علي الأمين/ثنائية الدولة-الدويلة أمام الحقيقة اللبنانية القاتلة

66

ثنائية الدولة-الدويلة أمام الحقيقة اللبنانية القاتلة
علي الأمين/العرب/26 كانون الأول/18

يدخل لبنان من معضلة إلى أخرى، فالحكومة لم تتشكل منذ سبعة أشهر بسبب عقد وعراقيل تتصل بالحصص والمحاصصة الحزبية والسياسية داخل الحكومة في الشكل، وعراقيل ذات أبعاد سياسية محلية وإقليمية في المضمون. لبنان الذي يبدو أن الصراعات الطائفية والحزبية هي جوهر الصراع القائم فيه، يغيب عن بعض المراقبين ما يمكن أن يسمى العلة الفعلية للحكم والسلطة. هناك سلطة ظاهرة وشكلية تعبر عنها المؤسسات الدستورية والسياسية لكنها ليست سلطة فعلية، كتلك التي يمكن أن نسميها سلطة خفية هي من يدير ويتحكم ويوزع المغانم والأعباء ويحدد الخطوط الحمراء والصفراء والخضراء التي على أساسها تمارس الحياة السياسية، وهي الخطوط التي تسمح بتجاوز الدستور وتهميشه، كما شهد لبنان ذلك منذ الوصاية السورية التي أدارت عملية تطبيق الدستور بما تقتضي مصالحها وأتاحت فرض أعرافها، كما وفرت شروط خرق الدستور والقانون، إلى مرحلة انتقال الوصاية للطرف الإقليمي الإيراني ممثلا بحزب الله.

من مظاهر خرق الدستور قوانين الانتخابات التي جرت صياغتها بما يخالف الدستور، من حيث اعتماد دوائر انتخابية متفاوتة بين منطقة وأخرى، بما يتناسب دوما مع مصالح السلطة الخفية والفعلية، ففي نفس القانون جرى اعتماد دوائر صغرى في منطقة ودوائر كبرى في مناطق أخرى.
في مجلس الوزراء جرى ترجمة المشاركة في الحكم التي أقرها اتفاق الطائف، إلى صيغة تقاسم الحصص والمنافع وتحويل المؤسسات الوزارية والأمنية والعسكرية إلى ملكيات سياسية لهذا الطرف أو ذاك بما يحول دون وحدة السلطة ودون التوازن بين المؤسسات الدستورية، في سياق النظام البرلماني الذي يقوم النظام اللبناني على أساسه؛ إلى غير ذلك من التمديد غير الدستوري لرئيس الجمهورية، وتشكيل الحكومات بما يلغي وجود حكومة ومعارضة، ونقل الصراع إلى داخل مجلس الوزراء بما يحول دون محاسبة الحكومة في البرلمان بحيث تحرص السلطة الخفية على عدم قيام المؤسسات الدستورية بواجبها، في سبيل الإبقاء على سهولة تحكمها بميزان القوى الذي تديره بعيدا عن الدستور.

هذه المظاهر من إدارة السلطة بقوة السلطة الخفية، أطلقت العنان لكل التجاوزات التي كان معيار حمايتها، هو التسليم بغطاء السلطة الخفية وليس بمرجعية الدستور والقانون، فطالما أن هذا الطرف السياسي أو ذاك لا يخل بشروط سلطة حزب الله، الذي يمثل ويعبر عن السلطة الخفية هذه، فلن يتعرض لأي مساءلة أو محاسبة مهما بلغ تجاوز هذا الطرف أو ذاك للقانون، ومهما تورط بالفساد، بل يصبح ديدن السلطة الخفية هو توريط الجميع بملفات الفساد لكي تتحول إلى وسيلة سيطرة على مرتكبها وتحكم بمساراته السياسية ومواقفه، فيصبح أكثر طواعية، بل يتحول في بعض الأحيان إلى قوة إرشاد للسلطة الخفية من أجل المزيد من إضعاف الدولة وإظهار هشاشتها، باعتبار أن ذلك يشكل غطاء للسلطة الخفية وللدويلة التي قامت واستمرت بقوة شعار غياب الدولة.

لبنان اليوم أمام مفترق طرق. وبات من الصعب الاستمرار بهذه السياسة المدمرة للدولة وللاقتصاد، التي جعلت خزينة الدولة أمام عجز دائم ومتراكم وصل بالمديونية العامة إلى رقم يتجاوز المئة مليار دولار. وإزاء غياب أي فرصة جدية أو ممكنة، في ظل معادلة ثنائية السلطة الخفية والسلطة الشكلية، للحدّ من النزيف المستمر في مالية الدولة واقتصادها، فإن الانهيار هو الجواب الفعلي لما ينتظره لبنان في المقبل من الأشهر القريبة. هذه الحقيقة الواقعية عن المخاطر الكبرى التي يعيشها لبنان، هو ما يردده كل المسؤولين ويعرفه حزب الله من دون الحاجة إلى إقناعه. أضحى يعرف من أسرار الدولة وحقيقة أوضاعها ما لا يعرفه حتى الراسخون في الدولة العميقة، فهو كان من أبرز الساعين إلى تعليق الدولة وتهميشها، لأسباب تتصل بدوره ونفوذه وحسابات إقليمية شاءت إيران أن تستثمرها انطلاقا من لبنان.

واقع الحال اللبناني اليوم يكشف عن إرباك لدى السلطة الخفية، فالسلطة الشكلية سلمت مقاليدها لها منذ سنوات، وتتعامل مع الحكم باعتباره فرصة لجني المنافع من دون تحمل أي مسؤولية، وإلى المحاصصة من دون النظر إلى الأثقال التي تقع على كاهل الدولة وخزينتها الفارغة إلا من تراكم سندات الدّين.

السلطة الخفية المتمثلة بحزب الله، تدرك أنها باتت أمام مفترق ومفصل تاريخي، فإما أن تذهب بعيدا في لعبة سقوط الدولة، وبالتالي ستكون أمام تحدي الكشف عن مشروعها البديل عن ثنائية الدولة-الدويلة بعدما انتهت مدة صلاحية هذه الثنائية، وإما التسليم بشرط الانضواء الكامل بمشروع الدولة وعلى قاعدة لبنان أولا، لا إيران ولا طهران ولا اليمن ولا غيرها من الدول والعواصم التي طالما استثمر حزب الله كأداة إيرانية، مشاريع كانت تداعياتها وبالا على لبنان الدولة والكيان. ما يجري في لبنان اليوم، سواء الأزمة الحكومية، أو على صعيد استفحال الفساد أو ضعف الدولة، وإزاء التحركات التي بدأت تظهر في الشارع، كتعبير عن اختناق فئة كبيرة من اللبنانيين من الناحية الاقتصادية وإزاء ازدياد البطالة والفقر، ولا سيما في البيئة الحاضنة لحزب الله، كل ذلك وغيره من التصدعات الاجتماعية والاقتصادية، مرشح لأن يزيد من إرباك السلطة الخفية.

المرتقب في لبنان، هو المزيد من مظاهر الاحتجاج والخروج على القانون. والتحركات الجارية في الشارع، التي تفتقد إلى قيادة في ظل عملية تطويع معقدة لكل النقابات والأحزاب والقوى التي تقدم نفسها على أنها معارضة لسياسة السلطة، مرشحة لأن تتحول إلى قوة احتجاج غير محسوبة النتائج، فيما بدأ حزب الله الذي نجح بأن يتغطى كسلطة خفية وراء السلطة الشكلية، أمام مرمى هذه التحركات التي وإن كانت تتناوله بخجل. إلا أن الملاحظ في هذه التحركات، التي تدين كل أطراف السلطة، هي أنها تستعد لأن ترفع صوتها وتصوب سهامها هذه المرة بوضوح على حزب الله، طالما أن الأخير لا يزال يتوهم أنه قادر على لجم الشارع وقمعه باسم السلاح ومقاومة الاحتلال التي صارت في برنامج حزب الله وأولوياته الإقليمية ماضيا لا حاضر له.