شارل الياس شرتوني/التدويل هو مدخل التغيير والسلم الاهلي

58

التدويل هو مدخل التغيير والسلم الاهلي

شارل الياس شرتوني/26 آذار/2021

“ورأيت وحشا خارجا من البحر والأرض، جعل أهل الأرض يسجدون له”. (رؤيا يوحنا، ٤/١٣).

إن المراهنة على حركة السياسات الداخلية وهم عطل الحراكات المدنية وضرب المد  التغييري في البلاد، وأحالنا الى واقع الاحباط الملازم للإقفالات السياسية التي فرضتها الاوليغارشيات السياسية بشكل مستمر منذ ١٩٩٠ ومتواتر منذ سنة ٢٠٠٥. لا مناص من التدويل إذا ما أردنا الحفاظ على السلم الأهلي وتلافي الدخول المتجدد في الرمال الإقليمية المتحركة، والخروج من الأزمات الحياتية القاتلة التي افتعلتها سياسات السيطرة منذ نهايات الحروب المتوالية (١٩٦٥-١٩٩٠) والمتأهبة حاضرًا مع الفاشيات الشيعية. لقد أفدنا من تجربة الحرب (١٩٧٥-١٩٩٠) ومرحلة الاحتلال السوري (١٩٩٠-٢٠٠٥)لجهة الخروج من إقفالات سياسات النفوذ الداخلية والخارجية التي فرضها تحالف اليسار والمنظمات الفلسطينية وسياسة النفوذ السورية، عندما بادرنا كمقاومة لبنانية الى بناء سياسة خارجية  وتفعيل عمل دپلوماسي في العواصم الديموقراطية الكبرى* (الولايات المتحدة، فرنسا، المانيا الاتحادية، الاتحاد الاوروپي…) وصياغة سياسة انقلابية مضادة انتهت مع اغتيال بشير الجميل.

تتابعت السياسة الاستقلالية من خلال المواجهة مع النظام السوري على وتائر متنوعة عكست تجدد الاقفالات وتمتينها من خلال تحالفاته مع سياسات النفوذ الشيعية والسنية والدرزية وما اصطنعه من ملحقات في الأوساط المسيحية، واستعادة زخمها بعد احداث الحادي عشر من ايلول ٢٠٠١**، مع تخريج قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان (SALSRA, December 16th, 2003) وقرار مجلس ألأمن ١٥٥٩ اللذين أوجدا الارضية اللازمة من أجل تحفيز ثورة الارز ( شباط،٢٠٠٥) باتجاه انسحاب الجيش السوري، وفرض العلاقات الدپلوماسية بين دولتي سوريا ولبنان، واستعادة استقلالية الديناميكية السياسية الداخلية تجاه سياسة النفوذ السورية ومضادتها الاقليمية (السعودية بشكل أساسي). غير أن هذا المد الاستقلالي ما لبث ان انكسر بفعل دخول المتغير الايراني كمفاعل ناظم للحياة السياسية اللبنانية بديلا عن سياسة النفوذ السورية، وبحكم التداخل العضوي بين سياسة النفوذ الشيعية التي تقودها إيران والتي يلعب فيها حزب الله دورا محوريا. لقد عدنا الى الأعطاب السياسية البنيوية للاجتماع السياسي الاقليمي، الذي ينعقد على خط التقاطع بين سياسات نفوذ الداخل والخارج التي تمليها الثقافة السياسية الاسلامية الكلاسيكية  وتصريفاتها، على مستوى تنازع الولاءات بين مفاهيم الدولة الوطنية والأمة الاسلامية ومشتقاتها المعاصرة. لا بد من استعادة مقاربة حل النزاعات في ظل الانهيارات العميمة التي ترخي بظلال ثقيلة على مستقبل البلاد انطلاقا من من الاعتبارات التالية:

أ- إن حيز الحلول الداخلية والتسويات التوافقية محاصر منذ بدايات ٢٠٠٥ بممناعات إيديولوجية ترتبط بمفهوم ولاية الفقيه وأدواتها الانقلابية على مستوى المداخلات العسكرية والسياسية الاقليمية حيث يلعب حزب الله دورا مركزيا على مستوى  تحصين شرعية نظام الجمهورية الاسلامية المتهاوية في الداخل الايراني، وتأمين سيطرته على المجتمع الشيعي اللبناني من خلال استراتيجية وضع اليد التدرجية على الدولة اللبنانية  وتحويلها الى وهم قانوني ومنطلقا لسياسات سيطرة في الدواخل اللبنانية والشرق أدنوية، ومنصة للعمل الاقتصادي المنحرف الذي يديره دوليا من خلال لبنان والمهاجر الشيعية في افريقيا واميركا الجنوبية، على أساس فرضية واهمة نسجتها سياسة النظام الدولي المضاد أيام هوغو تشاڤيز  وأحمدي نجاد، وتستكمل اليوم من خلال العلاقة مع الاوليغارشية العسكرية-المافيوية ( نيكولاس مادورو-طارق العيسمي-ديوسدادو كابيللو والكارتيلات الڤنزويللية…)التي تحكم ڤنزويللا حاليا، والعمل الاقتصادي غير المشروع لحزب الله على التخوم الپاراغوانية،البرازيلية،الارجنتينية، الاورغوانية وفي جزيرة مارغريتا…  تنطلق مداخلة حزب الله في الداخل اللبناني من اعتبارات تتجاوز  المدى السياسي اللبناني، وبالتالي تطرح السؤال الأساس حول إمكانية فك الارتباط بين هذه المنظمة ونسيجها الطوائفي على خط التشابكات الانقلابية بمدلولاتها الأيديولوجية والاستراتيجية والسياسية والاقتصادية وتصريفاتها المتنوعة. إن سياسة العزلة و”تناسل الأزمات” الداخلية والاقليمية والدولية التي يعتمدها حزب الله ليست سوى مستنسخات عن السياسة الإيرانية الراهنة المبنية على خطوط التماس النزاعية (الدواخل والتخوم العراقية -السورية، غزة، اليمن، الصراعات السنية-الشيعية في الجزيرة العربية وبلدان الخليج…)،وشبكات الاقتصاد المنحرف، والانظمة الديكتاتورية المفلسة التي تعيش على متون العمل الاقتصادي الدولي غير المشروع.

هذه المعادلات المتداخلة سوف تدخلنا  في متاهات الصراعات الإقليمية الخافتة والمتأهبة، من شيعية وسنية تمتد بين أطراف قوس نزاعي يشمل ايران، تركيا، العربية السعودية ودول الخليج، وسوريا والعراق والأراضي الفلسطينية، وهذا ما يعلنه حزب الله من خلال تصريحات أمينه العام ونائبه ( حسن نصرالله ونعيم قاسم)، وقائد الحرس الثوري الإيراني الذي خلف قاسم سليماني (حسن سلامي). إن حزب الله غير معني بالتسوية السياسية الداخلية الا من زاوية ملاءمتها لمصالحه الاستراتيجية، وبالتالي لا يبدو منزعجا من واقع التداعي البنيوي المأساوي الذي تعيشه البلاد على كل المستويات. تندرج عملية المرفأ الارهابية في سياق سياسة تدمير إرادية تستهدف توازنات الاجتماع السياسي اللبناني، المدينية والاقتصادية والاجتماعية والمهنية والتربوية والسياسية، وتسعى الى تهجير المسيحيين الذين ينظر اليهم كعائق أساسي بوجه الديناميكية الانقلابية، كما أكدتها تصريحات مسؤولين دينيين شيعة (من حسن نصرالله ونعيم قاسم الى أحمد وعبد الامير قبلان وأئمة الحسينيات الخمينية الغالبة في الاوساط الشيعية)، وتصريح لم ينفه نبيه بري لجهة إيجاد تنظيم الخلافات مع السنة لأن المسيحيين راحلون، وحركة المقاولين العقاريين الشيعة غداة الانفجار استكمالا لسياسة التمدد العقارية على حساب المسيحيين منذ بدايات الحرب ( ضواحي بيروت الجنوبية، وسط بيروت الجنوبي والشمالي، وسياسة الخرق الترهيبية في البقاعات، والجنوب، وكسروان وجبيل… ). هذه الوقائع تحيلنا الى التحالف الملتبس مع ميشال وعون ومترتباته السياسية، والتصرف بالتمثيل السني على مستوى رئاسة الحكومة من خلال تعيين حسان دياب، وتوزع الادوار مع نبيه بري على قاعدة تقاسم السياسات الزبائنية في الاوساط الشيعية، وضبط النزاعات السلطوية والمالية بين الاثنين اللذين تجمعهما سياسة سيطرة شيعية متعددة الروافع.

ب- ينطلق تحالف حزب الله مع ميشال عون من مصالح مشتركة دارت حول أهداف  سلطوية متقاطعة على الرغم من اختلاف الأولويات وزئبقية الأهداف عند الفريقين. لقد أدت الديناميكيات غير المتوازية الى تحول ميشال عون الى متغير يحركه حزب الله على قاعدة أهدافه المتبدلة، واستعمال صهره جبران باسيل قاطرة رديفة انطلاقا من الطموحات الرئاسية الواهمة والمصالح المالية التي أتاحها الحزب له، ومن وصول ميشال عون الى نهاية حياته السياسية بحكم السن المتقدم. لقد سقطت ورقة عون المسيحية ولم يبق منها سوى عبء أطباعه النزقة وصورته الذاتية الملفقة ودناءة صهره الأخلاقية، الأمر الذي جعل الحزب يستعجل عملية تطويع الساحة السياسية المسيحية من خلال الطعن بشرعية الكيان الوطني اللبناني المرتبط بحيثيات التاريخ الكنسي والسياسي الماروني، وتحفيز خطاب الكراهية في الأوساط الشيعية، ومحاولة املاء مفكرته السياسية على البطريركية المارونية، ومصادرة الهوية الكنسية التي حدت بأحد المعممين الى اعتبار الشيعة ورثة المسيح الحقيقيين، وهو أمر غير مستهجن من منطلقات الاسلام الذي يعتبر ذاته خاتمة الوحي الابراهيمي اللاغية بفعل الضم لما سبقها، بالاضافة الى المكابرة الانتصارية لفريق سياسي يدين بايديولوجية توتاليتارية لا تقيم أي إعتبار للآخرين او لمفهوم الحقيقة الموضوعية. عون ليس الا تورية يستتر وراءها حزب الله مرحليا من أجل استكمال عملية وضع اليد على البلاد وتصفية الكيان اللبناني على قاعدة تقاسم النفوذ بين سياسات النفوذ الاسلامية (إيران -تركيا،…).

إن أي وهم حول تأليف الحكومة ومعالجة الأزمات البنيوية الحادة على تنوع مواقعها، يقع ضمن دائرة التعمية الارادية والتنكر للواقع الذي يشير الى وجود مقاصد غير مواربة تستهدف وجود البلاد وشرعيتها الكيانية. إن حالة انعدام الوزن السنية وما سوف تسحثه من راديكاليات مضادة، تقابلها ممانعة من الجانب المسيحي دفعت بها البطريركية المارونية انعقدت حول مشروعي التدويل والحياد، كنقطة التقاء بين غالبية التيارات المعارضة المعتدلة والتوافقية وغير الأيديولوجية في توجهاتها، ومنطلقا لحركة دپلوماسية دولية ظهرتها الحراكات الدپلوماسية في الداخل، والمشاورات الجارية في مختلف العواصم الكبرى، ومن خلال اتصال الأمين العام للامم المتحدة بالبطريرك الماروني. إن نهاية لبنان  التي تسعى اليها سياسات الفاشية الشيعية تؤذن بداية الزمن الثاني لانهيار النظام الاقليمي وتداعياته على الأمن الاوروپي والاطلسي.

ج-لم  يعد هنالك من سبيل لحل الإشكالات المتداخلة التي بلغت درجة من الحدة التي تضع مصير البلاد موضع التساؤل، إن لم يستكمل تدويل الأزمة الذي عرف محطات متعاقبة  على مدى العقود الستة الماضية .إن ازماتنا الأمنية والمالية والاقتصادية والاجتماعية، والمدينية والصحية والتربوية قد تدولت وتتطلب استكمالا على المستوى السياسي، كما جرى مع القرارات الدولية (١٥٥٩، ١٦٨٠، ١٧٠١) لأنه دونه نبقى رهنا لارادات القوى الإقليمية المتنازعة، وللنزعات التوتاليتارية التي تعتمل داخلها مجتمعاتها، وصراعات المصالح الهمجية التي تعيش في ظل أحوال مديدة من انعدام الوزن المعنوي، وتهاوي المرجعيات القيمية، وهيمنة المناخات العدمية. لا إمكانية لاجراء حوار سياسي بناء، واستعادة تواصل إنساني جدير  بهذه التسمية، دون تحكيم دولي تحت الفصل السابع من شرعة الامم المتحدة، من أجل التفاهم حول أصول تسوية سياسية توافقية تشمل كل المحاور الخلافية، وتلتقي حول آلية انتقالية تنقلنا من حال الصراعات المفتوحة والانهيارات المعممة، الى التداول الديموقراطي الذي يرقى في مفاهيمه وأخلاقياته العملية وأهدافه، الى مرحلة تتجاوز سياسات السيطرة والسيطرة المضادة، والمناخات والحوافز  البقائية، باتجاه التسوية العقلانية والسوية للنزاعات ومعالجة الأزمات البنيوية الخطيرة. إن النزعة الانقلابية التي تحكم أداء الفاشيات الشيعية مدخل لديناميكيات نزاعية مفتوحة في منطقة تتآكلها الصراعات، وتحكم مجتمعاتها خواءات قيمية متنامية تعبر عنها النهيليات المستشرية، التي لن تترك نقطة ارتكاز معنوية تعيد للتواصل الانساني العاقل مكانته في الضمائر والعقول والعلاقات بين البشر.

* أستعيد خبرتي كأحد مؤسسي السياسة الخارجية في المقاومة اللبنانية.

**  أستعيد مساهماتي المتعددة في تخريج مقررات الكونجرس حيال لبنان في الاعوام ١٩٨٨ ،٢٠٠٣، ٢٠٠٤، ٢٠٠٥ مع اعضاء الكونجرس روبيرت دورنن، دانتي فاسيل، هنري هايد، ريتشارد لوجر، ادوارد كيندي، جون كيري، جورج ميتشل، كليبرن پيل، جو بايدن، هيلاري كلينتون، داريل أيسا، راي لحود… ودعم إقرار قرار مجلس الامن ١٥٥٩.