من البطريرك الرزي إلى المونسنيور منصور لبكي: يدّ واحدة تحرق تراث الموارنة
المحامي الفرد بارود/مارونايت نيوز/04 حزيران/2025
في سنة 1578، وبينما كان جبل لبنان يرزح تحت ثقل الحصار والانقسامات، وصلت إلى دير سيدة قنوبين بعثة رسولية من الفاتيكان، موفدة من البابا غريغوريوس الثالث عشر، يرأسها الأب خوان إليانو، وهو أحد كبار الرهبان اليسوعيين. المهمة الرسمية كانت نقل درع التثبيت (الباليوم) إلى البطريرك الجديد مخايل الرزي. لكن هذا الباليوم لم يصل، بل استُبدل بمحققٍ كنسيّ، نتيجة تقرير رُفع إلى روما من أحد المطارنة يتّهم فيه البطريرك الجديد بانحراف في الإيمان.
وهكذا، تحوّلت مهمة إليانو من تمثيل احتفالي إلى تدخل مباشر في شؤون الكنيسة المارونية، بصلاحيات استثنائية مكّنته من فحص عقيدة البطريرك ومراقبة الطقوس المارونية عن كثب. لكنه لم يكتفِ بالتفتيش، بل بدأ بسرعة في تنفيذ ما بدا وكأنه خطة جاهزة لاقتلاع التراث السرياني الماروني من جذوره.
فبعد أشهر من وصوله، وقبل عقد أي مجمع، قام إليانو بجمع مئات المخطوطات السريانية والكتب الطقسية القديمة الموجودة في دير سيدة قنوبين، وقرّر إحراقها في ساحة الدير. كانت هذه المخطوطات تحوي الصلوات الليتورجية، وكتب القداديس، والنصوص اللاهوتية، وكل ما يعكس خصوصية الكنيسة المارونية وتاريخها المستقل. فاعتبرها إليانو غير منسجمة مع مقررات المجمع التريدنتيني وقرارات روما الحديثة، وأصدر أمرًا بحرقها، فاشتعلت النار في ذاكرة الكنيسة المارونية، قبل أن يُدعى لأي إصلاح.
ثم دعا بعد ذلك إلى عقد مجمع كنسي في سنة 1580، عُرف لاحقًا بـ”المجمع المالي الماروني”، بحضور بعض الأساقفة، وتغيّب عنه آخرون عن قناعة أو احتجاج. وتم تمرير مقررات هدفها تعميم الطقوس اللاتينية، وفرض مفاهيم جديدة على الحياة الكنسية. لكنّ هذا المجمع، رغم ما صدر عنه، لم يمرّ بلا اعتراض. المطران سركيس الرزي، شقيق البطريرك، رفض التوقيع على المقررات، وانسحب من الاحتفال الرسمي، في موقف جريء سجّل له تاريخ الموارنة شرف اتخاذه.
الضرر الذي سببه إليانو لم يكن تنظيميًا فقط، بل وجوديًا. فللمرة الأولى، يَشعر الموارنة بأن ما يُطلب منهم هو أكثر من “الانضباط”، بل الانصهار. أن يختفوا طقسًا وهوية، ليصبحوا مجرد ملحق في كنيسة أكبر لا تفهم لغتهم، ولا تراعي خصوصيتهم. واليوم، بعد أكثر من أربعة قرون، تعود اليد نفسها، لكن بوجه جديد وأدوات مختلفة.
الأب منصور لبكي، الكاهن الشاعر، والمرنم النبوي، والمربّي الروحي، تعرّض لحملة تشويه منظمة، استُهدفت فيها سمعته وشرفه، من دون إثبات قضائي، ومن دون محاكمة عادلة، ومن دون أيّ احترام لحجم الخدمة التي قدمها. من حارب الأب منصور لبكي، لم يكن يحارب شخصًا، بل الذاكرة المارونية المعاصرة. فتراتيله، وكتاباته، ولقاءاته، كلها كانت امتدادًا لروح العهد الجديد، حيث الكلمة حية وفعّالة، وحيث الإيمان يُعاش ببساطة المحبة، لا بفلسفة الكلام. لقد تربّت أجيال مارونية على أعمال الأب منصور. لم يكن منظّرًا، بل ناسكًا بالألحان، راعيًا بالكلمة، وخادمًا بالحضور. ضربه هو ضربة لكل ماروني صلّى مع ترانيمه، ولكل شاب وجد في صوته صدى لهويته. والذين يحاولون تشويه صورته اليوم، ليسوا بعيدين عن عقلية إليانو. الفرق أن إليانو أحرق الورق، وهم يحاولون إحراق الروح. لكن ما لم تستطع نار قنوبين أن تبتلعه من كتب، لن تبتلعه نار الافتراء من النفوس.
وقد قال الرب: “وأعداء الإنسان أهل بيته” (متى 10:36).
من داخلنا يأتي الخطر، حين نبيع تراثنا بثمن وهمي، أو نخاف من قول الحقيقة، أو نسكت على الظلم كي لا “نهزّ الصورة”. لكن من لا يدافع عن تراثه، لا يستحقه. ما فعله إليانو بالمخطوطات، يُراد اليوم أن يُفعل بتراث الأب منصور لبكي: الحرق نفسه، ولكن بأدوات مختلفة، والهدف واحد – محو المارونية من ذاكرتنا الحية. من هنا، نحن لا نطالب بالتغاضي، ولا نسعى إلى تبرئة لا تستند إلى الحقيقة. بل نطالب اليوم، بوضوح وبصوت عالٍ، بـ إعادة محاكمة علنية للأب منصور لبكي، أمام الرأي العام وأمام العدالة، محاكمة تستند إلى الأدلة لا إلى الإشاعات، وإلى الوقائع لا إلى الحملات. فمن حق الحقيقة أن تُقال، ومن حق الموارنة أن يعرفوا من الذي يكتب تاريخهم، ومن الذي يحاول شطبه.