شارل الياس شرتوني/مسألة النزوح السوري والجمهورية المتداعية

64

مسألة النزوح السوري والجمهورية المتداعية
شارل الياس شرتوني/26 نيسان/2023

ظهرت التصريحات المتوالية، من قبل أطراف النزاع في سوريا، إجماعهم على كره لبنان واللبنانيين، ورغبتهم المشتركة في تدميره، واستباحة سلمه الاهلي، وقواعد الاجتماع السياسي الديموقراطي والليبرالي التي قام عليها. إن مجرد الاستماع لمفردات الحقد والعقد النفسية والرغبات الدفينة التي تعتمل في أوساط سورية شتى، أنستهم ما الذي عاشوه من حروب تدميرية على أرضهم ،للتفرغ لمشروعهم المشترك القاضي تدمير لبنان، ودعوة النازحين السوريين للتسلح واستباحة أمن اللبنانيين ووضع اليد على أرضهم، التي هي بحسب هؤلاء أراض سورية. هذه مقولات سبق أن سمعناها على عقود من الأنظمة السورية المتوالية ومن تيارات في الداخل اللبناني، بدءا من الزمن الوحدوي العربي، ومرورًا بتحالف المنظمات العسكرية الفلسطينية واليسار اللبناني، ووصولًا الى التيارات الانقلابية الشيعية التي تقودها إيران إقليميًا. ثمة سؤال يطرح اليوم حول أسباب موجة البغض المتهافتة علينا، في حين أن السوريين الذي تركوا بلادهم، قسرًا أم طوعًا ، دخلوا الاراضي اللبنانية خارجًا عن كل القواعد المعتمدة بين الدول، وأعادوا بناء حياتهم داخل النسيج الاجتماعي والمهني اللبناني دون عوائق وموجبات قانونية وتنظيمية تذكر، ومن خلال شبكات مساعدات دولية، تجاهلت لبنان واللبنانيين المكتوين بأزماتهم القاتلة. نشأت بعض التوترات الهامشية التي لا تذكر، إذا ما قورنت بحجم ووتيرة التوافد السوري الكثيف، الذي بات يهدد التوازنات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية الكلية في بلد يرزح تحت وطأة أزمات كيانية وحياتية مميتة.

إن مواقف الكره المعلن، التي أجمعت عليها أطراف النظام والمعارضة في سوريا، قد أخرجت إشكالية النزوح السوري في لبنان من دائرة المسألة الإنسانية والاجتماعية الى المسألة السياسية، التي تستهدف الكيان الوطني اللبناني وقواعد الاجتماع السياسي في البلاد، من قبل السوريين الوافدين الى أرضنا والذين تحركهم مفكرات سياسية تستهدف السلم الاهلي، كما تعلنها جهارًا هذه الفئات السياسية. لم يعد هنالك من مجال للسكوت عن هذه المناخات المسمومة، إذا ما كان هنالك من إرادة لوقف هذا المسار النزاعي المفتعل، الذي يتغذى من واقع التعطيل السياسي المدمر الذي أرسته الاوليغارشية الشيعية المسيطرة وحلفاؤها. بكلام آخر لا بد من أن تدرج مسألة النزوح السوري وتردداتها المدمرة في صلب التسوية السياسية في البلاد، إذا كان هنالك لدى هذه الاوليغارشية المسيطرة من رغبة في إيجاد مخرج نهائي لهذه الحلقات النزاعية المتناسلة، التي توصف أداء حزب الله ومواليه وحلفائه السياسيين العابري الطوائف. إن الإبقاء على الحلقات النزاعية الجهنمية ليس من باب الصدف، إنما تعبيرا مباشرًا عن إرادة سيطرة تستعمل كل الموضوعات النزاعية وقودا من أجل متابعة التفكيك المنهجي للحيثيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي قامت عليها بلادنا منذ نشأتها. لا إمكانية بعد اليوم لتأجيل إستحقاق الوجود السوري أو عزله عن ضرورة حل الأزمات الكيانية اللبنانية المتكاثفة. تنعقد محاور الحل حول المحاور السياسية التالية:

أ- مسألة النزوح السوري ليست قدرًا علينا التأقلم مع إملاءاته، بل معلما من معالم التفكك البنيوي للدولة السورية الذي لا تقع على اللبنانيين مسؤولية معالجته، فهذا شأن سوري داخلي ودولي وإقليمي، من خلال مراجع التحكيم والوساطة والمعالجة التي تستحثها الديناميكيات النزاعية القائمة. يرتبط هذا الاستقراء بتحفظين منهجيين لجهة إمكانية فصل إشكالية النزوح السوري عن سياسة النفوذ الايرانية التي يقودها حزب الله، داخليًا وإقليميًا، على قاعدة جيو-پوليتيكية إستوائية تنطلق من الجنوب اللبناني باتجاه الداخل السوري وصولا الى السواحل البحرية السورية. أما التحفظ الثاني فينطوي على استعمال النزوح السوري رافعة انقلابية، من قبل سياسات النفوذ الإقليمية المتداخلة على خط تقاطع يجمع النظام الايراني والسوري والتركي وحركات الارهاب الاسلاموية، وتحويل لبنان الى ساحة نزاعات بديلة مفتوحة على نزاعات المنطقة. نحن أمام التئامات نزاعية ترتبط عضويا بإمكانية إيجاد تسوية سياسية في الداخل اللبناني، على قاعدة فصل المسارات النزاعية المتداخلة في منطقة تعيش على وقع انفجار النظام الاقليمي والتباسات إعادة ترميمه، وضبابية التسوية السعودية-الايرانية التي دفعت بها الصين مدخلا لسياستها الامپريالية المستحدثة في المنطقة، وهشاشة تركيبتها على خط التواصل بين أعطاب الدول الإقليمية، وتقاسم النفوذ بين السياسات الامپريالية السنية والشيعية التي تتغذى منها. هل التسوية السياسية المفترضة قادرة على صياغة مسارها على قواعد سياسية غير ملتبسة، لجهة إعطاء لبنان حيثياته السيادية على حساب سياسات النفوذ الاقليمية التي تستثمر في روافعه النزاعية الداخلية والوافدة؟

ب- لا بد من تبديد الالتباسات العائدة لسوق العمل اللبناني والعمالة السورية وتنظيمها على قاعدة إدارة رشيدة لهذا الواقع كجزء أساسي من إعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني، وسياسات العمل على أسس متماسكة لجهة حماية اليد العاملة اللبنانية، وتنظيم تداخل سوقي العمل على قواعد قانونية تضع حدا للالتباسات القائمة وللمارسات غير السوية. هذا الاعتبار يملي فصلا بين إشكاليات التهجير والعمالة السورية والعمل على التمييز بين مترتباتها. إن اعادة الملف السوري الى دائرة الاعتبارات السيادية اللبنانية ،يوجب وضع حد لمداخلة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية لجهة القرار السياسي في هذا الشأن. هذا يملي على الدولة اللبنانية الخوض في عمل دپلوماسي وحكومي هادف باتجاه نقل المخيمات الى الدواخل السورية بإشراف الأمم المتحدة الأمني والحياتي، ووضع خطة لاجلاء السوريين الى بلادهم على أساس مرحلية لا تتجاوز السنة، ووضع حد لسياسة التسيب التي تحكم واقع التنقل الاستنسابي بين البلدين. لقد آن الاوان لوضع آلية عملية لعودة السوريين الى بلادهم باشراف الأمم المتحدة، وإفهام المنظمات الدولية أن لمداخلتها حدودًا سيادية لبنانية، لا شراكة فيها لا معهم ولا مع نظام بشار الأسد، وسياسات إيران والاسلاميين الاتراك والجهاديين، الذين يستثمرون في الروافع الانقلابية التي يؤمنها النزوح السوري. إن سياسة الخلط في الاعتبارات هي نهج إرادي، يستهدف الكيان اللبناني من قبل سياسات النفوذ الانقلابية على الصعيد الاقليمي، وسياسات الاستنكاف عن إيجاد الحلول للأزمات السورية والاقليمية على المستوى الدولي، والاستثمار في ديناميكياتها النزاعية.

لبنان لم يعد بوارد تحمل تبعات الحرب الاهلية السورية ولا تشابكاتها مع سياسات النفوذ الاقليمية وأهدافها المتعارضة، ولا إجرام نظام الأسد وداعش والنصرة، ولا رغبة سياسات النفوذ الايرانية والروسية في الابقاء على النطاقات السورية والعراقية والفلسطينية واللبنانية المتفجرة منطلقا لسياسات نزاعية استنسابية متحركة. إن أية مقاربة لمسألة النزوح السوري خارجًا عن هذه الاعتبارات، والتستر وراء اعتبارات إنسانية ممتهنة ومزيفة (ادعاءات العنصرية)، هي مشاركة عملية في تدمير الحيثيات الدولية والوطنية لبلد عانى من توالي ٦٥سنة من المداخلات الانقلابية الاقليمية وتواطاءاتها الداخلية. إن التباطؤ في إيجاد الحلول لهذه المسائل النزاعية المترادفة سوف يضع لبنان أمام سياسات انقلابية متعارضة تعيد إحياء الديناميكيات النزاعية في الداخل اللبناني، وموجات التفكك التي تترصد النسيج الدولتي الاقليمي المتداعي.