المخرج يوسف ي. الخوري: إلى المزبلة بمثل هؤلاء الجُهّال/أين وطني وعلى أرضه الليلة أناسٌ سيحتفلون ويسكرون، وحجّتهم أنّهم يواجهون بما يعتقدونه “ثقافة حياة”، بينما هو ليس سوى الموت الآتي عليهم وعلى الوطن! فإلى المزبلة بمثل هؤلاء الجهّال

418

إلى المزبلة بمثل هؤلاء الجُهّال…
المخرج يوسف ي. الخوري/31 كانون الأول/2020

أين وطني وعلى أرضه الليلة أناسٌ سيحتفلون ويسكرون، وحجّتهم أنّهم يواجهون بما يعتقدونه “ثقافة حياة”، بينما هو ليس سوى الموت الآتي عليهم وعلى الوطن! فإلى المزبلة بمثل هؤلاء الجهّال. ولو كانت يداي فاعلة في الثورة النائمة، لكان أمري الليلة للثوّار: “سكّروا الطرقات بالدواليب المشتعلة واقطعوا دابر الجهل لدى هؤلاء الجهّال.”

*****************
زارني الصيف الماضي أحدُ ثوّار عكّار، وهو مؤهّل أوّل متقاعد في الجيش اللبناني، فبادرته بالسؤال: “أين أنت يا رجل ما عُدنا نراكَ في الساحات؟” فأجابني بأسى قائلًا: “تغيّر الوضع يا صديقي، فلم يعد سهلًا إنزال الشباب إلى الثورة”.

– وما الذي تغيّر؟ نوّرني.
– في العام 2006، كنت لا أزال في وظيفتي العسكريّة، وكان الطيران الإسرائيلي يقصف جسر المعاملتين، وكانت دوريّتنا تمرّ على الطريق البحري أسفل كازينو لبنان. أسرعنا واحتمينا بعد تكوُّع الطريق قرب مطعم الجزيرة. وبينما كان قصف الطيران يخضّ رؤوسنا، نظرتُ أمامي على مسافة أمتار، فرأيت سيدات ورجال بالـ “مايوهات” يتفرّجون من دون أدنى أسف أو أسى على ما يدور فوقهم في الجو، وما أن أتمّت الطائرات مهمّتها حتّى عادوا إلى الإستجمام وكأنّ شيئًا لم يكن! مرّت سِنُون طويلة ولا زال مشهد هؤلاء الناس يوجعني… (صمت هنيهة ثم تابع) كانت إسرائيل تدمّر الطريق التي سيسلكونها للعودة إلى منازلهم ولم يكترثوا!

– وما علاقة كلّ هذا بانكفائك عن الثورة؟
– الأمر نفسه يحصل اليوم مع الثورة. ننزل إلى الشارع. نَصرخُ بأعلى جوعنا. نرفع كراماتنا عاليًا. ننتفض للعلم. نمزّق أقنعتهم… لكن فجأة، تصل بيننا سيارة “لامبرغيني” يقودها شاب بنظّارات سوداء، ثمن نظّاراته وحده يُطعم عائلتين لثلاثة شهور، يقف ويصرخ بنا: “فتحولي الطريق إنتو عم تقطعولي برزقتي”!… يا للعيب، وكأنّ البلد بأحسن أحواله لنكونَ نحنُ مَن يقطعُ رزقَه!

– وهل أشخاص من هذا النوع يُجهضون ثورة؟
– هذا نموذج واحد! زِد عليه، على سبيل المثال، روّاد المطاعم والمقاهي الذين يُنفقون الأموال على بطونهم وأراغيلهم، وأكثر من نصف الشعب اللبناني تحت خطي الفقر والجوع! زِد عليه أيضًا هؤلاء الذين يُقيمون ولائم وينشرون صورًا وفيديوهات على الفايسبوك…

– (قاطعته) وهل من حقّ الثورة أن تُحدّد للناس كيف يصرفون أموالهم؟

– بالطبع لا! لكن من حقّ الجياع الثائرين أن تُحترم مشاعرهم! انشر يا أخي صور موائدك الفاحشة، لكن لا تنشر صورك وأنتَ تدبك على مائدة الطعام بحذائك اللمّاع قرب “جاط” الكبّة النيّة، وفي البلد مَن يشتهي صحن سلطة خضراء! لا تجلس في المقاهي وأنت ترفع سيكارك الذي ثمنه مائتا ألف ليرة وهناك عوائل عاجزة عن الحصول على منقوشة بألف وخمسمائة ليرة!…

– أنا لا أفهمُك! هل أنت ناقم على الأغنياء.
– أبدًا! أنت تعرف أنّ في الثورة أغنياء وفقراء. وكذلك في خارجها أغنياء وفقراء. أنا ناقم على ذلك الذي يعرف أنّ له حقّ مسلوب ولا يُريد أن ينتزعه!

– أَلَيْست هذه سنّة الحياة، أناسٌ يستسلمون وأناسٌ يسعون؟ الثورة يا صديقي تتحقّق حين ينجح الساعون إلى جرّ المستسلمين إلى صفوفهم، وتُجهض حين ينجرّ الساعون إلى الإستسلام متأثّرين بسلوك المستسلمين.
(انتهى الحوار)

في الآونة الأخيرة، وفي كلّ مرّة كان يُطالعني إعلان لسهرة ليلة رأس السنة، أو أشاهد تجمّعات الناس صفوفًا طويلة أمام مختبر طبّي لإجراء فحوص الـ PCR لإبرازها على أبواب الملاهي قبل دخول سهرة في هذه الليلة، أو أشاهد تقريرًا إخباريًّا عن الوافدين من الخارج للسهر عندنا في موسم الأعياد، في كلّ مرّة كنت أتذكّر صديقي العكّاري وتُصيبني غصّة في القلب.

كيف يستطيع امرؤ أن يدفع ثلاثة ملايين ليرة لبنانيّة للرقص والسكر ليلة رأس السنة، وهناك مَن ينام على عارضة الطريق وهو يحلم بفتات مائدة؟

كيف يحتفل امرؤ في سواد الليل وبلده ملؤه النهب والسرقة والتشليح في وضح النهار؟!

كيف سيرفع ماجن كأسه الليلة، لحياة أفضل، وشعبه يموت على أبواب المستشفيات؟!

كيف سنخرج مما نحن فيه والجار عندنا لا يشعر بأزمة جاره؟

كيف نُقنع الدول التي تسعى إلى مساعدتنا بأنّنا شعب منكوب، بعد أن تنقل المحطّات الفضائيّة، ووسائل التواصل، مظاهر فحش رواد ملاهينا الليلة؟

كيف سنُقنع العالم بعد اليوم بأنّنا شعب مُحتلّ وحريّته مسلوبة؟ كيف وكيف وكيف، لا أعرف ولا أفهم كيف!

هل سيصدّقنا العالم بعد اليوم أنّ دولتنا فاسدة، وأنّ ثلّة صغيرة من الحكّام الطغاة ومرابي المصارف، أمعنوا في سرقة أموالنا، وأنّ لا حيلة لنا ولا مَن ينظر في وضعنا؟

وهل سيصدّقنا أنّ هؤلاء الذين ستكتظُّ الليلة الطرقات بسياراتهم الفخمة، هم لا يشكّلون أكثر من 5% من مجمل الشعب اللبناني، وأنّ غالبية الشعب الأخرى هي طبقة حزينة ومحرومة ووجهتها الرحيل، وهي غير آبهة بترك بيوتها للغرباء اللاجئين؟

أين وطني؟
أين وطني وأجزاؤه مقطّعة الأوصال. تاريخه عرضة للتزوير والتشويه. أرضه يملؤها الحقد والغضب. رجالاته يتقاذفون الحجج والأدلة، ويؤوّلون ويحرّفون. رجاله تنقسهم الرجولة.

أين وطني وعلى أرضه الليلة أناسٌ سيحتفلون ويسكرون، وحجّتهم أنّهم يواجهون بما يعتقدونه “ثقافة حياة”، بينما هو ليس سوى الموت الآتي عليهم وعلى الوطن! فإلى المزبلة بمثل هؤلاء الجهّال. ولو كانت يداي فاعلة في الثورة النائمة، لكان أمري الليلة للثوّار: “سكّروا الطرقات بالدواليب المشتعلة واقطعوا دابر الجهل لدى هؤلاء الجهّال.”

تحضرني حادثة، في هذه اللحظات، دارت فصولها عام 1982 بين وزير الدفاع الإسرائيلي آرييل شارون والرئيس بشير الجميّل (ما كان بعد رئيسًا)

عامذاك، وأبّان استعداد جيش الدفاع الإسرائيلي لاجتياح بيروت الغربيّة وإخراج منظّمة التحرير الفلسطينيّة من لبنان، حضر شارون إلى المناطق التي كانت تُعرف بالشرقيّة وبرفقته صحافيين إسرائيليين. إنصدم الجميع من رؤية شواطئ جونيه مكتظّة بالناس يسبحون ويتشمّسون. إنحرج شارون أمام الصحافة من المنظر، خصوصًا أنّ المعارضة الإسرائيليّة تتهمه بأنّه تورّط في عمليّة إخراج منظمة التحرير من لبنان، بينما حلفاؤه المسيحيون غائبون عن العمليّة. فاتصل مباشرة ببشير قائلًا: “ما الذي نراه على شواطئ جونية، كنت أتوقّع أن أقع على مركز واحد على الأقل، لتسجيل المتطوّعين لتحرير لبنان من الفلسطينيين!” أجاب بشير قائلًا: “إنّها ثقافة الحياة”. عاد شارون وقال باستهزاء: “والإسرائيلي الذي ترك عمله في تل أبيب، وحضر للقتال في بيروت وتحريرها، أليس هو الآخر معنيًّا بثقافة الحياة؟”

أترك لك عزيزي القارئ الإستنتاج من هذه الحادثة، ولروّاد سهرة الليلة أقول: “سهرتكم الليلة خمر وغدًا صريف الأسنان. سنلتقي قريبًا في المصير الآتي، نحن لأن ليس لدينا ما نقتات به، وأنتم لأنّكم لن تجدوا ما تشترونه بأموالكم لتقتاتوا به، تمامًا كما حصل في مجاعة الـ 1914، فعندها إمّا يكون لقاؤنا في ثورة جامعة، وإمّا على طريق جهنّم!”

ملاحظة: الصورة المرفقة هي للمخرج يوسف ي.الخوري مع الفيلسوف والكاتب والشاعر والمقاوم واللبناني الأصيل المرحوم يوسف عواد