حنا صالح/بعد 14 سنة: بعض أبعاد اغتيال قصير وحاوي وتويني

181

بعد 14 سنة: بعض أبعاد اغتيال قصير وحاوي وتويني
حنا صالح/الشرق الأوسط/06 حزيران/2019

في الثاني من يونيو (حزيران) 2005، قبل 14 سنة، اغتيل في بيروت الكاتب والمؤرخ والأستاذ الجامعي سمير قصير، أحد أبرز المساهمين في اندلاع «انتفاضة الاستقلال».

جاء الاغتيال بعد أشهر قليلة على بدء الانتفاضة التي هزت النظامين الأمنيين في سوريا ولبنان، وساهمت في إخراج الجيش السوري بعد 38 سنة من الاحتلال المباشر، وبشرت بالعودة إلى الدستور واستعادة الجمهورية وقيمها؛ جمهورية الحريات وحقوق الإنسان والعدالة. كان قصير مسكوناً بهاجس إعادة الاعتبار إلى تراث جمهوري لبناني يمكن أن يؤسس لبلسمة جراح الحرب الأهلية، ويقطع الطريق على السلطة المخابراتية التابعة التي تأسست بعد الانقلاب على «الطائف»، وكان مسكوناً بهاجس التلازم بين ديمقراطية سوريا واستقلال لبنان، فكان السوط دفاعاً عن إرهاصات ربيع دمشق، فتزامن الاغتيال مع جهود حرّكها قصير لتشكيل جبهة عربية تدعم المعارضة والمعارضين السوريين بوجه تعسف النظام السوري.

بعد أقل من 3 أسابيع، في 21 يونيو اغتيل جورج حاوي، أحد رموز الحرب الأهلية، والرجل الذي أطلق في 16 سبتمبر (أيلول) 1982 جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)، التي قادت تحرير بيروت من الاحتلال الصهيوني، وحررت 75 في المائة من الأراضي اللبنانية المحتلة، قبل أن يُصادر العمل المقاوم ويتم ربطه بأجندة خارجية. وكان حاوي أول من بادر بعد الحرب الأهلية إلى إطلاق الحوار بين اللبنانيين المتخاصمين، لتحديد نقاط التلاقي والاتفاق على معالجة الاختلافات، فشقّ طريق التواصل بين بيروت الغربية والشرقية، ولاحقاً لم يكن بعيداً عن الانتفاضة، بل كان سبّاقاً في كشف ما يحاك لإجهاضها، وشارك في الانتخابات دعماً للوائح «14 آذار»، وهو الذي وقف في وداع سمير قصير يحمّل الأجهزة السورية المسؤولية عن الاغتيال، وليعلن أن «الخطأ هو في عدم ملاحقة القاتل»، في إشارة إلى أخطار وقف الانتفاضة لإجهاضها.

قبل أن يقفل عام 2005، اغتيل جبران تويني يوم 12 ديسمبر (كانون الأول). كان تحت رقابة لصيقة، عاد ليلاً من باريس واغتيل صباح اليوم التالي وهو متجه إلى مكتبه في «النهار». أُريد من الاغتيال وضع حدٍ لقلم بارز في معارضة الاحتلال السوري، فتويني صاحب القسم، جمع في كلمات بسيطة مكونات البلد، وشدد على الوحدة، وحدة المسلمين والمسيحيين دفاعاً عن لبنان. كان حاسماً في خياراته الوطنية، مؤثراً في الرأي العام، وفي الشباب خصوصاً، وعلى مدى سنوات حملت «النهار» الكثير من الهم الوطني، وخلال أشهر الانتفاضة كانت واحدة من الخلايا الناشطة لمد الانتفاضة بالكثير من عناصر نجاحها.

ليست الطائفة (الثلاثة روم أرثوذكس) هي أبرز ما يجمع بين قصير وحاوي وتويني، فالثلاثة يجمع بينهم تمسكهم بالخيارات الوطنية الصريحة. كانوا موحدين في السعي لكي يستعيد الناس السلطة، وهم مصدرها، حتى تقوم الدولة المدنية. رفضوا العسكرة والأنظمة العسكرية التي جثمت على المجتمعات العربية، ومنعتها من الترقي، واضطهدت المجتمع المدني، الذي تعرض لتواطؤ غير مسبوق، بين من شارك فيه الكثير من أشباه المثقفين الذين سخروا أقلامهم دفاعاً عن أنظمة قمعية!

بمعنى من المعاني يمكن القول إنه باغتيال قصير وتويني وُجِّهت طعنة كبرى لمستقبل لبنان والمنطقة، وباغتيال حاوي كان الهدف اغتيال ذاكرة لبنان وضميره. لكن هذه الاغتيالات تمت في سياق خطر، سياق يُذكّر إلى حدٍ ما ببعد اتخذه اغتيال كمال جنبلاط قبل بضعة عقود. المعنى أنه في بداية الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975، ظهرت نغمة «تحالف الأقليات» بوصفه ضمانة بوجه سيطرة الأكثرية وتسلطها على الدولة والمجتمع. رفض كمال جنبلاط هذا المنحى، وهو لم ينظر يوماً للبنان إلاّ بوصفه جزءاً من المزاج العربي العام، فكان إلى جانب عبد الناصر، وتماهى مع الثورة الفلسطينية، ورفض بحزم مشروع «تحالف الأقليات» الذي كان هاجس النظام السوري، فذهب لإطلاق الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية.

هذه النغمة عادت تظهر بقوة في عام 2005 وما بعده، كانت عنوان التحالف الذي رفعه الفريق «الممانع»، وترافقت مع ترغيب وترهيب وتدجين وكذلك «قناعة» متسلقين، وربما شكل تحالف «مارمخايل» بين «التيار العوني» و«حزب الله» أبرز تجليات هذا التحالف، الذي وضع في رأس المستهدفين جانباً مضيئاً من إرث تركه رفيق الحريري. ثم عادت النغمة إيّاها للبروز مع اندلاع انتفاضة الشعب السوري. ولا يخفى أن مشروع التحالف هذا تحول إلى نظرية رائجة تدعي أن هذا هو الطريق الذي يضمن مدنية الدولة، ويصدُّ الموجة الأصولية المتطرفة، والمؤسف أن هذا الطرح التفت حوله، إلى القوى السوداء الطائفية، أوساط ادعت اليسار والتقدم، وكانت تهلل للاقتلاع الديموغرافي وعمليات التوطين وتخريب النسيج السوري… وتلاحقت الأمثلة التي قدمها النظام السوري عن تهميش الكثافة السنية المدينية، واستتباع سنة الأرياف عندما منّ عليهم النظام بمواقع هامشية عموماً، وقدم نفسه كحامٍ للأقليات الذين كانت لهم مشاركة شكلية مقابل الخضوع والتأييد، وهذا ما رفضه كمال جنبلاط فقتل.

كتب سمير قصير، إبّان الانتفاضة الاستقلالية، أن «بيروت مدينة الرغد والدلع، أعطت القضية العربية احتضاناً لم تنله من أي عاصمة عربية أخرى، فأضحت وجع العروبة الصارخ، قبل أن تضع على صدرها وسام المقاومة، حين أصبحت المدينة العربية الأولى التي تطرد المحتل الإسرائيلي عنوة»، مضيفاً أنها في زمن الانتفاضة انتقلت إلى «اختراع الغد العربي»، وكان من بين الأمثلة «إعلان بيروت دمشق» الذي شكل رداً غير مباشر على أطروحة «تحالف الأقليات»؛ كان رداً وطنياً جامعاً وليس مجرد تجميع طائفي مضاد، لذلك كان رد النظام السوري عنيفاً فجرى اعتقال كثيرين ممن وقعوا الإعلان بتهمة تهديد الأمن السوري.

انتفاضة بيروت ذهبت بعيداً وشكلت النموذج النقيض لـ«تحالف الأقليات»، لذلك كانت الاغتيالات، وبينها قتل قصير وحاوي وتويني، بهدف مزيدٍ من تصحير البلد وتحنيط ربيع العرب كي لا يزهر في بيروت!