تحولات في حياة عامل سوري أكرم البني/الحياة/01 أيار/15
من يتذكر عيد العمال الآن؟! أجاب بسؤال يفيض أسىً وألماً. قبل سنوات، كان للأول من أيار(مايو) طعم مختلف، كان حافزاً لتضامننا من أجل مستقبل أفضل، وإعلاناً عن همومنا المشتركة بعيداً من أي تمييز عرقي أو ديني، أما اليوم فأي معنى للعيد بعد هذا الخراب والتفكك، وبعد أن فقد ملايين العمال أشغالهم ومساكنهم، وبعد أن شوّهت النزعات الطائفية والعشائرية البنية المجتمعية وأطبق منطق العنف واحتقار حياة الإنسان على أرواحنا وعقولنا؟! هل نعود كما كنا؟! يُكرر السؤال مرة تلو أخرى، قبل أن يستدرك ويوضح بأنه لا يقصد العودة إلى أيام زمان وإلى مناخات التمييز والقهر، فقد أعلن جهاراً تأييده جموع الناس حين خرجت في تظاهرات سلمية تطالب بالحرية والكرامة، لكنه لا يجد نفسه اليوم إلا قلقاً على مستقبل مفتوح على الأسوأ، ومثلما رفض العنف السلطوي بداية، يرفض الآن كل سلاح يرفع بين أبناء الوطن الواحد. كان ينتمي إلى تنظيم شيوعي عريق ويحلم بمجتمع يفيض بالعدالة، ومع اعترافه بمشروعية حراك البشر وحقهم بالتغيير، كان يربط ما يعجز عن تفسيره بفكرة المؤامرة وبوجود مصالح استعمارية غرضها النيل من وحدة الوطن وقوته، لكن ما صار يخفف من وطأة هذه الفكرة، رؤيته للنتائج المأساوية التي وصل إليها المجتمع اقتصادياً وإنسانياً، واقتناعه بأن استمرار ظواهر الاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان والتخلف والفقر والتعبئة الدينية، هي عوامل متضافرة وفّرت المناخ للعنف والفوضى ولترعرع الإرهاب واستدراج الأجنبي.
يجاهر بأنه من أشد المعادين لأميركا الإمبريالية، لكنه لم يعد يخفي شعوره بالامتعاض من سلبية الإمبريالية ذاتها وعجز المجتمع الدولي عن وقف الأحداث الدموية في بلاده، وكأني به وهو الرافض أبداً لأي تدخل خارجي بالشؤون الوطنية، يضمر رغبة فيه عسى أن يوقف دوامة العنف وينقذ ما يمكن إنقاذه.
كان موقف موسكو من الصراع الدائر يشغل باله كثيراً، فهناك رفاق الأمس وقد عاش حياته يتغنى بالاتحاد السوفياتي وإنجازاته، لكنه لم يتقبل تكرار الفيتو الروسي في مجلس الأمن، وصار يقنع نفسه والآخرين بوجود معطيات لا يعرفها تسوّغ لقادة الكرملين هذا الخيار وأنه ربما نبع عن حرصهم على وحدة الوطن والدولة ومواجهة نيات تفتيتهما. يتحسّر اليوم على انحسار النفوذ الإقليمي لسورية، وكيف أصبحت مسرحاً لتدخلات الغير وساحة تتنافس عليها وفيها مختلف القوى الإقليمية والعالمية، ليدرك متأخراً مدى خطئه في المبالغة بمنح السياسة الخارجية الأولوية على حساب صحة الوضع الداخلي وعافيته، وبتوظيف النجاح في إنماء دور سورية الإقليمي لتمييع الانتقادات المحقة التي كانت توجّه ضدّ مظاهر الظلم والفساد.
لا يزال يستغرب رفض المعالجة السياسية لما يحصل وإصرار أهل الحكم على الحسم بالقوة العسكرية والعنف المفرط من دون حساب للعواقب الوطنية والإنسانية، بخاصة وقد جرّبوا مختلف أصناف الأسلحة ولم ينجحوا في تحقيق الغلبة، مثلما يستغرب فشل المعارضة السياسية بكل أطيافها في لعب دور مؤثر يشجّع الحلول السياسية، إلى أن بات يلومها على دعواتها إلى تسعير المعارك واستجرار السلاح، وغضّ بصرها عن تغلغل التنظيمات الجهادية في البلاد، ويلومها أكثر على فشلها في إظهار صورة مشجعة لبديل منشود، وعلى تعثرها، رغم فداحة التضحيات، في توحيد صفوفها وسياساتها، والأهم انصياعها لإرادة أطراف خارجية وانحطاط خطاب بعض رموزها إلى مستوى شتائم وتهم تصل إلى حد التخوين لقاء اختلاف سياسي أو مزاحمة تنظيمية.
تحذيره من خطر التنظيمات الإسلاموية ومن تغطيتها تحت ذريعة أولوية مواجهة النظام لم يعد يجدي نفعاً وقد وصلت سكينها إلى رقبته، وإذ شجع في ما مضى التعاون مع ما يسمى جماعات الإسلام المعتدل صار بعد التجربة المصرية يشكك بما ترفعه من شعارات عن الديموقراطية والدولة المدنية، ويعتبر دعوة الغرب لدعم الاعتدال الإسلامي لمواجهة الإرهاب الجهادي، دعوة سطحية ومغرضة، لإشغالنا بصراعات دينية متخلفة وتجميد خطط التنمية الديموقراطية.
ومع تبدل المشهد اليوم واحتدام المعارك في مدينته وسيطرة الجماعات الإسلاموية على أجزاء منها، احتار ماذا يفعل، هل يغادر وينجو وزوجته بعد أن خطف الموت أحد أولادهما وانتشله رفاقه بقايا جثة من تحت الأنقاض، أم يختار البقاء تحت رحمة القصف اليومي وذل عنف السلاح المتمادي؟ هو يدرك أن النزوح إلى مناطق أخرى خسارة لكل ما راكمه في حياته، وأنه سيكره على افتراش الساحات بحثاً عن عمل موقت كي يوفر بعض المال لإعانة أسرته، ويدرك أيضاً أن الهروب إلى بلدان الجوار هو أشد إيلاماً، فأمثاله يتعرضون هناك للترهيب ولمختلف الإساءات والإهانات، ومكرهون على القبول بأسوأ شروط العمل، أحياناً بأشغال لا تليق بالآدمي، وأحياناً بعمل طويل وجهد كبير لقاء أجر قليل، ويدرك تالياً أنه من المحال أن يتكيف أو يخضع لنمط الحياة البربرية التي يفرضها المتشددون الجهاديون على الناس.
عرف بقطع رأس شاب في ساحة المدينة اتهم بالكفر، وبرجم أمرأة على أنها زانية، وسمع عن إرهاب المدرّسين وحملة الشهادات العلمية، وعن ضغوط وابتزازات تتعرض له بعض العائلات لتزويج بناتها القاصرات لمجاهدين، أو لإجبارها على الخنوع أو الهرب، لكنه لم يستطع منع زوجته من الخروج إلى الشارع سافرة لتصرخ في وجه بعض الملثمين وهم يسوقون جارتهم، لإنزال شرع الله بحقها وجلدها أمام الجميع، لأن ثمة من رآها على شرفة منزلها بغطاء رأس منحسر، كانت ترعبه بعض الأصوات التي تؤنب زوجته وتدعو إلى معاقبتها أيضاً كعجوز سافرة. غابت الأصوات، ولم ينجلِ خوفه إلا حين سمع وقع أقدام زوجته تقترب، تبادلا النظرات بعيون حزينة ودامعة، أحس لأول مرة بثقل رأسها حين رمتها على كتفه، ربما لأنها المرة الأولى أيضاً التي يشعر فيها بحرقة عجزه عن تقديم ملاذ لها أو أمل!.