السفير د. هشام حمدان/النهار العربي: ملاحقة إيران والمتواطئين معها قضائيّاً واجب وطنيّ

27

ملاحقة إيران والمتواطئين معها قضائيّاً واجب وطنيّ
السفير د. هشام حمدان/النهار العربي/07 كانون الأول/2024

توقّفت الحرب أخيراً، وتمّ الإعلان عن اتفاق لوقف النار. ما زالت الخطوات لتطبيق هذا الاتفاق، في بداياتها. إسرائيل ما زالت تقوم بتنظيف منطقة جنوب الليطاني من جيوب “حزب الله”، ومخابئ أسلحته وخنادقه. لديها شهران للقيام بذلك. لم تكتمل بعد آلية مراقبة وقف النار. بل نستمع إلى مسؤولين روحيين، وزمنيين، يتحدثون عن “هدنة”، أيّ أنّ وقف النار بالنسبة إليهم، ليس سوى هدنة. ما زلنا نرى مظاهر رفض للانهزام لدى “حزب الله”، وحديث عن عودة إلى بدء. ورغم ذلك، بدأ الحديث سريعاً عن إعادة الإعمار، وبدأ الرّأي العام يتحدّث عن صفقات جاهزة لنهب جديد للمال العامّ.

من المؤسف أنّ من يتحدّث عن هدنة، يبعث في عقول العامّة ارتباكاً، قد يكون مقصوداً، للخلط بين اتفاق الهدنة بين إسرائيل ولبنان لعام 1949، واتفاق وقف النار. لبنان يلتزم اتفاقية هدنة مع إسرائيل منذ عام 1949، وكان الاستقرار والهدوء يسود المنطقة. فرض تدخّل سورية وإيران عبر ميليشيات هذه الأخيرة، حالة الحرب السائدة على أراضيه. لبنان لم يكن طرفاً في أيّ من الحروب التي قامت بها ميليشيا سوريّة وإيران عبر الحدود اللبنانية ضدّ إسرائيل. لبنان لا صلة له بما جرى من حرب على أرضه. كلّها كانت حروباً بقرار إيراني، وتمويل إيراني، وسلاح إيراني. لا يجوز إطلاقاً، تحميل لبنان وزر الأضرار التي حصلت نتيجة هذه الحرب، ولا تحميله نتائج الأضرار التي حصلت بسبب ممارسة دويلة تمارس خارج إرادة الدولة، قرار الحرب والسلم. لا يجوز أن يكون لبنان واللبنانيون مسؤولين عن هذا الدمار الذي شهده لبنان نتيجة تلك الحروب، أو عن حروب هذه الميليشيا. ادّعت الميليشيا الإيرانية أنّها قوّة مقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي للبنان. لكنّ الأهداف المرجوّة من نشاطها، خالفت بوضوح المفهوم القانوني لحقّ المقاومة.

نحن نرى أنّ الملاحقة القضائية لإيران، وللمتواطئين معها، واجب وطني. لبنان وشعبه كانا ضحيّة التدخّل الخارجي في شؤونه الداخلية. فمنذ عام 1982، أنشأت إيران وبموافقة من النظام السوري، ميليشيا مسلحة في لبنان، تابعة لها عسكرياً، ومالياً، وأيديولوجياً، تقوم هي بتمويلها، وتدريب عناصرها، وجعلتها ذراعاً للحرس الثوري، تقوم بخوض حروب لمصلحته، ووفقاً لإرادته ، ضدّ دول أخرى في المنطقة وخارجها. وعلى الرغم من توقيع اتفاق الطائف عام 1989، فقد منع النظام السوري عودة السيادة الكاملة إلى الدولة، واغتال الرئيس رينه معوض، وفرض سلطة سياسية خاضعة له، مكّنته من فرض إبقاء السلاح وقرار الحرب والسلم بيده، بالتعاون مع إيران، والميليشيا التابعة لها. ولمّا غادر النظام السّوري لبنان، أصبحت إيران هي المسؤول المباشر عن انتهاك السيادة الوطنية.

يعتبر تدخل إيران في لبنان، جريمة عدوان وفقاً للقانون الدولي. فما قامت به إيران من إنشاء جماعات مسلحة، أو قوات غير نظامية، أو مرتزقة (حزب الله، وأنصار حزب الله) في بلدنا، تقوم بأعمال القوة المسلحة، يخضع لتعريف قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3314 تاريخ 14 كانون الأول/ديسمبر 1974، الذي وضع بإجماع دولي، القاعدة القانونية الدولية لتعريف العدوان.

اعتبر الفقه القانوني أنّ هذا التعريف، يستند إلى ثلاثة معايير، وهي كلّها تنطبق على التدخل الإيراني في لبنان. فإيران دولة (المعيار الأول)، وتدخلها يرتّب عليها مسؤولية واضحة كدولة (المعيار الثاني)، بدليل استخدام هذه الميليشيا في لبنان، لدعم حربها ضدّ العراق خلال الثمانينيات، من خلال الهجمات التي شنّتها ضد أهداف على الأراضي اللبنانية لفرنسا والولايات المتحدة وغيرها من الدول، التي كانت تساند العراق في حربه ضدها، وكان مواطنوها متواجدين في لبنان لأهداف تخدم السّلم فيه. كما أنّها استخدمت هذه الميليشيات في صراعاتها الإقليمية والدولية، حيث اكتشفت دول متعدّدة خلايا إرهابية تابعة لها، على أراضيها، كانت تعدّ لأعمال عسكرية. كما أنّ الحرب ضدّ إسرائيل، تعبّر بكلّ وضوح، عن عمق تدخّلها العدواني في لبنان. فهي جعلت لبنان ساحة حرب كاملة لحربها ضدّ إسرائيل. بلغ هذا التدخّل مستوى كاف من الخطورة (المعيار الثالث) إذ بلغ حداً لحرب مباشرة بين البلدين هدّد الأمن والسلم الدوليين. كما خلّف الدمار والخراب والقتلى في لبنان وإسرائيل، وأوجب تدخّل مجلس الأمن مراراً، وأثار ردود فعل إسرائيل تحت حجّة الدفاع عن النفس، ودفع دولاً من المجتمع الدولي لوصفها دولة راعية للإرهاب، وإنزال عقوبات بحقّها.

نحن نطالب بالعدالة للبنان وشعبه. نطالب أن تقوم الحكومة بمطالبة إيران بالتعويضات لإعادة إعمار ما تدمّر. لا نقبل أن ندفع نحن الثمن لعدوانها. وإذا رفضت إيران دفع تعويضات، يمكن للحكومة أن تطالبها بهذه التعويضات، أمام محكمة العدل الدولية. هذا إضافة إلى أنّه يمكن للمتضررين، ملاحقة قادة إيران أمام المحكمة الجنائيّة الدولية. فقد اعتمدت جمعية الدول الأطراف، أثناء انعقاد أول مؤتمر استعراضي لنظام روما الأساسي في كمبالا، أوغندا من الفترة بين 31 أيّار/مايو و 10 حزيران/يونيو 2010، قراراً، يشتمل على تعريف لجريمة العدوان، ونظاماً، يحدّد كيف ستمارس المحكمة اختصاصها بشأن هذه الجريمة. استند تعريف المحكمة لجريمة العدوان، إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3314 لسنة 1974. ووفقاً لأركان الجريمة التي حدّدتها المحكمة، فإنّ الأشخاص في إيران، الذين ارتكبوا جريمة العدوان ضدّ لبنان، هم أشخاص يمارسون السيطرة وتوجيه العمل السياسي والعسكري لإيران. وما قامت به ميليشيا “حزب الله”، كان تصرّفاً كعملاء فعليّين لإيران، وباعترافهم العلني والصّريح.

لا نقبل فكرة الإفلات من العقوبة، لا سيّما وأنّنا كنّا نمثل لبنان في مفاوضات إنشاء المحكمة الجنائية الدوليّة، حيث أصرّ العالم على رفض التّورية عن الجرائم المماثلة. نعم، لبنان ليس عضواً في نظام روما نتيجة معارضة الرئيس بري بحججه المعروفة. لكن يمكن للمتضررين، ومن خلال تكليف محامين اختصاصيّين، تحريك الملاحقة أمام المحكمة من خلال تقديم الأدلة المنشودة التي عرضناها أعلاه إلى المدّعي العام. للمدعي العام في ما يتعلّق بجريمة العدوان، أن يباشر بإجراء تحقيق بمبادرة منه، أو من خلال طلب لدولة عضو في المحكمة، يمكن أن تطلب منه ذلك. لدى المدّعي العام ما يكفي من أدلة، وقرارات لمجل الأمن، تبيّن أنّ ما قامت به الميليشيا الإيرانيّة، يرقى إلى جريمة عدوان، ما يفرض عليه عرض الموضوع على الشعبة التمهيديّة في المحكمة، لتأذن ببدء التحقيق.

واستطراداً، يجب ملاحقة المتواطئين مع إيران وميليشياتها. قد تبدو حالة لبنان بالنسبة لأيّ مراقب خارجي، فريدة من نوعها، لكن هذا المراقب سيكتشف سريعاً ما قام به أركان السلطة طوال العقود الماضية، من تواطؤ مع الميليشيا الإيرانية. فلبنان بلد ديمقراطي تحكمه الآليّات القانونيّة، مثل كلّ بلد ديمقراطي غربي. ينصّ الدستور اللبناني، على أحكام تضمن الحريات العامة، وسيادة القانون، والفصل بين السلطات، وتناوب السلطة عبر انتخابات حرّة دورية. ويقيم الدستور موجباً على السلطة التنفيذية لحماية سيادة لبنان، واستقلاله، والسهر على تنفيذ مبادئ الدستور. ولدى لبنان جيش نظامي قادر وفاعل. كما ينصّ على آلية لمراقبة عمل السلطة ومساءلتها، وخاصة من خلال السلطتين التشريعية والقضائية، بحيث تتمّ مساءلة المسؤول في هذه السلطة عندما يفشل في مهمّته. وتأتي المساءلة في إطار تدرجي يرتقي إلى مرتبة الخيانة العظمى. لماذا لم يطبّق الدستور. لا الحكومة حافظت على سيادة لبنان واستقلاله، ولا آليات المراقبة قامت بمهمّاتها. كما أنّ الشعب الذي لا يكفّ عن الصراخ، يبدو مستسلماً في آن معاً، بسبب قانون الانتخاب الذي وضعه أركان السلطة على قياسهم، بغية منع التغيير الديمقراطي المنشود.

فضحت جريمة المرفأ عام 2020، عمق الجريمة المرتكبة ضدّ لبنان وشعبه، تحت عنوان التعايش بين الدولة والدويلة. فلبنان، بكلّ مرافقه ومناطقه، صار ساحة لخدمة الدويلة مقابل ترك الدويلة أركان السلطة يستغلون ثروة لبنان، وحمايتهم، ما أوصل لبنان الذي وصف بسويسرا الشرق، إلى الانهيار الاقتصادي، ونهب أموال المودعين.

في الواقع، استطاعت الميليشيا تحييد المعارضين بالترهيب والاغتيالات، لكنّها تمكّنت أيضاً، من استقطاب آخرين بالإغراءات. لم يحصل في أيّ بلد في العالم، أن سلطاته سمحت كما فعلت سلطات لبنان، بقيام دويلة داخل الدولة. من السائد أن تقوم الدويلة بإسقاط الدولة لإقامة دولة تحكمها وفقا لمفاهيمها، أو أن تقوم الدولة بإنهاء مظاهر الدويلة. لم يمكن لأيّ من الجانبين في لبنان، التخلّص من الآخر. وهكذا حصلت مساومة في الدوحة عام 2008، تحوّل فيه لبنان، إلى حالة استثنائية تتوزع فيها السلطة بين دولتين: دولة تعكس مظاهر الالتزام بالنظام الدولي، ودولة تعكس الالتزام بنظام إلهي تحت راية الوليّ الفقيه في إيران. وترتّبت أمور إدارة الدولة، في ظلّ هذا النسيج الهجين. زادت الجرائم في حقّ الشعب والوطن من دون حساب. سادت وطنياً، فكرة الإفلات من العقوبة. تجب مواجهة كلّ ذلك. نريد اللجوء إلى القضاء الدولي. يجب وقف الإفلات من المحاسبة والعقوبة.