يوسف بزي: الأسد الأب تخلى عن الجولان.. والابن عن سوريا كلها

97

الأسد الأب تخلى عن الجولان.. والابن عن سوريا كلها
يوسف بزي/موقع سوريا/25 آذار/19

منذ التسعينات، أي عندما بدأ العالم يتعرّف على الإرهاب الذي تتبناه الحركات الإسلامية المتطرفة، ويتشابك النضال الفلسطيني معه، باتت قضية القدس والحق الفلسطيني بها موضع تساؤل وريبة في نظر العالم. فحمل الخمينية لراية القدس، وحمل تنظيم القاعدة وأخواته للراية نفسها، ونشوء حركات فلسطينية من النمط ذاته، تتبنى خطاباً من نوع “إزالة إسرائيل من الوجود”، بالإضافة إلى استحضار الحروب الصليبية وما شابه.. أفقد القضية الفلسطينية طابعها القومي – الوطني لصالح الطابع الديني، الذي لا يقبل بأقل من “القيامة” حلاً لمشاكل البشرية. وهذا لن يجد له تعاطفاً ولا تأييداً من أي جهة في الأرض.
قبل ذلك، وفي خطيئة مشابهة لتأييد مفتي فلسطين أمين الحسيني للنازية، تضامن الفلسطينيون مع أسوأ الرموز السياسية من أمثال معمر القذافي وصدام حسين.. ما أفقدهم أيضاً تفوقاً أخلاقياً تمنحهم إياه قضيتهم الوطنية المحقة. وفي أثناء “أوسلو”، قبله وبعده، نفذت تنظيمات فلسطينية سلسلة تفجيرات انتحارية في باصات وشوارع ومطاعم وساحات داخل إسرائيل.. نظر إليها العالم على أنها متصلة، مصدراً وغاية، بما يصيبه من إرهاب في مدنه. فاقترنت القضية الفلسطينية بأسوأ ما يصيب العالم، على الرغم من كونها واحدة من أنبل القضايا، كونها آخر قضية استعمار ظالم.
استغلت إسرائيل كل هذا، لترويج روايتها، بوصفها القلعة المتقدمة للدفاع عن “العالم المتمدن”. رواية تقول إن الفلسطينيين غير جديرين لا بتسليمهم القدس ولا بمنحهم دولة وحدوداً متاخمة لإسرائيل. وما ساعد السردية الإسرائيلية، أن الفلسطينيين أنفسهم، وحتى قبل اكتمال دولتهم الموعودة انخرطوا في “حرب أهلية” في غزة والضفة الغربية. فظهر الفلسطينيون وكأن هويتهم الوطنية غير مكتملة، أو أنهم شعب لم يكتب بعد عقده الاجتماعي – السياسي.
الأسوأ من ذلك، أن العرب الذين يتبنون القضية الفلسطينية، قدموا للعالم أمثلة لا يمكن معها
عندما جاء قرار ترمب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لم يواجه فعلياً أي متاعب. تماماً كما حدث عندما انقض أرييل شارون على اتفاق أوسلو وعلى مجمل “عملية السلام”
الانحياز إلى حقوقهم. فما بين الفشل التاريخي في بناء الدولة الوطنية، والديكتاتورية المتوحشة، والحروب الأهلية بطابعها الطائفي والمذهبي، تضاف إليها ممانعة راسخة للقيم المشتركة والمعولمة، وغياب أي نموذج سياسي وكياني يكفل حلاً للأقليات الإثنية والدينية، جعل من الصعب الركون لطروحاتهم في حل المسألتين اليهودية والفلسطينية.
على هذا، عندما جاء قرار ترمب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لم يواجه فعلياً أي متاعب. تماماً كما حدث عندما انقض أرييل شارون على اتفاق أوسلو وعلى مجمل “عملية السلام”، بعد الانتفاضة الفلسطينية المسلحة وسلسلة الهجمات العنيفة داخل أراضي 1948، ومن ثم مباشرته ببناء جدار الفصل العنصري الشهير.
الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، يرتكز على قناعة انعدام الأهلية العربية والفلسطينية، كما يستند إلى انتهاز بؤس الصورة العربية في العالم، التي يمكن إيجازها في مشهد “تنظيم الدولة الإسلامية” و”الدولة الأسدية”، وما يزين هذا المشهد من دويلات شبيهة، وحروب عدمية على كامل خريطتنا العربية، على نمط “الحوثيين” وشعارهم “الجذاب”: “الموت لإسرائيل، الموت لأميركا، اللعنة على اليهود والنصر للإسلام”. وأين؟ في معمعة بؤس قتال قبائل وعشائر وطوائف وعصبيات ثأرية، لا غور لها.
وبعد القدس، يأتي الآن دور الجولان المحتل. فقرار دونالد ترمب بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية عليه، لن يواجه عملياً سوى برفض لفظي على سوية رفع العتب. فالدولة السورية في عهد حافظ الأسد هي التي تخلت عملياً وبتعمد عن الجولان. كان الأسد الأب يعرف بيقين تام، أن العرض الوحيد المنطقي الذي يستطيع الإسرائيليون (والأميركيون، والعالم) تقديمه من أجل إبرام السلام، هو الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الجولان إلى “الحدود الدولية”، أي الحدود المثبتة في وثائق الأمم المتحدة. إصرار الأسد على أن يكون ذاك الانسحاب إلى خط وقف إطلاق النار قبل حزيران 1967، وهو خط عسكري وليس “حدوداً”، عنى أمراً واحداً: رفض استعادة الجولان. لأن الأسد الأب كان يدرك أن ثمن الجولان هو سلام ينهي “شرعية” نظامه القائمة على الحرب، وضمناً، ينهي شرعية احتلاله للبنان آنذاك.
إن مثال “لواء اسكندرون” هو أفضل دليل على الصفقة التي كان يريدها
أوغل بشار الأسد بالمعادلة التي أرساها الأب: أي ثمن مقابل بقاء النظام. ولا ننسى أنه في بداية الثورة، خاطب أركان النظام إسرائيل برسالة بالغة الوضوح: بقاء النظام ضمانة لأمن دولتكم
حافظ الأسد. لقد تخلى عن إسكندرون (مساحة 4800 كلم مربع، أكبر من الجولان بأربع مرات) باتفاق مع الدولة التركية لعدم تهديد نظامه، إضافة إلى تكفّله السيطرة على الأكراد. كان الأسد الأب يريد من الأميركيين والإسرائيليين أموراً كثيرة مقابل الجولان، وطالما أنهم رفضوا منحه إياها، فقد رفض الصفقة الخاسرة بالنسبة له: الجولان مقابل السلام.
سهولة تثبيت ضم الجولان إلى السيادة الإسرائيلية، متأتية الآن من أن لا وجود لسوريا (عطفاً على مقالتنا الأخيرة)، فقد أوغل بشار الأسد بالمعادلة التي أرساها الأب: أي ثمن مقابل بقاء النظام. ولا ننسى أنه في بداية الثورة، خاطب أركان النظام إسرائيل برسالة بالغة الوضوح: بقاء النظام ضمانة لأمن دولتكم. ولا ننسى أيضاً في بدايات الثورة، تلك المسيرات التي دبرها النظام نحو حدود الجولان، بما يعني أنه إذ يستشعر خطر سقوطه، فهو مستعد لتصدير أزمته إلى الحدود مع إسرائيل.. وهي اللعبة ذاتها التي يمارسها الآن بالشراكة مع إيران في جنوب سوريا.
السوريون أنفسهم، ورغم بقاء إسكندرون والجولان، بل وفلسطين، لها في وجدانهم الوطني والقومي، يشعرون أنهم خسروا بلدهم كله أصلاً، وربما يشعرون أن أهل الجولان كما أهل إسكندرون أوفر حظاً منهم، كناجين من المذبحة. فبشار الأسد، صوناً لبقائه منح سوريا كلها لروسيا وإيران وأميركا و”داعش”، واستباح دم شعبه بتوحش. فلا أرض محررة ولا شعب حر الآن في سوريا. يكفي القول إن عشرة ملايين سوري هم نازحون، كما لو أنهم ضحايا احتلال كامل الأوصاف.
قضية الجولان وقضية القدس، والقضية الفلسطينية والقضايا العربية المحقة والعادلة، تبنتها حركات وأنظمة ودعاوى هي في منطلقاتها ومآلاتها ليست سوى مشاريع طغيان وإرهاب وحروب أهلية وعداوة للعالم ولما هو حق وعدل، ما جعل تلك القضايا خاسرة، بل وسبباً لمظالم حلت بشعوبنا وكوارث أطاحت بمجتمعاتنا إلى حد توهم الخلاص بالاحتلال الأجنبي، على نحو تلك اليافطة الشهيرة التي رفعها أهل بلدة سورية طلباً للخلاص من البراميل المتفجرة: “نريد غزواً فضائياً..”.