محمد سيد رصاص /ارتباك وضع أنقرة إقليمياً بعد رهانها على الإخوان

366

ارتباك وضع أنقرة إقليمياً بعد رهانها على الإخوان
محمد سيد رصاص
الحياة/10.12.14

اتجه مصطفى كمال أتاتورك بتركيا نحو الغرب بعد انحلال الدولة العثمانية. لعبت أنقرة دوراً رئيساً في مجهود المعسكر الغربي أثناء الحرب الباردة (1947 – 1989) ضد موسكو. مع انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه في الأسبوع الأخير من عام 1991 نشأ عالم جديد من الدول المستقلة عن موسكو ينتمي إلى الثقافة التركية يمتد من أذربيجان حتى كازاخستان عند الحدود الصينية، وهو ما جعل الرئيس التركي توركوت أوزال يطرح إنشاء رابطة تركية تمتد من بحر إيجة إلى حدود قرغيزيا وكازاكستان مع الصين حيث أقاليم صينية يسكن فيها الإويغور في الشمال الغربي وهم المنتمون إلى عالم الثقافة التركية. عندما تقلّد زعيم «حزب الرفاه» الإسلامي نجم الدين أربكان منصب رئيس الوزراء في حزيران (يونيو) 1996 طرح تصوراً جديداً للمرة الأولى منذ انهيار العثمانيين عام 1918 بأن المجال الجغرافي الحيوي لتركيا هو الجنوب العربي المسلم مع جنوبها الشرقي المسلم الإيراني. دمج تلميذه رجب طيب أردوغان مع وصول «حزب العدالة والتنمية» للسلطة منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2002 بين تصورّي أوزال وأربكان، مع التخلّي عن نظرة أتاتورك بعدما رفض الاتحاد الأوروبي القبول بعضوية تركيا من خلال تصريحات المستشار الألماني هلموت كول ورئيس لجنة وضع «ميثاق ماستريخت» للاتحاد جيسكار ديستان تصف الاتحاد بأنه «نادٍ مسيحي».

كان الخلاف الذي مازال يشغل الأتراك في الربع قرن الماضي بين الخيارات الثلاثة، وهي تشمل اتجاهات أيديولوجية رئيسة: الأتاتوركيون، القوميون الطورانيون، والإسلاميون، تعبيراً عن حيرة وظيفية لبلد هو جسر بين آسيا وأوروبا، وجد نفسه بعد الانهيار السوفياتي يفقد وظيفته كجبهة جنوبية شرقية لحلف الأطلسي. ورأى أردوغان الحل في الجمع بين المجالات الثلاثة من خلال أن يكون رأس جسر للولايات المتحدة، من غير رضا الأوروبيين غالباً، ضد الروس في الجمهوريات السوفياتية السابقة، وفي العالم العربي، ومع إيران وضدها. كانت الخدمات التركية لواشنطن غالباً اقتصادية ضد موسكو من خلال حرب أنابيب النفط والغاز التي وضعت فيها أنقرة نداً لموسكو عبر مشروع أنابيب يمتد من تركمانستان عبر بحر قزوين مروراً بأذربيجان وجورجيا حتى الشاطىء التركي للمتوسط كبديل عن أنابيب النفط والغاز الروسية، وقد كانت اصطفافات أنقرة ضدّ موسكو في أزمة ناغورني كاراباخ بين أذربيجان وأرمينيا ثم في حرب آب (أغسطس) 2008 الروسية الجورجية تعبيراً سياسياً عن هذه الوقائع الاقتصادية. منذ خريف 2006 عندما وضعت كوندوليزا رايس رؤية لمنطقة الشرق الأوسط بوصفها ميداناً «للصراع بين المعتدلين والمتطرفين» كان أردوغان رأس حربة ضد طهران، وعندما حاد عن هذا الطريق في 17 أيار (مايو) 2010 عبر الاتفاق الثلاثي الإيراني التركي البرازيلي لحل الموضوع النووي الإيراني تمّ رفع الكرت الأصفر له للالتزام بقواعد اللعبة الأميركية عبر حادث السفينة مرمرة بعد أسبوعين من ذلك اليوم.

في «الربيع العربي» خلال 2011 كان رئيس الوزراء التركي بمثابة مقاول عند الأميركيين لترتيب وضع المنطقة لمصلحة واشنطن في مرحلة ما بعد سقوط رؤوس الأنظمة القائمة عبر الإتيان بـ «الإخوان المسلمين»، القريبين من نموذج أردوغان، إلى السلطة في تونس والقاهرة وللمشاركة بها في صنعاء وطرابلس الغرب والرباط، مع محاولة إشراكهم في السلطة في دمشق عبر ضغوط مارستها أنقرة بين نيسان (إبريل) 2011 وآب 2011 ثم من خلال «المجلس الوطني» المعلن في اسطنبول في 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 لإيصالهم إلى السلطة في دمشق على طراز ما أوصلت طهران بالتحالف مع واشنطن «حزب الدعوة» ليكون رأس حربتها في بغداد. عندما زار أردوغان في خريف2011 تونس وطرابلس الغرب والقاهرة تصرّف كأنه السلطان سليم بعد معركتَي مرج دابق والريدانية في عامَي 1516 و1517. كان ينقصه دخول دمشق التي كانت بوابة السلطان العثماني إلى كل المنطقة.

تكسّر «الربيع العربي» في دمشق. وبين خريف 2012 وربيع 2013، بعد محطّات (بنغازي) و (مالي) و (بوسطن)، تخلّت واشنطن عن الإسلاميين. منذ تنحّي أمير قطر في 25 حزيران 2013 وسقوط حكم «الإخوان المسلمين» في القاهرة في 3 تموز (يوليو) 2013 يعيش أردوغان في وضع الفاقد دور المحظي الأميركي الذي كانه منذ خريف 2006. ترافق هذا مع اضطرابات في إسطنبول في ذلك الصيف ثم بدأت بالتنامي معارضة لأردوغان «من داخل البيت الإسلامي» عبر أتباع فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة والذين امتدوا مع وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى مفاصل كبرى في القضاء وأجهزة الأمن والشرطة. منذ ربيع 2013 وبالذات مع اتفاقية موسكو بين كيري ولافروف 7 أيار 2013 كان واضحاً أن التلزيم الأميركي لأنقرة في الملف السوري قد سحب وأن واشنطن قد تولّته مباشرة مع موسكو وهو ما ظهرت ترجماته في اتفاقية الكيماوي السوري (14 أيلول – سبتمبر2013) وفي «جنيف 2» المنعقد في 22 كانون ثاني (يناير) 2014. كان سقوط (الإخوان المسلمين) من الحكم مع مرسي، وبعده في تونس، ومن المشاركة فيه في طرابلس الغرب وصنعاء، مترافقاً مع تقلقل وضع تركيا الإقليمي.

في معركة عين العرب، بدءاً من منتصف أيلول (ديسمبر) 2014، وضح مقدار هذا التقلقل: أنقرة تريد هزيمة الأكراد وانتصار «داعش» لكي تستغل ذلك من أجل إقامة منطقة عازلة على طول الحدود التركية السورية. واشنطن لا تريد ذلك وهي تقود تحالفاً دولياً – إقليمياً لمنع انتصار «داعش» ولهزيمتها. بسبب «داعش» ومن خلال استهدافها وجدت واشنطن وأنقرة نفسيهما في طرفي نقيض، فيما تقارب الأميركيون أكثر لهذا السبب مع الرياض ومع الرئيس السيسي ويحاولون التقارب مع بوتين، وقد وجدت العاصمة الأميركية مصلحتها في التقارب مع طهران في عموم المنطقة وبالذات في عراق ما بعد موصل 10 حزيران 2014. في أثناء زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن أنقرة الشهر الماضي كانت التناقضات واضحة في مواضيع ثلاثة: الأولوية ضد «داعش» أم ضدّ النظام السوري؟ المنطقة العازلة، وفي موضوع الأكراد. كانت الزيارة فاشلة، وقد أطلق أردوغان بعدها تصريحات نارية ضد واشنطن.

على الأرجح أن مبادرة الرئيس الروسي في الأول من الشهر الجاري بإلغاء مشروع «ساوث ستريم»، وهو خط غاز روسي يمتد عبر البحر الأسود إلى بلغاريا ومنها إلى صربيا وهنغاريا والنمسا وصولاً إلى أوروبا واستبداله بخط يمتد إلى تركيا ثم اليونان وإيطاليا عبر بحرّي إيجه والأدرياتيكي وصولاً إلى أوروبا، محاولة من بوتين للاصطياد في المياه العكرة الأميركية التركية ولطي صفحة ربع قرن من حرب الأنابيب بين موسكو وأنقرة عبر احتواء إرضائي للأخيرة لإبعادها عن واشنطن، وفي الوقت نفسه لمنع هاجس يؤرّق موسكو وهو استبدال الغاز الروسي لأوروبا بغاز إيراني (مع غاز بحر قزوين) عبر تركيا في مرحلة مابعد عقد الاتفاق الأميركي- الإيراني حول الملف النووي. تماماً كما كان هناك هاجس روسي طوال الأزمة السورية من أن أحد الأهداف هو استبدال الغاز الروسي بآخر قطري عبر سورية وتركيا إلى أوروبا: في الإطار نفسه تأتي التودّدات الإيرانية إلى تركيا من أجل استغلال الضعف التركي الراهن في اللوحة الإقليمية القائمة لكسبها أيضاً واستخدامها كورقة في المساومات الكبرى المقبلة حول إقليم الشرق الأوسط التي من المرجّح أن يكون مداها الزمني مسقوفاً في 30 حزيران 2015 الذي تمّ تحديده كموعد لانتهاء المفاوضات بين إيران و (مجموعة 5+1).

* كاتب سوري