستفاضة في التحاليل لا ينفعان معهم، وأنّ عليك أن تخطف انتباههم بجمل مختصرة ومعبّرة من بداية الحديث. ألم تلاحظ كيف أنّهم يعبّرون بقليل من الكلام؟ كلّنا للوطن، كلّن_يعني_كلّن، هيلا هيلا هيلا هووووو… الجيش اللبناني منحبّو. هم جيل الـ Play station والعالم الافتراضي، عالم الـ Assassin’s Creed و الـ Call of duty والـ Runescape. بنظرهم، هم مقاومون أكثر منك؛ أنت مقاومتك سلبيّة هامدة ومحدودة، تقتصر على الإطلالات الإعلامية والتهديد بسبابتك من ملجأ أنت أسيره منذ سنين، بينما هم مقاومتهم إيجابيّة حيّة، إذ بكبسة زرٍ، ينتقلون افتراضيًّا من غرفهم ليضربوا أهدافهم من أقصى شمال الكرة الأرضية حتى أقصى جنوبها مرورًا بأفغانستان وإسرائيل وداعش. قوّتهم أنّ بمقدورهم رؤيتك، في حين أنك، ولغاية خطابك الأخير، ما زلت تطلب منهم أن يُعرِّفوا عن أنفسهم وكأنّك تنعتهم بالأشباح … نعم يا حسن، هم أشباح. في بيتي نموذج منهم، أترافق معه إلى السينما، نتشارك نفس مائدة الطعام ونسافر معًا … إنه إبني! هو أمامي طيلة الوقت، أراه لكنّي لا أعرفه، فكيف تعرفه أنت وتتواصل معه وتُملي عليه من حيث أنت قابع في ملجئك؟ كيف لرئيس البلاد أن يخاطبه وبينهما هوّة تصل إلى أربعة أجيال؟ ألوم المستشارين حولك وحول الرئيس، كيف أنّهم لم ينتبهوا إلى المسافة بين الزمن المتجمّد الذي تقبعان فيه مع الشلّة الحاكمة منذ عقود، والزمن الافتراضي الذي يتقدّم فيه شعب المنتفضين بسرعة الضوء. لن أخفي عليك سرًّا يا حسن، وأرجو ألّا تُزعجك صراحتي: حين بدأتَ خطابَك المتلفز، كان الشارع المنتفض في مكان، وحين أنهيت كلامك بعد ساعة، كان قد أصبح في مكان آخر بعيد. وبما أنّنا نتصارح، يجب أن تعرف أنّ السلاح لا يُخيف هؤلاء المنتفضين لأنّهم اعتادوا الموت كل يوم عشرات المرّات في عالمهم الافتراضي، كما اعتادوا أن يقوموا بعد الموت ليتابعوا من جديد. في بداية الانتفاضة، لاحظت أنّهم لا ينادون بنزع سلاحك غير الشرعيّ على غرار أخصامك الحزبيين، وظننت مخطِئًا أنّ ذلك مردّه لعدم اعتبارهم هذا السلاح قوّة في وجههم، لكن، بعد دخولي بينهم في الساحات وتحدّثي معهم، اكتشفت أنّهم حتى لا يعيرون “ترسانتك العسكرية التي ترعب إسرائيل” أيّ اهتمام لأنّها بالنسبة إليهم مجرّد خردوات بالية أكلَ عليها الدهر وشرب، إذا ما قارنوها بالتقنيّات الحربية المذهلة داخل عالمهم الافتراضي. وهذا جلّ قوّتهم!

في دخولك طرفًا في الأزمة:
لم يَكفِك، يا حسن، يا صديقي، أنّك وثبتَ إلى مخاطبة المنتفضين من حيث لا صفة تُخوّلك القيام بهذه الخطوة، بل انزلقتَ إلى التموضع كمدافع عن السلطة بخطواتها المرقِّعة للأزمة، وبالتالي جعلت من نفسك طرفًا في النزاع. بناءً عليه، فإن من حقّ المنتفضين، لا بل من واجبهم، التعامل معك كواحد من السياسيين المتّهمين، ومن واجبك ثني جماعتك عن التصرفات الميليشياوية في الشارع، إذ أنّ “زعرناتهم” ضد المنتفضين سلميًّا لا تُشرّفك ولا تُشرّف أيّ حزب إلهيّ.

أنا متفاجئ بأنّك ورّطت نفسك بالإعلان عن أنّ العهد لن يسقط وأنّك لا تؤيّد استقالة الحكومة، وفي نفس الوقت دعوْتَ المنتفضين، أصحاب شعار “كلّن يعني كلّن”، للتفاوضّ! أيّ تفاوض يا حسن بعد إعلانك موقفًا مُسبقًا؟! ما هذا التناقض يا أخي؟! وللأسف، لم تكن مقنعًا بحضّ المنتفضين على مفاوضة السلطة، بل كنت تدور حول نفسك عبثًا كحين يردّد ابن أخي ذو التسع سنوات “تيتو بيسلِّم عليكو، وعليكو بيسلّم تيتو …” لا تراهن على عجز المنتفضين عن تشكيل لجنة تمثّلهم، لأنّهم قادرون على هذا الأمر لو أرادوا ذلك! بينما السلطة التي تتولّى الدفاع عنها هي المُحرجة في هذا المكان، إذ ليس بمقدورها تشكيل لجنة موحّدة ذات رأي واحد لمفاوضة الناس، لأن أفرقاءها ليسوا على وِئام … لذا، فلتبدأ يا صديقي بلمّ شمل أهل بيتك قبل أن تُرشد المنتفضين.

في أنّك نسيت أنّ بيتك من زجاج:
أيُعقل، يا حسن، أنّك تناولت في حديثك قصّة حرق الدواليب وتسكير الطرقات وانزعاج الناس جرّاء ذلك؟! لم ينسَ أحد يوم اندفعتَ مع حلفائك “العونيين” وربطتم لبنان من جنوبه إلى شماله بحبل من الدواليب المشتعلة، إلّا إذا كنت تُريد أن تقنعني بأنّ دواليبكم عضوية غير مضرّة! وما هذا الأسلوب بالتخاطب حين تُبدي قلقك على معاشات الناس آخر الشهر؟ أنسيتَ حرب تموز وتقديرك الخاطئ الذي كلّف البلاد آلاف القتلى ومليارات الدولارات وحربًا دمّرت البلاد وشلّتها 33 يومًا؟ أنسيتَ اعتصامكم لسنة ونصف السنة في العاصمة حيث قضيتم على شرايين الاقتصاد؟ كيف تتجرّأ على اتهام جهات خارجية بتمويل الانتفاضة وأنت مئات الملايين من الدولارات تصلك سنويًّا من ايران؟ لا يا حسن لا، ما عهدتك يومًا، يا صديقي، تنزلق إلى هذا الدَرك من الإسفاف والارتباك والتناقض.

في المحصّلة، دَعْكَ من رهاناتك على أناس غير محبوبين من الشعب، وأرجو منك أن تقتنع منّي أنّ الزمن قد تغيّر وسبقك! صدّقني، هذا العالم الافتراضي الذي يسكنه شباب الانتفاضة يتحرّك بسرعة الضوء ومن الصعب أن تلتقطه راداراتكم، والبرهان أنّك قبل أسبوع واحد من الانتفاضة، كنت تلتقي كل مرشّح ماروني مُحتمل للرئاسة لسِتِ أو سبع ساعات متواصلة، ومعهم تجلس تخطط وتخطط وتخطط من دون أن يتمكّن جهاز واحد من أجهزتكم الوقائيّة المخابراتيّة من التقاط ذبذبة واحدة تنبئ بتحرّك المنتفضين.

نصيحتي الأخيرة لك، لا تحاول أن تُخيف هؤلاء الشباب من الانهيار الكبير أو الفراغ، فهم مُدركون أنّ أعمارهم الفتيّة تتيح لهم إعادة بناء الهيكل بسرعة، وإذا كان النظام القائم وأنت يا حسن تتخوّفان فعلّا من الانهيار الشامل والمصير المجهول اللذين قد يطرأان بسبب تمترس الشعب في الشارع وقطع الطرقات، فأنا أنصحكما: إنّ أسرع طريقة لإنهاء المُشكلة الحاليّة وسحب فتيل الفتنة هي الخضوع لمطالب الشعب الداعية إلى رحيل السلطة، ومن بعد ذلك دعوا الشعب يتكفّل بالباقي. فهذا النظام الذي تُدافع عنه يتكرّر بنفس الوجوه منذ ثلاثين سنة وهو غير قادر بعد اليوم على التطوّر!

عزيزي حسن، سأختصر لك الصورة بجملة واحدة: أنت والزمرة الحاكمة في وادٍ مغلق، بينما المنتفضون يتحرّكون بسرعة الضوء في فضاء فسيح وافتراضي، فكيف تحكمونهم بعد اليوم؟

بيروت في اليوم الحادي عشر لانبعاث الفينيق.