لا يحتاج المرء إلى ذكاء ومعرفة كبيرين ليدرك أن الجيش اللبناني، مثله مثل غيره من مؤسسات الدولة اللبنانية، يعكس في سلوكه موازين القوى السياسية في البلاد قبل الاستراتيجية الدفاعية (غير المتفق عليها الى اليوم) والحاجات الأمنية.
ويمكن كتابة تاريخ الجيش في لبنان، منذ إنشاء “أفواج الشرق”، باعتباره مرآة للتاريخ السياسي بتفاصيله وتوازناته وأزماته وصراعاته. والأعوام العشرة الماضية، منذ بدء موجة الاغتيالات التي قدّمت للأزمة الراهنة، دليلاً لا يحتاج نقاشاً عن ميل الجيش مع الريح، بغض النظر عن مصدرها ووجهتها. ومنذ أحداث عرسال في آب (أغسطس) الماضي، بدا أن ثمة ضغطاً شديداً تتعرض له المؤسسة العسكرية لحملها على المشاركة في الحرب السورية ضمن معسكر النظام وحلفائه. وأسدت وسائل اعلام “الممانعة” خدمة نادرة لمتابعيها بتظهيرها تظهيراً يومياً مزاج وموقف قادة فريقها من الجيش وبانتقالهم في أقل من 48 ساعة من كيل المدائح لكل الجنود والضباط وصولاً إلى قائدهم، إلى ما يداني الشتائم الصريحة والاتهامات بالتخاذل بعدما رفض الجيش اقتحام عرسال معللاً ذلك برفضه ارتكاب مجزرة بحق المدنيين من اهالي البلدة واللاجئين السوريين فيها، في وقت يحتجز مسلحو “داعش” و”النصرة” عشرات الجنود اللبنانيين اسرى لديهما.
أرسل النظام السوري تحذيرات أقرب الى التهديدات طالباً من الحكومة والجيش استئناف التنسيق الأمني معه، وضغط في السر والعلن، في السياسة والميدان، لإشراك الجيش في معارك القلمون التي يريد إعادة الاستيلاء عليها ضمن عمليات تطهير محيط دمشق، بعد فشل المحاولة السابقة قبل اشهر.
في الأيام القليلة الماضية، بدا أن شيئاً ما انهار في قدرة الجانب اللبناني على استيعاب الضغوط السورية و”تدوير” زواياها، خصوصاً مع تصاعد الاعتداءات على الجيش في طرابلس والتفجير/ الرسالة الذي استهدف جنوده وسط عرسال، والذي يكاد مرسله “أن يقول خذوني”.
وجاءت الاستجابة عبر المداهمات الواسعة لمخيمات اللاجئين السوريين في مناطق تمتد من عكار شمالاً إلى النبطية جنوباً بحثاً عن مشبوهين ومطلوبين. غنيّ عن البيان أن الجيش يقوم في هذا السياق بواحدة من أولى مهماته في استباق أي عمل إرهابي يستهدف الأمن الذي سيتضرّر من جراء انفلاته اللاجئون والمواطنون سواء بسواء.
لكن ما جرى خصوصاً في عرسال من اعتداء واضح على اللاجئين وكراماتهم والممارسات والألفاظ العنصرية الصارخة التي أطلقها الجنود اللبنانيون، خرج من سياق العمل الأمني وصبّ مباشرة في خانة تنفيس الاحتقان الأهلي والسياسي ضد اللاجئين. البيان المقتضب الذي أصدرته قيادة الجيش بعد نشر مقطع فيديو يبدو فيه الجنود يعتدون على لاجئين ممدين أرضاً ثم البيان الآخر عن أحداث يوم أمس، لا يحيطان بحجم ما يحدث في البلدة والمخيمات حولها.
الرد السريع الذي قام به عدد من اللاجئين برفع علم “داعش” أمام مبنى بلدية عرسال ينبئ بحجم الفعل الكارثي الذي ارتكبته وحدة الجيش في البلدة والردود المتوقعة عليه، في الوقت الذي يهدد فيه إرهابيو “داعش” و”النصرة” بقتل المزيد من الجنود اللبنانيين الأسرى. ولا مفرّ من القول إن أحداث عرسال الأخيرة تزيد وضع الأسرى سوءاً على سوء. فإلى جانب الشوفينية والعنصرية وغيرهما من الصفات التي يستحقها أصحاب هذه الممارسات ومن يبرّرها ويدافع عنها، يتعيّن النظر إلى اعتقال أكثر من 450 سورياً في يوم واحد في لبنان، باعتباره خطوة إضافية نحو الاقتتال الأهلي وتكريس الأشكال المتنوعة من الحروب اللبنانية – السورية.