الياس بجاني/مفهوم ومعاني “القلب” في الكتاب المقدس

973

مفهوم ومعاني “القلب” في الكتاب المقدس
الياس بجاني/28 حزيران/2025

اضغط هنا لقراءة المقالة باللغة الإنكليزية/Click here to read the English version of the below piece

إن مفردة “القلب” مذكورة في الكتاب المقدس أكثر من 300 مرة، وهي لاهوتياً لا تعني، لا من قريب ولا من بعيد، القلب العضو في جسد الإنسان – تلك المضخة التي تضخ الدم في الجسم. بل هو المحور الكياني البشري، ومركز وحدة القدرات، ومستودع الضمير والوجدان والأحاسيس بكافة تلاوينها وتناقضاتها. وإذا جاز التعبير، هو “الأنا” بمفهوم علم النفس الحديث. من هنا، فالقلب لاهوتياً، وبحسب هذه المعاني الوجدانية والروحية والإيمانية، هو ليس ذاك القلب العضو النابض في الصدر بين الرئتين، بل هو الواقع الكياني الإيماني الذي يشكل محور كامل الوجود الشخصي. إنه محور الوحدة حيث تتلاقى كل خيوط دائرة كيان الإنسان. وإذا ما نظرنا مليًا إلى الطقوس الكنسية وإلى الإيقونات، لوجدنا أهمية كبرى لـ “قلب يسوع” و لـ “قلب مريم البريء من الدنس”. وفي الكتاب المقدس، في العهدين القديم والجديد على حد سواء، هناك عشرات الآيات التي تؤكد أهمية ومحورية مفهوم القلب الروحاني والفكري والإيماني.

القلب في وصايا الله
في هذا الإطار، تأتي الوصية الأولى من الوصايا العشرة التي تقول: “تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ” (لوقا 10: 27، وتثنية 6: 5). والسيد المسيح يتحدث عن القلب كمحور نوايا الإنسان وأساس كل أعماله.
“فَمِنَ الْقَلْبِ تَنْبُعُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: الْقَتْلُ، الزِّنَى، الْفِسْقُ، السَّرِقَةُ، شَهَادَةُ الزُّورِ، التَّجْدِيفُ. هَذِهِ هِيَ الأُمُورُ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ” (متى 15: 19-20). هذا يؤكد أن جوهر الإنسان، سواء للخير أو للشر، ينبع من القلب.
لا أحد غير الله يدرك ما يجول في أفكارنا وقلوبنا من نوايا، شريرة كانت أم صالحة. وهو، لأنه يحبنا وينتظر عودتنا إلى منازله السماوية التي لم تشدها أيدي الإنسان، فهو كأب غفور يحذرنا باستمرار بشتى الوسائل والطرق عندما ندنس قلوبنا ونقع في تجارب إبليس ونسير وراء “إنساننا القديم”، إنسان الخطيئة الأصلية، ونهجر “الإنسان الجديد”، إنسان المعمودية بالماء والروح القدس.
“أَيُّهَا الْمُرَاؤُونَ! أَحْسَنَ إِشَعْيَاءُ إِذْ تَنَبَّأَ عَنْكُمْ فَقَالَ: هَذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، أَمَّا قَلْبُهُ فَبَعِيدٌ عَنِّي جِدّاً! إِنَّمَا بَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ لَيْسَتْ إِلاَّ وَصَايَا النَّاسِ” (متى 15: 7-8). هذه الآية تسلط الضوء على أهمية العبادة الصادقة النابعة من القلب، وليس مجرد الطقوس الخارجية.

القلب النقي: عطية من الله
يعلمنا الكتاب المقدس أن نتضرع لله دائماً ونطلب منه بخشوع وصدق وإيمان نعمة وعطية القلب النقي والمستقيم والصالح.
“قَلْباً نَقِيّاً اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ، وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي” (مزمور 51: 10). هذه الصلاة تعبر عن رغبة عميقة في التجديد الروحي، الذي أساسه قلب جديد. إن الرب الأب خلق الإنسان على صورته ومثاله وأعطاه قلباً كقلبه، وعندما يراه يُدنِّس هذا القلب، يهب لنجدته وإعادته إلى الطريق القويم بإرسال الأنبياء والقديسين والأبرار، ولكن عندما يعصاه ولا يتعظ ويتوب ويؤدي الكفارات، يؤدبه ويعاقبه، كما فعل في زمن نوح ونمرود ولوط مع مدينتي سدوم وعمورة. “وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ فِكْرِ قَلْبِهِ يَتَّسِمُ دَائِماً بِالإِثْمِ، فَمَلأَ قَلْبَهُ الأَسَفُ وَالْحُزْنُ لأَنَّهُ خَلَقَ الإِنْسَانَ” (تكوين 6: 5-6). هذه الآيات تُظهر حزن الله على فساد قلوب البشر.
يعمل الله بالناموس الطبيعي والضمير وبالأنبياء على إيقاظ قلوب بني البشر ليرجعوا إليه فيجدونه وأن يعطوه قلوبهم ويلاحظوا طرقه ووصاياه.
“بِأَعْيُنِكُمْ أَبْصَرْتُمْ تِلْكَ التَّجَارِبَ الْهَائِلَةَ وَالآيَاتِ وَالْعَجَائِبَ الْعَظِيمَةَ. وَلَكِنَّ الرَّبَّ لَمْ يُعْطِكُمْ حَتَّى الآنَ قُلُوباً لِتَعُوا وَعُيُوناً لِتُبْصِرُوا وَآذَاناً لِتَسْمَعُوا. لَقَدْ قُدْتُكُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَمْ تَبْلَ فِيهَا ثِيَابُكُمْ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ تَهْتَرِئْ نِعَالُكُمْ عَلَى أَرْجُلِكُمْ” (التثنية 29: 3-5). هنا نرى كيف أن عدم الفهم والإدراك ينبع من القلب.

القلب مسكن الروح القدس
لقد ربط الرب إلهنا قلوبنا بقلبه، لكي نحبه من كل القلب والنفس فنحيا به، وهذا ما أتمه الله في العهد الجديد بحلول الروح القدس على المؤمنين، ليصير قلبهم مسكناً لروحه يقدسه له، لنصير هياكل روح الله، ويصير قلبنا مذبحاً مُكَّرساً للعبادة بصلوات التقية والمحبة الصادقة. وإذ يتنقى القلب، يعاين الله ويعمل المسيح بالإيمان فيه. لذا من المهم أن نكرس وقفة تأملية بمعنى القلب الإيماني واللاهوتي. ففي تعليقه على سر فاطيما الثالث، قام عميد مجلس عقيدة الإيمان حينها الكاردينال يوسف راتسنغر (البابا بندكتس السادس عشر لاحقاً) بتقديم وصف موجز لمفهوم القلب: “القلب يعني في لغة الكتاب المقدس محور الوجود البشري، واندماج العقل والإرادة، والمزاج والإحساس”. ويضيف: “القلب هو ذلك الواقع الذي يجد فيه الكائن البشري وحدته وتوجهه الداخلي”.

الله وحده هو من يرى ويختبر خفايا القلب.
القلب هو تلك القدرة البشرية التي تذهب أبعد وأعمق من القدرة الفكرية في الإنسان، وأبعد من تصور خيالنا. هو بُعد الغريزة الإلهية وهو أيضاً عمق النفس.
“اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ، مَنْ يَعْرِفُهُ؟ أَنَا الرَّبُّ فَاحِصُ الْقُلُوبِ، مُخْتَبِرُ الْكُلَى، لأُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ، حَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ” (إرميا 17: 9-10). هذه الآية تؤكد أن الله وحده هو من يرى ويختبر خفايا القلب. من المستحيل على الواحد منا النفاذ إلى داخل أي شخص آخر مهما كان قريباً منا ومعرفة ما يختزن بداخل قلبه وأفكاره، ولكن يمكننا فهم ذلك من خلال أفعاله وأقواله وأحاسيسه التي تشهد على ما في قلبه، لأنه “مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ الْفَمُ” (متى 12: 34). والقلب هذا يُدنِّسه صاحبه حينما يغرق في فخاخ الغرائز ويفشل لقلة إيمانه ووهن رجائه في لجمها وتهذيبها.

القلب والمحبة
نقول في صلاتنا: “يا رب أعطني قلباً كقلبك” (“قَلْباً نَقِيّاً اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي” (المزمور 51: 10))، أي أنعم عليّ بعطايا المحبة، والمحبة هي الله وهي القلب. معاني المحبة التي هي الله، عرفها رسول الأمم بولس في (كورنثوس الأولى 13: 1-13): “لو تكلمت بلغات الناس والملائكة، ولا محبة عندي، فما أنا إلا نحاس يطن أو صنج يرن. ولو وهبني الله النبوة وكنت عارفاً كل سر وكل علم، ولي الإيمان الكامل أنقل به الجبال، ولا محبة عندي، فما أنا بشيء. ولو فرقت جميع أموالي وسلمت جسدي حتى أفتخر، ولا محبة عندي، فما ينفعني شيء. المحبة تصبر وترفق، المحبة لا تعرف الحسد ولا التفاخر ولا الكبرياء. المحبة لا تسيء التصرف، ولا تطلب منفعتها، ولا تحتد ولا تظن السوء. المحبة لا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق. المحبة تصفح عن كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء. المحبة لا تزول أبداً. أما النبوات فتبطل والتكلم بلغات ينتهي. والمعرفة أيضاً تبطل، لأن معرفتنا ناقصة ونبواتنا ناقصة. فمتى جاء الكامل زال الناقص. لما كنت طفلاً، كطفل كنت أتكلم وكطفل كنت أدرك، وكطفل كنت أفكر، ولما صرت رجلاً، تركت ما هو للطفل. وما نراه اليوم هو صورة باهتة في مرآة، وأما في ذلك اليوم فسنرى وجهاً لوجه. واليوم أعرف بعض المعرفة، وأما في ذلك اليوم فستكون معرفتي كاملة كمعرفة الله لي. والآن يبقى الإيمان والرجاء والمحبة، وأعظم هذه الثلاثة هي المحبة.”

آيات إنجيلية إضافية حول القلب
إن الآيات في الكتاب المقدس التي تبين معاني القلب كثيرة جداً، في أسفل بعضاً منها:
“طُوبَى لأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُمْ سَيَرَوْنَ اللهَ” (متى 5: 8).
“فَهُوَ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي شَيْءٍ، إِذْ طَهَّرَ بِالإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ” (أعمال الرسل 15: 9).
“إِنَّهُ صَاحِبُ الْيَدَيْنِ الطَّاهِرَتَيْنِ وَالْقَلْبِ النَّقِيِّ. ذَاكَ الَّذِي لاَ يَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلاَ يَحْلِفُ مُنَافِقاً” (مزمور 24: 4).
“وَلاَ يَكُونُونَ مِثْلَ آبَائِهِمْ، جِيلاً عَنِيداً مُتَمَرِّداً، جِيلاً لَمْ يُثَبِّتْ قَلْبَهُ وَلاَ كَانَتْ رُوحُهُ أَمِينَةً لِلهِ” (مزمور 78: 8).
“اطْرَحُوا عَنْكُمْ كُلَّ ذُنُوبِكُمُ الَّتِي ارْتَكَبْتُمُوهَا، وَاحْصُلُوا لأَنْفُسِكُمْ عَلَى قَلْبٍ جَدِيدٍ وَرُوحٍ جَدِيدَةٍ. فَلِمَاذَا تَنْقَرِضُونَ يَا شَعْبَ إِسْرَائِيلَ؟” (حزقيال 18: 31).
“وَأَهَبُكُمْ قَلْباً جَدِيداً، وَأَضَعُ فِي دَاخِلِكُمْ رُوحاً جَدِيدَةً، وَأَنْتَزِعُ مِنْ لَحْمِكُمْ قَلْبَ الْحَجَرِ وَأُعْطِيكُمْ عِوَضاً عَنْهُ قَلْبَ لَحْمٍ” (حزقيال 36: 26). هذه الآية تحديداً تتحدث عن التحول الداخلي الذي يمنحه الله.
“ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ، هُوَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. فَإِنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَنْبُعُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ، الْفِسْقُ، السَّرِقَةُ، الْقَتْلُ، الزِّنَى، الطَّمَعُ، الْخُبْثُ، الْخِدَاعُ، الْعَهَارَةُ، الْعَيْنُ الشِّرِّيرَةُ، التَّجْدِيفُ، الْكِبْرِيَاءُ، الْحَمَاقَةُ. هَذِهِ الأُمُورُ الشِّرِّيرَةُ كُلُّهَا تَنْبُعُ مِنْ دَاخِلِ الإِنْسَانِ وَتُنَجِّسُهُ” (مرقس 7: 20-23).
“فَوْقَ كُلِّ حِرْصٍ احْفَظْ قَلْبَكَ لأَنَّ مِنْهُ تَنْبَثِقُ الْحَيَاةُ. انْزِعْ مِنْ فَمِكَ كُلَّ قَوْلٍ مُلْتَوٍ، وَأَبْعِدْ عَنْ شَفَتَيْكَ خَبِيثَ الْكَلاَمِ. حَدِّقْ بِاسْتِقَامَةٍ أَمَامَكَ، وَوَجِّهْ أَنْظَارَكَ إِلَى قُدَّامِكَ” (الأمثال 4: 23-25). هذه الآية تؤكد على أهمية حماية القلب لأنه مصدر الحياة.
“وَإِذْ تَنْكَشِفُ خَبَايَا قَلْبِهِ، يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ سَاجِداً لِلهِ، مُعْتَرِفاً بِأَنَّ اللهَ فِيكُمْ حَقّاً” (كورنثوس الأولى 14: 25).
“غَلِّظْ قَلْبَ هَذَا الشَّعْبِ وَثَقِّلْ أُذُنَيْهِ وَاطْمِسْ عَيْنَيْهِ لِئَلاَّ يُبْصِرَ بِعَيْنَيْهِ وَيَسْمَعَ بِأُذُنَيْهِ وَيَفْهَمَ بِقَلْبِهِ وَيَرْجِعَ فَيُشْفَى” (إشعيا 6: 10). هذه الآية تُظهر نتيجة العناد ورفض سماع كلمة الله.

قلب يسوع الأقدس: ينبوع المحبة الإلهية
البابا بندكتس السادس عشر: “إن جذور هذه التقوى (عبادة قلب يسوع) متأصلة في سر التجسد. فبواسطة قلب يسوع ظهرت بصورة جلية محبة الله للبشرية. ولهذا فإن عبادة قلب يسوع الأقدس الأصيلة تحافظ على معانيها وتستقطب بشكل خاص النفوس المتعطشة إلى رحمة الله، ينبوع ماء الحياة الذي لا يُسبر غوره والقادر على ري صحاري الروح كي ينمو الرجاء.”

صلاة للقلب الأقدس
يا يسوع، أنت ذو القلب الشفيق، الكلي الجودة والصلاح. أنت تراني وتحبني. أنت رحيم وغفور، إذ لا يمكنك أن ترى الشقاء دون أن ترغب في مداواته. ها إني أضع كل رجائي فيك، وأثق أنك لن تهملني، وأن نعمك تفوق دائماً آمالي. فحقق لي يا يسوع، جميع وعودك، وامنحني النعم اللازمة لحالتي، وألق السلام في عائلتي، وعزني في شدائدي، وكن ملجأ لي طيلة حياتي وفي ساعة موتي. إن كنت فاتراً في إيماني فإني سأزداد بواسطتك حرارة. أو كنت حاراً فإني سأرتقي درجات الكمال. أنعم علي يا يسوع بنعمة خاصة ألين بها القلوب القاسية، وأنشر عبادة قلبك الأقدس. واكتب اسمي في قلبك المعبود، كي لا يمحى إلى الأبد. وأسألك أن تبارك مسكني حيث تُكرَّم صورة قلبك الأقدس.

***الكاتب ناشط لبناني اغترابي
رابط موقع الكاتب الإلكتروني
https://eliasbejjaninews.com
عنوان الكاتب الإلكتروني
phoenicia@hotmail.com

Share