الكولونيل شربل بركات: المنتجعات السياحية والسياسات الاقتصادية

80

المنتجعات السياحية والسياسات الاقتصادية
الكولونيل شربل بركات/13 أيار/17

عندما قرر رئيس الوزراء الكندي السابق المغفور له بيار اليوت ترودو الانفتاح على النظام الكوبي مع ما قد يخلّفه هذا القرار من انزعاج اميركي، لم يكن الموضوع تصرفا بسيطا لاظهار حق كندا كدولة مستقلة باتخاذ خياراتها المتميزة عن جارتها الجنوبية في مجال العلاقات الدولية، ولا هو كان تأييدا لسياسة كاسترو في نشر الثورة الشيوعية في القارة الأميركية، فقد كانت كندا ابقت على علاقاتها مع كوبا بعد الثورة بدون عقد ولكنها لم تندفع إلى حد كسر الحصار المفروض. ولكن الرئيس ترودو ومن ضمن مشاريعه كان ينظر إلى مصلحة الشعب الكندي وخاصة منه العامة الذين ينؤون تحت وطأة الشتاء الطويل والقارص ويحلمون بأغلبيتهم بالهرب من الصقيع أقله لفترة اسبوع تكسر قساوة الطبيعة وتعيد بناء الثقة بأن الصيف لا بد آت.

وبينما كان كبار المزارعين والصناعيين والمترفين من أصحاب الشركات وغيرهم من الرأسماليين يمضون مددا طويلة من الشتاء في ولايات الجنوب الأميركي وخاصة فلوريدا وجزر البحر الكاريبي حيث المنتجعات السياحية، فقد قرر الرئيس ترودو وطاقمه العمل على إيجاد مهرب لعامة الكنديين يمكنهم من التمتع بالدفيء وحرارة الشمس بدون أن يكون باهظ الثمن، فكانت جزيرة كوبا خيارا ملائما وهي التي تعاني من مشكلة الحصار الأميركي المفروض عليها منذ الثورة الشيوعية بقيادة الرئيس كاسترو والتي كانت أبعدت الكثير من الكوبيين إلى ولاية فلوريدا الأميركية هربا من النظام الجديد من جهة بينما حاولت من جهة أخرى تصدير الثورة تلك إلى جزء كبير من جنوب القارة الأميركية ودعمت بالعتاد والرجال أنظمة ثورية في دول افريقية في الستينات من القرن الماضي.

ولكن الاتفاق الأميركي حول فيتنام وتقلّص محاولة انتشار الشيوعية العالمية جعل كوبا في السبعينات تنعزل بين دول اوروبا الغربية ذات النظام الرأسمالي المتحرر من جهة، والذي يمارس الديمقراطية بشكل طبيعي ويقود بعض دوله أحزاب اشتراكية نظّمت عمليا النظريات التي يحلم بها اليساريون في العالم، بينما أظهرت حركات التحرر على امتدادا الساحل الأفريقي (والشرق الأوسط) فشلها في قيادة البلاد بشكل يؤمن الاستقرار وتحقيق أحلام الناس بالتوصل إلى سياسات اقتصادية ناجحة ترضي طموحاتهم، ومن جهة أخرى القارة الاميركية التي عاد الاستقرار إلى دول الجزء الجنوبي منها والتي كان حلم الكوبيين وعلى راسهم تشي غيفارا الأرجنتيني الأصل “بتحريرها” يوما.

الرئيس ترودو وفي زيارته إلى كوبا حمل من ضمن سلة التفاهم مشروعا للتعاون الاقتصادي تسمح خلاله كوبا لمستثمرين كنديين بانشاء منتجعات سياحية على مستوى عالمي تستغل الشواطيء الجميلة الموزعة على طول الجزيرة وعرضها لمدة عشر سنوات قابلة للتجديد لخمسة سنوات أخرى برضى الفريقين وبينما يقوم الكنديون بالتصميم والاشراف والادارة يكون العمال والموظفون والمواد المستعملة محلية وحتى شركات الطيران التي تنقل الكنديين إلى الجزيرة كانت في البدء خطوط خاصة لهذه الغاية.

الكنديون ربحوا مجالا حيويا للاستثمار وربحوا امكانية التمتع بشواطيء دافئة على أحسن مستوى عالمي بسعر مقبول جدا وفي أجواء خالية من العنف والمخدرات لأن الجزيرة مضبوطة بشكل كبير، ولم يكن التخالط مع السكان المحليين مطروحا في المرحلة الأولى فكل شيء منظم من المطارات الكندية إلى المطارات الكوبية فالمنتجعات والعودة بدون أن يضطر السائح أن يتخالط مع المحليين إلا بعض الموظفين والعمال في المنتجعات نفسها.

الكوبيون ربحوا أولا مجال عمل لعدد كبير جدا من المواطنين وربحوا المنتجعات نفسها التي عادت إلى الدولة بعد انتهاء العشر سنوات ثم ربحوا انفتاحا غربيا عليهم فكسروا الحصار النفسي والاقتصادي المفروض ومن ثم أصبح الكثير من رعايا الدول الاوروبية وحتى دول أميركا الجنوبية يستعملون هذه المنتجعات السياحية، وبفضلها عاد الكوبيون إلى اعتماد صناعة السياحة وهي ليست من خصائص الثورة ولا من ايديولوجيتها ولكنها ليست معادية لها، من حيث المبدأ، ولو كانت تعتبر سابقا خاصة بطبقة المترفين، فهنا وعندما نوقشت مع الكنديين، فهم هؤلاء الشيوعيون بأنها ليست ترفا بل حاجة لشعب بكامله ومن هنا كانت أيضا الاسعار المقبولة والبعيدة عن الجشع نوعا.

الأنطمة الشيوعية التي لا تزال تعادي الرأسمالية هي قلة في عالم اليوم، فقد انفتحت الصين كأكبر دولة شيوعية على العالم الحر وهي تتعاون في شتى المجالات وخاصة مجالات الاستثمار بينما فكك الاتحاد السوفييتي وتبنت روسيا النطام الحر ولم يبقَ إلا نظام الرئيس كاسترو في كوبا حيث تتواجد في جنوبه (خليج غوانتنامو) قاعدة أميركية (وهي أراضي كوبية أجرت للحكومة الأميركية قبل الثورة) والتي لم يسمع أحد عنها إلا يوم استعملت كسجن للارهابيين الموقوفين بعد الحرب على القاعدة، ونظام كوريا الشمالية في الشرق الأقصى الذي تميّز كرفيقه الكوبي باستمرار حكم الشخص الواحد وخليفته والتي يثبتها بالتاكيد انتخابات التسعين بالمائة. ولكن الجزيرة المهمة في البحر الكاريبي وبعد 40 سنة على زيارة الرئيس ترودو الشهيرة يؤمها اليوم أكثر من مليوني سائح سنويا أي قرابة 20 بالمائة من عدد سكانها البالغ بين 10 إلى 11 مليون نسمة يشكلون مصدرا مهما للعملات الصعبة ويسهمون بأكثر من 40% من الدخل القومي ما جعل مدخول السياحة هذه يزيد عن مدخول السكر الذي كان يعتبر أحد أهم موارد الدولة.

الرئيس ترودو تميز بالشجاعة والرؤية في العديد من قراراته وهو بدون شك ساهم بفتح مجالات جديدة للاستثمار للكنديين وبنفس الوقت خفف من معاناة الشعب الكوبي بدون تدخل بشؤونه الخاصة وبطريقة التبادل المقبول في المصالح بين الدول ولكننا لم نسمع بان أحد أبنائه أصبح شريكا في مشروع أو ثريا من رشوة فهل سينعم الله علينا في الشرق الأوسط بزعماء يراعون مصالح الشعوب وتطلعاتها

ويحدثون التغيير المطلوب في مقاربة الأمور بدون عنف أو فوقية وبدون التفتيش عن مصلحة خاصة تطغى على الصالح العام؟ وهل ان سوريا والعراق سيعودان إلى التركيز على الانتاج والتنظيم وتوفير مجالات العمل وتوزيع الرفاه على كل فئات المجتمع ليعم الاستقرار؟ أم أنه كتب على هذه الشعوب أن تشقى وتبذّر ثرواتها ولا تعرف أن تضع سلما لأولوياتها أو تخطيطا لمستقبلها؟ العالم عرف نظريات مختلفة ها هي تتعايش وتتأقلم فهل يمكن لشعوب الشرق الأوسط أن تتقبل الآخر وتتفهم مشاكله ومن ثم تحاول أن تتعايش معه أم أنها لا تزال دون هذا المستوى من الادراك؟
تورنتو/كندا