محمد أبي سمرا/المدن/صواريخ حسن نصرالله وموت الياس الرحباني

87

صواريخ حسن نصرالله وموت الياس الرحباني
محمد أبي سمرا/المدن/05 كانون الثاني/2021

فملحمة الشهداء والصواريخ وحدها حياتنا وحاضرنا وماضينا ومستقبلنا، وعنها علينا أن نتكلم، ولها وحدها يجب أن نعيش وننشد الأناشيد في هذه الهوة.

من ذاك البلد القديم وزمنه المنقطع أو المبتور تماماً عن حاضر البلد الذي نعيش فيه اليوم، وصل إلينا خبر موت الياس الرحباني. والراحل هو الشقيق الأصغر في الرعيل الرحباني الأول، الذي كانت الحروب (1975-1990) قد ساهمت في تقويض وئامه العائلي، فيما هي تقوّض صورة ذاك البلد القديم، الذي ساهم الفن الرحباني بصوت فيروز في إرسائها وتسويقها.

وكانت تلك الصورة صورة بلد شبه ريفي، ويحاول بصعوبة أن يتمدن (من المدينة)، وربما من دون أن يقصد ويدري، وشغوفاً بحنينه الفولكلوري المتواصل إلى ريفيته المفقودة، والمتصورة سعيدة هانئة. وكان ذاك البلد هشاً وخجولاً في تمدين اجتماعه الأهلي شبه العائلي، قيماً وعلاقات ونمط عيش، ونظاماً سياسياً.

وقد يشبه الشقاق العائلي الذي دبّ بين الجيل أو الرعيل الرحباني الثاني على تقاسم الإرث الفني للرعيل الأول، دبيبَ ذاك الشقاق الأهلي اللبناني الكبير الذي قوّض التمدين اللبناني البلدي الصعب، الهش والخجول، كما قوّض نظامه السياسي الذي كان يقوم على وئام أهلي، بلدي وشبه عائلي، في حياته وعلاقاته الاجتماعية والسياسية. واستمر ذاك التقويض يراوحُ وينازع طوال عقود، من دون أن يلفظ ذاك البلد أنفاسه الأخيرة، حتى في زمن حروبه المدمرة ومقاتلها. لكنه ها هو يلفظَها أخيراً، فيكتمل محقه، ويهوي فجأة في هوّة سنة 2020 المنتهية قبل أيام، والتي رمته في قطيعة كاملة وشاملة مع ماضيه.

وسنة الهوة هذه، هي التي جعلت خبراً مثل موت الياس الرحباني أمس، يصلنا من ماضٍ سحيق في قطيعته عن هذا الحاضر الذي نعيش فيه. وكأن كل ما يذكِّرنا بذاك الماضي وصوره وكلماته، لم يعد له سوى معنى واحد ووظيفة واحدة: تعميق الهوة والقطيعة، والتحديق المتواصل في جدران الحاضر الخرساء، الخالية حتى من كوة صغيرة، تسمح ولو بالحنين إلى ذاك الماضي، الذي لم يكن حتى الأمس القريب قد صار على هذا القدر من القطيعة والمحق. فالحنين، مثل الحِداد، ينطوي على شيء من العزاء والمواساة اللذين ليس من أثر لهما في هذه الهوة المعتمة.

وفي هذه الهوة استقبلَ عامنَا الجديد هذا، ذاك الصوت الذي اعتاد من سنين على أن يبلِّغنا أين نحن، ومن نحن، وكيف علينا أن نكون وماذا نفعل ونقول. وهو صوت غضوب، شغوف بالغضب وبغضبه الشغوف، ولا صوت يعلو فوق صوته في حاضرنا هذا.

ومن ما قاله في استقباله سنتَنا الجديدة “نحن وغزة جبهة أمامية” واحدة. طبعاً الجميع يعلم لماذا قال غزة وحدها، ولم يقل فلسطين. ففلسطين رام الله ومحمود عباس من ذاك الماضي السحيق، ماضي “الهزائم والاستسلام” بعدما أشرقت شمسه، شمس “الانتصارات”: في لبنان حزب الله، وغزة حماس والجهاد الإسلامي، وسوريا الأسد المفيدة وعراق الحشد الشعبي، ويمن أنصار الله الحوثيين.

أما ما عدا هذه الشطور من البلدان، فانتهى ولم يعد موجوداً في حاضر شمس الانتصارت هذا الذي نعيش في ظلاله الوارفة، يضيئه ويشعشع فيه مقتل قاسم سليماني: “الحادثة الكبيرة المفجعة، التي ستبقى خالدة في التاريخ”، أي في حاضرنا الأبدي هذا، قال سيد الانتصارات.

والبشر في هذا الحاضر يظلون جميعاً، وفرداً فرداً، غُفْلاً ونكِرات، بلا حياة ولا أسماء، حتى يخرجهم “الاستشهاد” من الغفلية واللاوجود، فيصيرون “سادة قافلة الوجود”، أي أصحاب “فضل” و”معروف” علينا، نحن الغفل النكرات. ولذا “يجب علينا أن نذكرهم (الشهداء) ونتذكرهم ونذكّر بهم الناس والأجيال والعالم”. فهذا عملنا وقدرنا الوحيد، طالما ارتضينا أن نظل نكرات مغفلين في هذه الهوة.