الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري: لا تَشمِتوا…لا تَشمِتوا بالفلسطينيين لأنّهم أخطأوا بالتآمر عليكم مع مَن اعتقدوهم مناصرين لقضيّة فلسطين بينما هؤلاء ما كانوا يُريدون سوى استغلال قضيّة فلسطين للنيل من رأس الموارنة والمسيحيين الذين استبسلوا لعقود من الزمن دفاعًا عن هذه القضيةا

1497

لا تَشمِتوا…
الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري/15 أيار/2021

لا تَشمِتوا بالفلسطينيين لأنّهم كانوا يُريدون إخراجكم من منازلكم، واليوم تفعل بهم إسرائيل ما كانوا يُريدون فعله بكم.
لا تَشمِتوا بالفلسطينيين لأنّهم كانوا يُريدون تهجيركم من وطنكم، وهم فقدوا اليوم كل أمل باستعادة وطنهم.
لا تَشمِتوا بالفلسطينيين لأنّهم ارتكبوا الظلم بحقّكم، وهم اليوم متروكون لمصيرهم أمام صمت العالم عن لفظهم أنفاسهم.
لا تَشمِتوا بالفلسطينيين لأنّهم أخطأوا بالتآمر عليكم مع مَن اعتقدوهم مناصرين لقضيّة فلسطين، بينما هؤلاء ما كانوا يُريدون سوى استغلال قضيّة فلسطين للنيل من رأس الموارنة والمسيحيين الذين استبسلوا لعقود من الزمن دفاعًا عن هذه القضية.

***
دخل عليّ إبني وأنا مأخوذٌ بمشاهدة فيلم “هوليوودي”، فسألني:
– لِمَا كلّ هذه الجَلَبَة منذ أيام حول ما يجري في إسرائيل؟!
– صحّح السؤال لأتناقش معك.
– وما الخطأ في السؤال؟!!
– يجب أن تقول فلسطين المحتلة وليس إسرائيل.
– إعتبر أنّي قلتها وأجِبني لو سمحت.
– ما الذي تُريد معرفته بالتحديد لأنّي أودّ متابعة الفيلم؟
– لماذا غالبيّة المسيحيين غير متضامين مع ما يحصل هناك؟
– لأنّ المسيحيين سلّفوا الفلسطينيين مائة سنة إلى الأمام، باقي منها سبع عشرة سنة.
– وضّح لو سمحت.
– بعد أن ينتهي الفيلم.
– لا، الآن. صديقي جو يريد معرفة رأيك ووعدته أن أرجع إليه بالجواب فورًا.
– لا بأس، ركّز في ما سأخبرك إيّاه.
غداة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وصلت طلائع الجنود الإسرائيليين إلى “الضبية” وأقامت لها غرفة عمليّات قُبيل النفق. ما كادوا ينتهون من تجهيز الموقع، حتّى أمر الجنرال المسؤول بإحضار الشاعر سعيد عقل أمامه. عرف بشير الجميّل بانّ الإسرائيليين يسعون خلف سعيد عقل، فانتابه شعور بالقلق، فاتّصل بأبي أرز (إتيان صقر) وطلب منه التدخّل مع الإسرائيليين لمعرفة ما يحصل. فورًا حضر أبو أرز إلى “الضبية” للإستفسار، ودار بينه وبين الجنرال المسؤول الحوار التالي:
الجنرال: وما دخلُك أنت في الأمر يا أبا أرز؟
أبو أرز: إنّه سعيد عقل وتسألني ما دخلي في الموضوع؟
الجنرال: وهل يُزعجك أن أتعرّف على الشخص الذي كتاباته وقصائده حرّكت الثورة الفلسطينيّة ضدنا؟
أبو أرز: هذا يتوقّف ما إذا كُنتَ تُريد أن تتعرّف على الشاعر العبقري، أم على “المتّهم” بإشعال الثورة في وجهكم.
الجنرال: إعتبر أنّني لا أرغب بأكثر من التعرّف إليه.
أبو ارز: إذًا قُل لي متى تُريد لقاءه لأرسل الشباب كي يأخذوك لزيارته. سعيد عقل لا يحضر إلى هنا. (فكّر قليلًا أبو أرز ثمّ تابع) علينا أوّلًا أن نتأكّد ما إذا كان سعيد عقل يرغب بالتعرّف إليك…
الجنرال: معك حق. إنّه فعلًا شاعر استثنائي ومُلهِم، حتّى أنا معجب بكتاباته المناصرة لأعدائنا.
وراح الجنرال، الذي يُتقن العربيّة جيّدًا، يُردّد مقاطع من قصيدة سعيد عقل “سيفٌ فَليُشهر”:
… أنا لا أنساكِ فلسطينُ ويشدّ يشدّ بِيَ البعدُ
أنا في أفيائك نسرينُ أنا زهر الشوك أنا الوردُ
سندكُّ ندكُّ الأسوارَ نستلهم ذاك الغارْ
ونعيدُ الى الدارِ الدارَ نمحو بالنارِ النارْ
فلتصدعْ فلتصدعْ..
أبواقٌ أجراسٌ تُقْرَعْ.. قد جُنَّ دمُ الأحرارْ
ليس سعيد عقل المسيحي الوحيد الذي ألهم الثورة الفلسطينيّة، الاخوان رحباني فعلوا أيضًا. عليك يا ولدي أن تستمع إلى أغنية “القدس العتيقة” حين صدحت فيروز:
… عم صرّخ بالشوارع … شوارع القدس العتيقة
خلّي الغنيّي تصير عواصف وهدير
يا صوتي ضلّك طاير زوبع بهالضماير
خبرّهن عللي صاير بلكي بيوعى الضمير
الرئيس كميل شمعون تعرّض لنوبة قلبيّة، كادت تودي بحياته، وهو يُدافع عن قضيّة فلسطين في الأمم المتّحدة. وكذلك فعل الكثيرون من المفكّرين والصحافيين المسيحيين الأقحاح أمثال: ميشال شيحا، والسفير والوزير جورج نقّاش، والكاهن الماروني ميشال الحايك الذي أشعل القلوب بعظاته عن فلسطين عبر أثير الإذاعة اللبنانيّة، ورئيس تحرير “ل-وريان لو جور” رينيه عجوري…
هكذا، يا ولدي، سلّف المسيحيّون في لبنان القضيّةَ الفلسطينيّة مئة عام إلى الأمام، وإذا رجعت إلى أرشيف كلّ مَن ذكرتهم، لوجدت أنّهم دافعوا عن فلسطين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم.
هنا سأل إبني: وهل تقبل أن يتنكّر البعض اليوم لما يتعرّض له الفلسطينيون؟
– لا اقبل، لكنّي اتفهّم الأمر بعد الذي فعله الفلسطينيون بوطننا منذ إتفاقيّة القاهرة.
– كُن صريحًا.
– ماذا تُريدني ان أقول؟ الأمر معقّد! بعد كلّ الذي فعلناه كمسيحيين من أجل قضيّتهم، وبعدما أوصلناها إلى أعلى المنابر الدوليّة، بادلونا بالسوء، وتآمروا علينا، وكانوا يُريدون أن يشقّوا طريقهم إلى القدس بسحلنا وبالمرور على أجسادنا.
– وما ذنب الذين يُواجهون الإسرائيلي اليوم في القدس وغزّة، فهم جيل جديد وبالكاد يعرفون مَن أساء إلى لبنان من أسلافهم؟
– قلت لك أنّ الأمر معقّد.
– قل لي شيئًا آخرًا…
– أقول:
لا تَشمِتوا بالفلسطينيين لأنّهم كانوا يُريدون إخراجكم من منازلكم، واليوم تفعل بهم إسرائيل ما كانوا يُريدون فعله بكم.
لا تَشمِتوا بالفلسطينيين لأنّهم كانوا يُريدون تهجيركم من وطنكم، وهم فقدوا اليوم كل أمل باستعادة وطنهم.
لا تَشمِتوا بالفلسطينيين لأنّهم ارتكبوا الظلم بحقّكم، وهم اليوم متروكون لمصيرهم أمام صمت العالم عن لفظهم أنفاسهم.
لا تَشمِتوا بالفلسطينيين لأنّهم أخطأوا بالتآمر عليكم مع مَن اعتقدوهم مناصرين لقضيّة فلسطين، بينما هؤلاء ما كانوا يُريدون سوى استغلال قضيّة فلسطين للنيل من رأس الموارنة والمسيحيين الذين استبسلوا لعقود من الزمن دفاعًا عن هذه القضية.
قل لصديقك جو يا ولدي، بالتأكيد لن نتضامن، كمسيحيين لبنانيين، مع الإسرائيليين، إذ يكفينا ما يلحقنا لغاية اليوم من تُهم التعامل مع إسرائيل. وإن تضامنّا مع الفلسطينيين، وهنا أشخّص عن خبرة، فسنظلّ نُنعت بالعملاء الصهاينة. وإن صمتنا سنُنعت ظُلمًا وجورًا بالتآمر مع الصهاينة.
أنا أختار الصمت على غيره، لأنّ لبنان مدجّج بالأسلحة الإلهيّة التي تعدنا منذ عقود بتحرير القدس، وهذا السلاح أثبت فاعليته في سوريا والعراق واليمن، ويشكّل التوازن مع إسرائيل ويُرعب القوى العُظمى، ولم يصل بعد إلى القدس. فَلِمّ لا نترك له الساح ليمحوَ إسرائيل عن الخارطة كما يعدنا سماحة الأمين العام حسن نصرالله، وإسرائيل على قاب قوسين من هذا السلاح، “وإنّه لغالب”؟… فلا تشتموا، بل اصمتوا وراقبوا التغيّرات حتّى تبان الحقيقة.
أنهيت كلامي وعدت لمتابعة الفيلم “الهوليوودي”، كان الفيلم قد انتهى.