كلمة الدكتور فارس سعيد خلال افتتاح خلوة سيدة الجبل

268

كلمة الدكتور فارس سعيد خلال افتتاح خلوة سيدة الجبل

27 شباط/16

نجتمعُ اليوم في إطارِ سيدة الجبل من أجلِ المساهمة في إعادةِ تحديدِ الخيارات اللبنانية بوجهٍ عام والمسيحية بوجهٍ خاص، في ظلِ المتغيرات الهائلة والنوعية التي تفرضُ نفسَها علينا جميعاً.

تتطلّبُ هذه المهمة درجةً عالية من الرصانة السياسية والوضوحِ في قراءةِ الأحداث السياسية والشجاعة في تحديدِ الخيار.

ليستِ المرة الأولى التي نواجهُ فيها تحدياتٍ مصيرية. وقد تعلّمنا من أسلافِنا أنّ منعطفاتِ التاريخ الكبرى، كالتي تحصلُ اليوم، لا تهادنُ مجتمعاتٍ مفككة ولا كياناتٍ مترددة.

بين العام 1917 و1920 حصلت منعطفات في العالم نلخصُّها بالتالي:

نهاية السلطنة العثمانية.

بداية الإنتدابِ الفرنسي – البريطاني على المنطقة.

وعد بلفور بإنشاء دولةً ملجأً لليهود على أرضِ فلسطين.

قيامُ الثورة البولشيفية التي مهّدت لقسمةِ العالم إلى معسكرين أيديولوجيين.

وفي ظلِ تلك المتغيرات الهائلة، تميزت الكنيسة المارونية بالمطالبة بإنشاءِ دولةِ لبنانَ الكبير بشراكةٍ مع المسلمين. هذا الخيار الذي تغلّبَ على خيارٍ آخر لدى بعض المسيحيين والفرنسيين بإنشاء لبنان “وطناً ملجأً لمسيحيي الشرق”.

أبرزُ متغيراتِ اليوم هي التالية في تقديري:

1.بلورةُ نظامٍ عالمي جديد بزعامة الولايات المتحدة يرتكزُ على نظامٍ اقتصادي ومالي وسياسي وعسكري وقضائي في إطار عولمةٍ متسارعة. كما يعيشُ العالمُ اليوم ثورةَ اتصالاتٍ وتواصل غير مسبوقة تجعلُ منه قريةً صغيرة على شبكاتِ التواصل الإجتماعي.

2.فشلُ النظامِ العربي الذي أعقبَ مرحلةَ الإنتدابات الغربية، ثم قيامُ دولةَ إسرائيل، في توفيرِ الاستقرار والتنمية المستدامة لمعظمِ الكيانات الوطنية الناشئة. فقد تميزَ هذا النظام في كثيرٍ من مواقعه بقيامِ سلطاتٍ إستبدادية عسكرية حاربت شعوبَها بكفاءة، وحاربَت اسرائيل بأشكالٍ ملتبسة، مع احترامِنا لتضحياتِ الجيوش العربية. ولعلَ الفشلَ الأكبر يتمثلُ في عجزِ الحكومات المتعاقبة عن بلورةِ أطروحةٍ واضحة لنظامِ المصلحة العربية المشتركة وسبلِ تحقيقه، وتالياً لحمايةِ هذا النظام وسطَ تدافعِ أنظمةِ المصالح الإقليمة والدولية المختلفة (النموذج النقيض هو تجربة الإتحاد الأوروبي الحديثة).

3.بروزُ تياراتٍ إسلامية متطرفة، تتراوحُ ما بين قيامِ دولةِ ولاية الفقيه ودولةِ الخلافة، مع لجوء هذه التيارات إلى عنفٍ متنقّل وفائضٍ عن حدودِ المنطقة العربية، مما شوّهَ صورةَ المنطقة وساهمَ في بروزِ تيارٍ معادٍ للإسلام في الغرب أو ما يسمى بـ”الإسلاموفوبيا”، وبروزِ تيارِ آخر تكلّمَ عنه البابا فرنسيس خلالَ زيارتِه إلى تركيا مؤخراً، “الكريستيانوفوبيا” – وهو تيارٍ معادٍ للمسيحية بوصفها – في نظره – حاضنة للنظامِ العالمي المعادي لقضايا العرب والمسلمين العادلة، مثلَ قضية فلسطين وقضية الشعب السوري.

4.دخولُ الإسلامِ كمكوّنٍ إجتماعي وسياسي وانتخابي إلى أوروبا، وهو عاملٌ مؤثّر على ديموقراطيات الغرب. وقد بدأت معالمُه تبرزُ مع توالي الإعتراف بدولة فلسطين من قبل البرلمانات الأوروبية بهدفِ تبريد العلاقات مع مسلمي أوروبا. هذا مع قناعة أوروبية متزايدة بأن مفتاحَ الاستقرار في الشرق الأوسط إنما يكمنُ في إنجازِ “حلّ الدولتين”، مع رفضٍ لاقتصار الدور الأوروبي على التمويل من دونِ فعالية سياسية تقريرية في هذا الشأن.

5.بروزُ تيارٍ مدني واعد، مع انتفاضات “الربيع العربي” السلمية، لا سيما في تونس ومصر واليمن، وخلال السنة الأولى من انتفاضة الشعبِ السوري. وقد تمثّلَ هذا الأمر بدخولٍ قوي لفئتيّ الشباب والمرأة على الحراك التغييري الإصلاحي. ولئن أُصيبَ الطابعُ المدني السلمي بانتكاساتٍ خطيرة في سياق ما سمّي “الربيع العربي”، إلا أن المكانة المعتبرة التي بات يتمتّعُ بها شعارُ “الدولة المدنية” في منظومة شعارات الإصلاح، وفي مقابل مفهوميّ “الدولة الأمنية” و”الدولة الدينية”، تؤشّرُ (هذه المكانة) إلى تطوّر نوعي بالع الأهمية.

6.محاولةُ قوى إقليمية غير عربية التحكّم بقرار المنطقة: اسرائيل- التي تدّعي احتكارَ الديموقراطية في المنطقة وتحاولُ أن تكون امتداداً للغرب في أرض الشرق، تركيا- التي تقدّمُ نفسَها قوة إقليمية إسلامية قادرة على التفاعل مع العرب وفي الوقت نفسِه قادرة على التفاعل مع النظام العالمي الجديد، وايران- التي تمددت بنفوذِها حتى وصلت إلى البحر في غزة وبيروت مروراً بعواصم اليمن والعراق وسوريا.

7.دخولُ روسيا بقوة على خط النزاع الاستراتيجي في المنطقة العربية وعليها. ويتميزُ هذا الدخول في المرحلة الراهنة بكونِه محمولاً على ائتلافِ نزعتين روسيتين: نزعة امبراطورية على مستوى الدولة، تحاولُ توظيف ما تبقّى من نفوذٍ شرق أوسطي عائد إلى الحقبة السوفياتية ومرحلة الحرب الباردة؛ ونزعة كنسية روسية تشدّد على تمايزِها عن كنائس الغرب، لا سيما الكاثوليكية، وفي مواجهتها. وإذا كان المشهدُ الحالي للدخول الروسي يتميز بانحيازه الشديد إلى النظام السوري وإلى “تحالف الأقليات”، مع استخدام الشعار الفضفاض والملتبِس (محاربة الإرهاب)، إلا أن فهمَ الحوافز الروسية في العمق يحملُ كثيراً من المراقبين على الاعتقاد بإمكانية التحوّل التدريجي، وربما الدراماتيكي، في المشهد التحالفي القائم، إنما على قاعدة مصلحية ثابتة وهي “ضرورة أن يحضرَ الروسي السوق، كي يبيع ويشتري”، خلافاً لما حدث في واقعة سقوط النظام الليبي قبل نحو خمس سنوات.

8.محاولة المملكة العربية السعودية ومجلس التعاون الخليجي الحفاظ على نظامِ المصلحة العربية بحيث لا يتحول العالم العربي الى ضواحي قوى اقليمية غير عربية.

9.عودةُ الكلام على مسألة الأقليات في المنطقة. من مسيحيين ويهود وأيزيديين وعلويين ودروز وشيعة وغيرهم، والذين بغالبيتهم ينظرون إلى أحداثِ المنطقة بعين القلق، ويبحثون عن أشكالٍ مختلفة من الحماية. فهناك من يطرحُ “تحالف الأقليات” وهناك من حاولَ استجداء حماياتٍ أجنبية.

10. بوادر جدّية لعودة ايران إلى حضن النظام الدولي القائم. بيد أن هذه العودة ما تزالُ ملتبسة وفي بدايتها. فقد استدعت سؤالاً أساسياً طرحَهُ معظم المراقبين: هل ستعمل ايران على استثمارِ عودتِها في التنمية الداخلية والسلم الإقليمي، أم في مواصلة زعزعة الاستقرار وسياسة “تصدير الثورة”، ما يعني عملياً مواصلة التدخُّل في الشؤونِ الداخلية للبلدان العربية؟ في المدى المنظور، نعتقد أنها ستعملُ في الإتجاهين معاً، بحيث تحاولُ التعامل مع الغرب بوصفها “دولة”، ومع المنطقة العربية بوصفها “ثورة”، بما تحملُه هذه الازدواجية من مخاطرٍ عليها وعلى المنطقة في آنٍ معاً. وهذه الازدواجية تكادُ تفرضُ نفسَها حالياً، نظراً للصراع الجدّي القائم بين خطيّ الدولة والثورة في ايران من جهة، ونظراً لهشاشة التضامن العربي التي تُغري التطرُّف الايراني بمواصلة التدخّل في المنطقة العربية من جهةٍ ثانية وفي الوقت نفسه. إن تطوير التضامن العربي، مقترناً بالحكمة وشجاعة المبادرة، من شأنه المساهمة الفعّالة في وضعِ حدّ لهذه الحالة غير الطبيعية.

11.أخيراً – وقد يصحّ أن تأتي هذه النقطة أولاً لاتصالها المباشر بموضوعِ ندوتنا – ظاهرة العنف الإرهابي المنفلت وغير المسبوق، الذي يجتاحُ منطقتَنا ويفيضُ عنها. إن هذا العنف الايديولوجي المذهبي المتلبِّس بالإسلام، وما يقابله من عنفٍ مضاد على القاعدة ذاتها، إنما يتواطآن اليوم عملياً على تجاوز حدود الدول الوطنية القائمة، بل إلغائها، لصالح أجندات بعيدة كل البعد عن نظام المصلحة الوطنية في أي بلد، كما يساهمان، كلٌ على طريقتِه، في تصيير عدد من الكيانات الوطنية دولاً فاشلة.

إذا تسنّى لنا اليوم أن نحلَّ مكان البطريرك الحوّيك، ووقفنا أمامَ كليمنصو جديد او أحد مهندسي المنطقة، ماذا نقول؟ ماذا نختار؟ وما هي المتغيرات التي تفرضُ نفسَها علينا؟

برأيي إن ما سيقدّمُه الاستاذ سمير فرنجية، باسم هذه الخلوة، محاولة للإجابة أكثر من جديّة، ونحن مدعوون إلى مناقشة أكثر من جدّية.