حنا صالح/الأحجام المنفوخة

66

الأحجام المنفوخة
حنا صالح/الشرق الأوسط/26 تموز/18

لم يعد المشهد يثير الضحك بل يثير الأسى على البلد. متى سيقف «الأقوياء» في طوائفهم على أرض الواقع، ومتى تتوقف هذه العنتريات؟ وفي الشهر الثالث على تكليف الرئيس الحريري تشكيل الحكومة الجديدة متى يحين أوان وقف التذاكي والتشاطر؟ ومتى يرى كل «الأقوياء» إدراك المواطن العادي أن كل ما يجري من مناورات يجافي الدستور والصلاحيات والميثاق الوطني والأعراف والتقاليد؟

كل ما يدور هو إيغال في العجرفة والعنجهية وجنوح في المزاجية، وإصرار على اختزال البلد بأشخاص، وإلاّ فلماذا لا يتمُّ وضع حدٍ لفكر يحكم مواقف جل أطراف التحالف الحاكم، فكر إلغائي هو فكر الحرب الذي تفشى في لبنان، وبات القاسم المشترك بين أصحاب الدعوة لقيام حكومة وحدة وطنية. والتجربة اللبنانية أكدت دوماً أن هذا النوع من الحكومات لا يمثل «وحدة» ويفتقر لمعايير عديدة كي تكون وطنية، بل هي أردأ أشكال المحاصصة لتقاسم جبنة الحكم، لأنه في النظم البرلمانية، والنظام اللبناني ما زال برلمانياً، الحكومة يجب أن تمثل أكثرية نيابية، وكل ما هو مغاير ليس إلاّ تعمداً من «الأقوياء» للمضي في شكل من الحكم فرضه الاحتلال السوري منذ العام 1992، وقضى بقيام حكومات فضفاضة توازي ربع البرلمان، وتمنع تركيبتها المراقبة أو المحاسبة، والشواهد لا تُعد عن استسهال حكم البلد من خارج الدستور واعتبار السيادة الوطنية وجهة نظر مقابل المضي في ممارسات تغطية ما هو قائم.

ما يشهده لبنان صراع سلطوي على قرار البلد وموقعه تداخل فيه البعد الخارجي بالبعد الداخلي وأحد مظاهره الاستئثار بالمقاعد الوزارية، مع تغييب كامل لألفباء برنامج الحكم، البرنامج الآني والأبعد، والسؤال الذي يطرح نفسه ألا يستحق الوضع المالي المأزوم والاقتصادي المتفجر مع تتالي تحذيرات صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية أي اهتمام حقيقي؟ ولم لم يتوقف أي من المسؤولين أمام التقارير الموثقة التي تحدثت عن نسبة بطالة بين الخريجين والشباب تصل إلى 60 في المائة، ونبّهت إلى قنبلة موقوتة متأتية عن اتساع الفقر المدقع في المدن ومنها بيروت، لكن مآسي الناس لم تقض مضاجع المتصارعين على الأوزان والأحجام الخاصة فيما دور البلد ووزنه في تراجع مريع؟ بالمقابل بمجرد نظرة إلى الخارج تُطرح الأسئلة عما إذا كان لبنان معنياً بما يدور في محيطه المتفجر؟ وبعد الحملة المبرمجة سياسياً لترحيل النازحين والتي شابتها الكثير من السمات العنصرية، ها هي إحدى نتائج قمة هلسنكي تقضي بإعادة حوالي مليوني نازح سوري إلى مناطق آمنة في سوريا، بينهم 890 ألفاً من النازحين إلى لبنان، فأين هم الذين فتحوا معارك دونكيشوتية متهمين المجتمع الدولي بأنه يريد توطين النازحين ولماذا سكتوا الآن؟

يعرف المتصارعون على الأحجام والأوزان أن الناس تعرف الحقيقة، فالانتخابات النيابية كشفت أحجام كل القوى الطائفية الممسكة بقرار البلد. هذه القوى مجتمعة لم تستطع الوصول إلاّ لنحو 43 في المائة من المقترعين، فيما حازت قوى الاعتراض المشتتة نحو 6 في المائة، مقابل اعتكاف 51 في المائة هم الأكثرية الذين شكّل إصرارهم على المقاطعة إدانة قاسية لأركان الحكم. وإذا كانت نتائج الانتخابات، كما يرددون، هي المعيار لتشكيل حكومة تمثيلية، علما بأن لا شيء من ذلك في الدستور، فإنه عندئذٍ يجب أن تعود الحصة الأكبر للذين قاطعوا الانتخابات. المنتصر الوحيد برنامجاً ونهجاً كان «حزب الله» الذي أراد من الانتخابات برلماناً مطواعاً لحماية السلاح خارج الشرعية وإلحاق لبنان بالمحور الإيراني، وكل ما حققه كان حيازة نحو 17 في المائة من المقترعين، أي قرابة 275 ألف صوت، تلاه تيار «المستقبل» برئاسة رئيس الحكومة بنحو 13 في المائة، ثم حركة «أمل» (الرئيس نبيه بري) بنحو 11 في المائة، فتيار رئيس الجمهورية بنحو 10 في المائة، أي 170 ألف صوت، فحزب «القوات اللبنانية» بحوالي 8 في المائة، وتجاوزت نسبة «الحزب الاشتراكي» قليلاً الـ4 ونصف في المائة… إلخ. من هنا فإن التدقيق بالأرقام يظهر أحجاماً متواضعة مهما أمعن كل طرف في نفخ حجمه!!

الحقيقة التي يعرفها الناس هي أن مجلس الوزراء الذي أنيطت به دستورياً القرارات في كل صغيرة وكبيرة، لم يعد نتيجة الأمر الواقع مركز القرار، لأنه منذ التسوية الرئاسية التي كرست بقاء السلاح خارج الدولة، وتم التواطؤ مع هذا السلاح الفالت بالقول إنه لم يعد مسألة داخلية بل أصبح مسألة إقليمية، بات القرار الفعلي وقفاً على «حزب الله» الطرف المسلح المتغلغل في كل مفاصل السلطة، حيث لا ردَّ لرغباته، يملي التوجه وله الكلمة الفصل، فيما حصة الآخرين كراسي وزارية ونتف من كعكة الحكم، وكمثال قرار دخول الإيرانيين بدون تأشيرة وبدون ختم جواز السفر يتم وضعه في التنفيذ، رغم تحفظ الوزير المعني وتجاهل رأي مجلس الوزراء، ولم يعد بيد الآخرين إلا السكوت لتعذر الموافقة المعلنة. ويشهد لبنان في غياب حكومة شرعية، وهي دستورياً صاحبة القرار، اندفاعة نيابية لتشريع زراعة القنب الهندي (الحشيشة)، حيث يهيمن «حزب الله»، والهدف الحقيقي مداخيل كبيرة والتفاف على العقوبات الدولية وخراب مجتمعي عميم. وكان مفاجئاً للمتابعين أن يتجاوز لبنان الرسمي سياسة «النأي بالنفس» عندما أعلن رئيس الجمهورية قبل أيام دعم موقف طهران من الاتفاق النووي، فأين بُحث هذا الأمر الكبير وأين المصلحة الحقيقية للبنان واللبنانيين، خصوصا أن المنطقة دخلت مواجهة مختلفة لا يمكن الآن التنبؤ بكل أبعادها؟

بعيداً عن الأحجام المنفوخة لكل هذه الأطراف، وحتى لا يقطع أي مسؤول إجازته خارج لبنان، التأليف معلق والمسائل أصعب من الخلاف الموجود على الصلاحيات الدستورية بين الرئيس عون ورئيس الحكومة الحريري، وحيث يحاول الأخير العودة إلى الأصول الدستورية ومنع المساس بالموقع والدور لرئيس الحكومة، فهناك من يضغط لكي تأتي الحكومة الجديدة حكومة المقاومة والممانعة، ولم يعد سراً أن مباحثات جرت على أعلى مستوى لسحب التكليف من الرئيس الحريري والذهاب إلى فرض حكومة أمر واقع، وحتى حكومة عسكرية، لكن هذه المباحثات اصطدمت بواقع دستوري، والإصرار على خطف القرار السياسي سيرتب على البلد الأثمان الكبيرة، والدفع بهذا الاتجاه يكشف عن الإصرار على تكريس البلد ورقة في المشروع الإيراني الرامي لتفتيت المنطقة وتكريس نفوذ حكام طهران. هذا مع العلم أن بلداننا تنام على أمر وتصحو على نقيضه، ومن صنعاء إلى دمشق وبغداد، الصورة تتبدل بسرعة ومزاعم الانتصارات الكبرى والنهائية ليست موجودة على أرض الواقع كما يدعون في الخطب وبعض الإعلام.

الانتخابات على أهميتها، وبما أفرزته من نتائج، معطوفة على تسارع التطورات الإقليمية، لم تحمل تحولاً يخدم بالمطلق التحالف الحاكم، الذي بات يضيق ذرعاً بأبسط احتجاج، من صرخة موجوع، ومن آراء على وسائل التواصل، فيتم استدعاء المعترضين إلى القضاء في نهج غير مسبوق لكم الأفواه، وهو نهج لن يكون مصيره أفضل مما كان عليه أيام الاحتلال السوري، لكنه سيسيء أكثر لسمعة البلد، وسيبقى كنهج أعجز من أن يغطي منحى التسلط والإصرار على سوس البلد بغلبة السلاح وليس بالدستور.