سام منسى: تداعيات تلزيم الدور الأميركي على أمن الإقليم

46

تداعيات تلزيم الدور الأميركي على أمن الإقليم
سام منسى/الشرق الأوسط/07 كانون الثاني/19

يبدو أن السياسة الأميركية تزداد غموضاً وتعقيداً، وفقاً لما تشير إليه تصريحات أو تغريدات الرئيس دونالد ترمب، فيما يعد حالة غير مسبوقة في دولة عظمى لا تقتصر قيادة رئيسها على بلاده فحسب، بل تؤثر نتائجها ومفاعيلها الحادّة في مصائر شعوب أخرى وموازين القوى في أكثر من منطقة بالعالم، منها الشرق الأوسط.
وأول ما يتبادر إلى الذهن لدى حلفاء واشنطن، هو مدى إفادة خصوم واشنطن من هذا الغموض، لا سيما عندما يصدر عن الرئيس ترمب كلام مصيري حول مناطق النزاع في المنطقة، واصفاً إياها بأنها «أرض الرمل والموت»، أي لا مصالح حيوية فيها وليست جديرة بالتضحيات الأميركية.
بعد مضي عامين ونيف على دخوله البيت الأبيض، علمتنا التجربة أنه لا ينبغي التوقف أمام كل تصريح يدليه ترمب، وجعلتنا ندرك مدى صعوبة تفكيك كلامه أو إيجاد أي رابط مقنع بين تغريداته البرقية. إنما الموضوعية تقتضي منا أولاً البحث في كلامه عما يكون قد أصاب فيه رغم تداعياته على قضايا منطقتنا، وثانياً الإشارة إلى أن جذور بعض من قراراته في سياسة سلفه الرئيس باراك أوباما، لا سيما فيما يتعلق بالتحول نحو آسيا واعتماد مبدأي القيادة من الخلف في الشرق الأوسط وتنصل أميركا من النزاعات الناشئة وتفويض إدارتها، كما حصل في ليبيا وسوريا.
هذه السياسة التي امتدت على مدى عقد من الزمن تجد صداها لدى قاعدة ترمب الشعبية وبعض النخب المحيطة به التي ترى في «التحصن القومي» والطلب من الحلفاء تحمّل قسط من العبء الأميركي عوضاً عن الانخراط الرمزي، السبيل الآمنة لوقف استنزاف أميركا.
أمام التذبذب والفوضى في المواقف من جهة والمسار الاستراتيجي الثابت بين الإدارتين تجاه الشرق الأوسط من جهة أخرى، كيف لحلفاء أميركا التصرّف لتحصين أنفسهم من تبعات سياستها، خصوصاً السعودية والإمارات والأردن؟
في الواقع، لا يمكن وصف مواقف ترمب عامة وتلك المتعلقة بالمنطقة خاصة إلا بسيل كلامي متلون ومتقلب ومتناقض.
بالنسبة إلى إيران مثلاً، لا يرى خطراً في تمددها في سوريا والعراق ولبنان ويعتبر أن نظام ولاية الفقيه مأزوم والاقتصاد الإيراني منهار والمظاهرات تتوالى، موحياً أن الجمهورية الإسلامية تصارع للبقاء ليس إلا. ونسمعه من جهة أخرى يقول إن سطوة إيران في سوريا بلغت مبلغاً يجعلها قادرة على فعل ما تشاء فيها.
بالنسبة لموقفه من أكراد سوريا، لا سيما قرار انسحاب القوات الأميركية من البلاد الذي لا يمكن وصفه إلا بالتخلي عنهم، فعلى الرغم من أن انخراط أميركا في الحرب السورية كان منذ الأساس متردداً وأن الرأي العام الأميركي لا يدعم الانخراط العسكري في نزاعات المنطقة، اضطر الرئيس الأميركي إلى مراجعة موقفه ولو جزئياً، حيث مدد مهلة الانسحاب من شهر إلى نحو أربعة أو خمسة أشهر.
وأصدر ترمب كثيراً من البيانات منذ إعلانه الانسحاب، خلقت التباساً حول تعهده بسحب القوات الأميركية من سوريا، إذ بدا أنَّه يتراجع عن وعده يوم 31 ديسمبر (كانون الأول)، حين قال إن إدارته «ستعيد قواتنا إلى الديار ببطء»، لكنه مع ذلك لم يتطرق للموعد المحدد لإتمام عملية الانسحاب. وكرر ترمب يوم الأربعاء 2 يناير (كانون الثاني) رغبته في حماية الأكراد في سوريا، وهو بيان غامض آخر يفتح الباب أمام البنتاغون للتلكؤ في تنفيذ عملية الانسحاب، كما طالب الرئيس إردوغان بضمانات حول مصير أكراد سوريا.
وجاءت هذه المراجعة نتيجة لأسباب عدة؛ أهمها امتصاص نقمة عارمة عليه خصوصاً في أوساط حزبه الجمهوري، وتخوف القادة العسكريين من أن يكون الانسحاب مسيئاً إلى قوة الروح الأميركية ومحفزاً لعودة «داعش» وتشجيعاً للتمدد الإيراني.
وبدأت تبعات قرار ترمب تظهر في سوريا وهي تصب في مصلحة النظام السوري وحلفائه، لا سيما إيران وروسيا. فمن جهة، أعلن الجيش السوري أنه دخل مدينة منبج التي يسيطر عليها الأكراد في صفقة واضحة معهم، وهم الذين يبحثون عن حلفاء جدد وحماية ضد هجوم تركي محتمل، وقد نشهد في نهاية المطاف تحالفاً بين قوات سوريا الديمقراطية وقوات النظام بما يصب في مصلحة الطرفين. من جهة أخرى، قد يضعف الانسحاب الأميركي رغبة روسيا وإيران في استرضاء تركيا، إذ إن موقف موسكو المهادن لإردوغان لم يكن منذ الأساس مدفوعاً إلا برغبتها في حرمان الولايات المتحدة من حلفائها المحليين.
وينسحب التذبذب على الموقف من النظام نفسه، إذ يبدو أن المجتمع الدولي وعلى رأسه القوى الغربية وبعض القوى العربية تعيد لبشار الأسد شرعيته المفقودة بفعل دماء السوريين التي سالت ليسلم رأسه.
قد يكون فيما استعرضناه آنفاً تكراراً، ولعل في التكرار إفادة، خصوصاً إذا كان المقصود منه ليس محاولة فهم ما يدور في كواليس واشنطن وحسب، بل أن يبنى عليه عربياً لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه في المنطقة. والثقل هنا يقع على كاهل السعودية ومصر والإمارات، والمطلوب اليوم نوع من التكاتف بينها لتكوين حاضنة عربية راشدة ورشيدة تجهد للتفاعل مع السوريين وهم يشعرون بالقلق حيال مستقبلهم ويتداولون في مجالسهم كوابيس تنتابهم تندرج من الأسوأ إلى الأكثر سوءاً.
إن الدبلوماسية السعودية – المصرية – الإماراتية قادرة على الدفع باتجاه حماية سوريا واحتواء وضعها وإعادة الوئام إليها من جهة، وإنقاذ ما تبقى من ماء الوجه العربي في سوريا وغيرها من الإقليم من جهة أخرى.
أما مصداقية أميركا في المنطقة والعالم بأسره، فهي اليوم على المحك وقد تندثر إذا تخلت عن شريكها الفعلي والفعال الوحيد في سوريا، ما يحتم ضرورة حماية حلفائها على المدى القصير، وتأمين مستقبل أكثر أمناً على المدى المتوسط للأكراد السوريين وشركائهم المحليين.
إنما يبقى الانتباه والوقاية من النتائج التي قد تتأتى عن إسناد دور أميركا في سوريا إلى الخارج إلى تركيا أو إسرائيل مثلاً، سواء في احتواء التوسع الإيراني، أو التعامل مع النفوذ الروسي، أو إزالة بقايا «داعش»، أو مواجهة الأسد على أمن واستقرار الإقليم، وأن تكون زيارة وزير الخارجية للمنطقة للتشاور وليس للتبليغ.