إيران و«العالم الشيعي» ونموذج التعددية التراتبية وسام سعادة/المستقبل
26 أيلول/14
واجهت إيران الاسلامية نوعين من التعددية، داخليّة وخارجية.
التعددية الداخلية حُصِرَت بأرضية الخمينية، وطوّرت لنفسها ثنائية تداولية بين محافظين واصلاحيين تعزّز سلطة الولي الفقيه كمرجعية تحكيمية، حتى اذا شذّت هذه الثنائية عن مألوفها نزلت الهراوات على رؤوس الاصلاحيين، وأحبطت الخاتمية ثم فُضّت دموياً الثورة الخضراء، الى ان أعيد تأهيل الموقع الإصلاحي بشخصية أكثر إلماماً بشروط «الاستبلشمنت» هي حسن روحاني. كذلك حصل ويحصل نوع من تشذيب للمحافظين، كلّما نشبت النزعات المهدوية المريبة بينهم، على ما كانت حال محمود أحمدي نجاد وفريقه في آخر أيام رئاسته.
أما التعددية الخارجية التي عنت إيران، فتلك التي تتصل بما تسمّيه صابرينا ميرفن بـ»العالم الشيعي» وهذا يشمل فضاءات ثلاثة: الدولتان ذات الأكثرية الشيعية الواسعة، إيران واذربيجان، والمتداخلتان كيانياً، كون اذربيجان اثنين، واحدة قوقازية مستقلة والثانية جزء عضوي من إيران، ثم الشيعة العرب، الامامية الاثني عشرية في العراق والبحرين والخليج وشبه الجزيرة ولبنان، ومن خلال اللبنانيين في افريقيا الغربية، ويضاف الى ذلك من هم من خارج النسيج، أي العلويون في سوريا وكيليكية، والزيديون في اليمن. وهناك الاقليم الثالث في هذه المعادلة الشيعية العالمية، أي شيعة شبه القارة الهندية، ثلاثون مليوناً في كل من الهند وباكستان، بالاضافة الى اقليات شيعية في أفغانستان، كالهزارة. هذا، وشملت النظرة الإيرانية الى العالم الشيعي بعد الثورة التوجه للتشيع الآخر، السبعي، الاسماعيلي، لا سيما في الهند، حيث الملايين من الخوجة والبهرة.
التعددية التي عنت إيران في داخلها كانت سياسية بالدرجة الأولى، وربطتها بثنائية اصلاحيين ومحافظين مقيّدين بولاية الفقيه، وفي الداخل ايضاً ثمة تعددية مذهبية واثنية واقليمية، أديرت أيضاً على قاعدة امتياز اقليم فارس والتفاوت في الحظوة بين الاقاليم، كما على قاعدة التوفيق بين الانتماءين القومي الإيراني والشيعي الاثني عشري. قياساً بالدول الوطنية الأخرى، كانت إيران الأقدر على التصرّف بالمسألة الكردية، وظل الرهان على النعرة الأذربيجانية داخلها يفتقد الى أسانيد واقعية. ورغم الوطأة الفارسية في الأهواز، فقد ظلّ المشترك المذهبي علامة وصل أساسية، واستفادت إيران من تقليعة «الحرب على الارهاب» لتصنع واحدة داخلية ضد المنتفضين عليها من المتطرفين السنّة في اقليم بلوشستان، من جماعة «جند الله». بشكل عام، يمكن القول ان إيران الاسلامية أدارت تعدديتها بنسق حيوي لا يتصدّع بسهولة.
أما التعددية الخارجية المتصلة بالعالم الشيعي فواسعة، وكان من الصعب أن تنفذ إيران اليها بعد الثورة وتصهرها في بوتقة جامعة. كان يبدو لعقدين ان «حزب الله» يتيم في عملية تصدير الثورة.
وعندما جرى احتلال العراق، كان الرهان لدى كثيرين على محدودية التحكّم الإيراني بالعالم الشيعي المتعدد، وعلى بروز مرجعية النجف في وجه مرجعية قم. لكن ما حصل، كان تطور الأمور في الاتجاه المعاكس، فشيئاً بعد شيء «زحلت» المكونات الشيعية «استراتيجياً» وبشكل يقارب «الإجماع» نحو إيران، ونوري المالكي الذي بدأ عهده باظهار تمايز عنها، مرتكزاً على خصوصية «حزب الدعوة»، سرعان ما تحيّز لنفوذها، وكذلك النظام البعثي في سوريا بعد موت حافظ الأسد، وخصوصاً بعد الثورة، واليوم، يحضر النفوذ الإيراني دون منازع حقيقي لدى أغلب الجماعات الشيعية، اثني عشرية او غير اثني عشرية في العالم، وبالنسبة للجماعات الأخيرة (من علويي سوريا الى الزيديين الى الخوجة والبهرة في الهند) تجري محاولة «اعادة انتاج» سردياتهم ومعتقداتهم وشعائرهم وفقاً للأيديولوجيا الخمينية، قدر ما هو متاح. طبعاً، الاستثناء الكبير في كل هذا يبقى اذربيجان الاثني عشرية نفسها، خصوصاً ان إيران هي أقرب للتحالف مع ارمينيا المسيحية، الجارة اللدود لأذربيجان.
نجحت إيران الاسلامية في اعادة صوغ «العالم الشيعي» كمتمحور حولها، وفي صوغ «تعددية تراتبية» داخلها وخارجها. في هذه التعددية ليس الجميع سواسية، بل هناك أعلى وأدنى، ومتون وهوامش، وهناك نموذج قريب دينياً وملتبس سياسياً، المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق مثلاً، ونموذج هجين ايديولوجياً لكن ثمين استراتيجياً ويعوّل عليه دينياً، كالحوثيين، ونموذج يفخر به محافظو إيران، ويحتجون به ضد اصلاحييهم، هو نموذج «حزب الله» عندنا، وهكذا…
في مقابل هذه القدرة الهيمنية والتوليفية التي بدّلت كثيراً في مشهد العالم الشيعي قبل ثلاثين عاماً وحاله اليوم، لم تتطور سنياً، عربياً أو تركياً أو باكستانياً، حالة توليفية مضادة. قد يقال ان هذا أفضل، لأنه يسمح بتفادي تسعير وتوسيع الصدام المذهبي والحضاري، وقد يقال عكس ذلك، لكن الأهم قبل كل شيء هو الإقرار بالأمر، اقرار واقع التقابل الجيو – ثقافي على ما هو عليه، بين «عالم شيعي متمحور حول إيران« ومحتكم الى «تعددية تراتبية» محورها ولاية الفقيه، وبين أنماط متشعبة من أزمة المشروعية ونضوبها، خصوصاً في الشرق العربي، وكذلك في الباكستان. وفي حين تمثّل تركيا نموذج الدولة الوطنية الذي يضاهي إيران، ان لم يتفوق عليه في التحديث والمأسسة والنمو، الا أنّ رهانات «العدالة والتنمية» على الاخوان المسلمين العرب جاءت حصيلتها معاكسة لنجاح إيران في استثمار المدى الذي يوفّره لها العالم الشيعي.. زد على ان «حماس» في غزّة، تحولت الى ملتقى النفوذين.
لأجل ذلك، عند متابعة مجريات الحرب المتعددة على تنظيم «داعش»، ينبغي ولو قليلاً، التفكير في هذا التفاوت: فالتمركز حول إيران شيعياً لا يجد ما يضاهيه «سنياً»، لا من الجهة التركية، قبل وبعد حكم الاسلاميين فيها، ولا عربياً، قبل وبعد «الثورات»، وقبل و»بعد» داعش.