بيروت الوجوه والشبابيك والقناطر الكاتب والشاعر هنري زغيب/اسواق العرب/16 كانون الأول/2024 كالجمالِ غيرِ المحدود، بيروت، لا الحديثُ عنها يتعب، ولا الحبُّ إليها يرتاحُ من بَوَاح. منذ أَنها بيرُوِيْه حوريةُ البحر وما نَسَج عنها الشعراء والكتَّاب والمؤَرخون، وهي تتصدّر كلَّ فجر من التاريخ، وتتغاوى مدينةً جميلةً، وميثولوجيا جميلةً، وعاصمةً جميلةً بأَناقة الأَربعة العناصر. الكلامُ على سِحْرها لا يقتصر على أَمسها وحده، ولا على طبيعتها وأُسَرِها ودَوْرها وحسْب، بل يتسلَّل إِلى صمت الأَبواب وسُكون الشبابيك وهمس الشرُفات وقيلولة القناطر، في مهرجان بصري رائع من الصوَر والخرائط والوجوه والمنازل والشوارع والأَمكنة والمساجد والكنائس والعمارات والقصور والساحات والروايات والقصص الحية من أَصحابها أَو من أَهل أَصحابها. بيروت قصة حب بـ”بيروت قصة حب” يوجز الكاتب والإِعلامي والوزير السابق محمد المشنوق بحثه النوستالجي النادر “بيروت… قصَّةُ حُبّ” مخصصًا إِياه للأَبواب والشبابيك والقناطر، وينسج منها جميعًا بوحًا ناطقًا لسِرّ السُّكوت. كلُّ ذلك من دون أَن يُخفي هيامه: “منذ طفولتي تضجُّ بي بيروت. أَوَّلُ ما قمتُ به بعدما أَهداني أَبي آلة تصوير فوتوغرافي: التقاطُ صُوَر الأَحياء والمنازل القديمة وجوانبَ من الشاطئ والكثيرِ من صخرة الروشة التي كنت أَعتبرها رمز بيروت (…). رحتُ أَتجوَّل في شوارع بيروت، مع الصباح الباكر أَو قُبَيل الغروب. ولأَنني لستُ شاعرًا ولا رسامًا، رحتُ بالصورة أَكتبُ لبيروت من الوجدان ما كانت عيني تلتقِطُهُ من لحظات المدينة في جمالها، في تاريخها، في فرحتها، فكانت صُوَر الكتاب لبعض الجمال الكامن في المدينة من عَينِ عاشِقٍ تبحثُ في جميع الزوايا، وترصدُ كلَّ الحلا، وتقدِّم للعاشقين بعضَ ما يبحثون عنه كلما اجتاحتْهم هجمةُ التغيير والتحوُّل في الناس والمدينة. قمت بذلك لأَفهمَ، كما غيري من العاشقين، معنى التعلُّق، ومعنى الإِخلاص، ومعنى الوفاء لبيروت”. سمفونيا الأَبواب والشبابيك بِهذه الكلمات افتتح محمد المشنوق كتابَه وتتالت فيه أَربعٌ وعشرون صورةً مع تعليقاتِها تنقل جمالَ منازلَ وواجهاتٍ وشبابيكَ وقناطرَ وشرفاتٍ من أَحياء وشوارع: بين برج أَبي حيدر وشارع سرسق، والصيفي وميناء الحصن والمرفأ وزقاق البلاط وساحة الشهداء وتلَّة الخياط ورأْس بيروت وفرن الحايك وكليمانصو وطريق الشام عند المتحف الوطني وشارع المارسِيِّيز وحيّ الظريف وطلعة جنبلاط وحديقة الصنائع ومنطقة المنارة وحي مار نقولا والروشة والبطركية والمصيطبة وسواها من الأَحياء والشوارع. ومن صُوَر الكتاب تطلُّ دهْشاتٌ بيروتيةٌ جميلة: مرةً من واجهةٍ تعتزُّ بقناطرها، مرةً من شرفةٍ مهجورة إِلَّا من عشْبِ الزمن المالح، مرةً من قرميدٍ يُظلِّل شُرفةً تتلأْلأُ بزجاجها النابض، مرةً من طاقةٍ تنتظرُ وصولَ الدوريِّ حاملًا قَشَّه ليبني عشَّه الآمن، مرةً من باب مُقْفَلٍ على ذكرياتٍ بِلَون صَدَئِهِ العتيق، مرةً بنبتةٍ تطاوَلَت حتى عرَّشَت على جبينِ بابٍ وشبَّاك، مرةً بِوَرْدٍ يُسَيِّجُ ذَقْنَ بنايةٍ ذاتِ نكهةٍ بيروتية، مرةً بِـ”نَزْل الأُدباء” في شارع الجمّيزة، مرةً بِمصباحٍ مُطْفَإٍ ينتظر يدًا تَمتدُّ إِليه كي تَهِبَهُ شَرارةَ النور. ابتهالات إِلى نجمة بيروت كتاب محمد المشنوق “بيروت… قصَّة حُبّ” قُبلةٌ وَفيَّةٌ على جبين بيروت، تَجعلنا نُحِبُّ بيروت أَكثر، ونُحبُّ فيها ليلَ بيروت وقمَرَ بيروت ونَجمةَ بيروت…، وشَمسَ بيروت التي لا تَغيبُ عنها إِلَّا لِتُشْرِقَ عليها بفجرٍ جديدٍ حاملًا أَمَلًا جديدًا يَجعلُها القِلادَةَ السحريةَ الأَجمل في عُنْق لبنان. ملامح من الذاكرة المحامي عمر الزين كتب عن بيروت “كي تبقى لبيروتَ قِيَمُها وروحُها، ومن أَجل حمايتها مِـمّن يُـحاولون تغييرَها في اتّجاه المذهبية والتعصُّب والانعزال والفساد والمفْسِدين، بنُكران تاريخ العاصمة وجغرافيا الوطن“. من مراجعَ قديمةٍ استقى المؤلِّف مصادر نصوصه، ومن مَـخطوطاتٍ قديمة، ومن وثائقَ تأَنّى في جَـمْعها وتبويبها وتنسيقها لتخرْجُ أَنيقةَ العرض عن بيروت عُمومًا: شوارعَ وأَحياءَ وسِيَرًا وعاداتٍ وتقاليدَ وواقعًا فكريًا وسياسيًا وإِداريًا وثقافيًا واجتماعيًا وتعليميًا وتربويًا وصحافيًا ومهنيًا وصحيًا وفنيًا منذ 1877 حتى ستينات القرن الماضي، مضيئًا على دور بيروت وأَبناء بيروت في التحرير والاستقلال، وفي تعزيز الثقافة والعلم والقانون والتربية والفقْهَين الأَدبِـيّ والدينيّ، وفي إِغناء المكتبة اللبنانية والعربية والعالَـمية بكتُبٍ ومَـجلَّاتٍ وصحُفٍ، إِلى دَور بيروت الرائد عربيًا في نهضة فنية وموسيقية وغنائية ومسرحية وروائية عرفها القرن الماضي مواصلًا مطالعها ومَشاعلَها من القرن التاسع عشر. بيروت صوت الشرق العربي تَـخرُج بيروت من هذا الكتاب عروسًا على بَهاءٍ وجمال، صوتَ الشرق العربي في الدفاع عن العدالة وحقوق المظلومين، وفي رفْد المنطقة العربية برجالٍ علَّموا الشرق كيف يكون استلال الحريَّة من أَشداق الظُلْم مهما طغى وبغى، وبمعالِـمَ جعلَت بيروتَنا الغالية ذات حقبةٍ مستشفى العرب وجامعتَهم ومدرستَهم وصحيفتَهم ومطبعتَهم وناشِرةَ تراثهم من كل قُطْر وإِبداع. المؤَلف هو المحامي عمر زين (الأَمين العام السابق لاتحاد المحامين العرب، عضو مجلس نقابة المحامين في بيروت بين 1988 و1996، المنسق العام لشبكة الأَمان للسلم الأَهلي، رئيس المنظمة العربية لحماية ومساندة الصحافيين وسجناء الرأْي، المنسق العام للجنة الدفاع عن الأَسرى والمعتقلين في السجون الصهيونية)، وهو جمع في 644 صفحةً من الحجم الموسوعي الكبير ملامحَ وَضَّاءةً في كتابه “من ذاكرة بيروت“: عائلاتٍ عريقةً، وأَعلامًا وأَئمَّةً وعُلَماءَ خلَدوا في تاريخ لبنان، ومعالِـمَ بعضُها غاب والآخرُ لا يزال شاهدًا على العصر والمكان. ويـَخرج القارئ من هذا الكتاب فَخورًا ببيروت بلاده، وعاصمة وطنه، ولؤْلؤةِ أَرضه الخيّرة، مُبارِكًا كلَّ حِقْبةٍ من تاريخ لبنان كانت فيها بيروت حلْمَ قاصديها من دول المنطقة، وفيها دائمًا لبنانُ قمرُ الشرقِ المضيْء ليلُهُ على ظلُماتٍ كَشَحَتْها بيروت وعلَّمت الشرق العربي كيف يكْشَحُها عن أَرضه وشعبه وتاريخه. بيروت عاصمة العراقة هكذا: بالصوَر والخرائط والوجوه والمنازل والشوارع والأَمكنة والمساجد والكنائس والعمارات والقصور والساحات والروايات والقصص الحية من أَصحابها أَو من أَهل أَصحابها، رسم المؤَلف في اثني عشر فصلًا مكوِّنات الأَماكن والأَشخاص والعائلات والنضال والمظاهر الشعبية والعقارات والعادات والتقاليد والأَحياء البسطاوية، حتى لَكتابُهُ تاريخُ مدينةٍ ليست عاصمةَ وطنٍ وحسْب بل عاصمةُ عراقةٍ من الأَمس انهدلَت إِلى الحاضر كي تحفَظ للآتي من الأَيام إِرثًا عرف أَبناؤُه كيف يُـحافظون عليه، وكيف يَنقلون شعلتَه جيلًا بعد جيلٍ إِلى أَبناء بيروت والوطن كلِّه، من هذا اللبنان الذي عند فواصلِ كلِّ دسكرةٍ فيه وكلِّ مدينةٍ وكلِّ قريةٍ وكلِّ حيٍّ، قصصٌ وحكاياتٌ ووجوهٌ وذكرياتٌ لا يتَّسع لها سِفْرٌ ولا يَـحصُرُها كتاب، تجعل من بيروت واحةً تـَجَمَّعَت عليها نيرانُ الحسَد فلم تُـحرقْ منها سوى طَرَفٍ مُوَقَّتٍ من فستان العرْس، ولم يَـحترقْ – ولن يَـحترق – وجهُ العروس. هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).