ميرفت سيوفي/في رحيل سعيد عقل .. اخرسوا

737

 في رحيل سعيد عقل.. «إخرسوا»
ميرفت سيوفي/الشرق
02 كانون الأول/14

في يوم وداع سعيد عقل، لا بدّ من وقفات أمام تاريخ رجلٍ شكّلَ وجه لبنان في عزّ «التآمر» على لبنان لتحويله إلى «وطنٍ بديل»، إلا أننا نختار أن نبدأ من مدخل أن يُعاب على سعيد عقل أنّه أكبر دعاة «القومية اللبنانية» ودعوته للتخلي عن اللغة العربية الفصحى واعتماد اللهجة العامية كلغة قومية لبنانية، وأنّه وضع «الأبجدية اللبنانية» التي تكتب بحروف لاتينية، فهذا اجتزاء لتاريخ الرجل الذي كان بحقّ طوال القرن الماضي «المبدع» و»الناحت» الأوّل للغة العربية وللشعر العربي في زمن عاش فيه تجربة «الحداثة» التي أفضت إلى تدمير بنية القصيدة العربيّة، رفض سعيد عقل تسمية القصيدة الحديثة بالقصيدة، خصوصاً القطعة الخالية من الوزن، والتي شاعت تسميتُها «قصيدة النثر». مقترحاً بسخرية تسميتها بالـ»نثيرة»، فحارس الشعر «ديوان العرب» وشاعره الأخير، وحافظ اللغة العربيّة في قصائده سينصفه تاريخٌ آتٍ يدون له فضله على استمرار اللغة العربية وحفظها من الوهن الشديد الذي اعتراها، أمّا «اللغة اللبنانيّة» التي «نحتها» سعيد عقل، فيحقّ لعملاقٍ مثله أن يترك أكثر من الدواوين، أن «نظرياته اللغويّة» في «لغة ابتدعها» ولم تلقَ رواجاً، ولا نرى في هذا عيبٌ أو ضير أو عنصرية لبنانيّة حتى…

ومن المفيد أن نقول إنّ ما تمَّ ارتكابه من إساءات بحقّ الراحل سعيد عقل «الفيلسوف» و»المنظّر» لفكرة لبنان، يُحسب له لا عليه، فعندما كانت «طريق فلسطين تمرّ في جونية» كان المجتمع اللبناني أحوج ما يكون في لحظة انتزاع لبنان من أهله إلى «المغالاة» في الفكرة اللبنانية، ونستغرب بشدّة أن تطرح عناوين من مثل «رحل سعيد عقل ولم يعتذر من الفلسطينيين»، فعلامَ يعتذر سعيد عقل، فأيّ اعتذار هذا المستحقّ للمنظمات التي استباحت لبنان وكرامة شعبه؟!وربما علينا  تذكيرهم باعتذار الشاعر محمود درويش من المدينة الرياضية من الشعب اللبناني أيام حصار ياسر عرفات في رام الله مطالباً إيانا أن نصدّق أبو عمّار هذه المرة بأنه يريد أن يموت شهيداً…

وللمناسبة، الذين يحاولون إدانة سعيد عقل بكلام قاله في زمن الاجتياح الإسرائيلي وموقف، ما علينا إلا أن نردّ عليهم بمشهد قرى الجنوب التي استقبل أهلوها الجيش الإسرائيلي بالأرز والورد لتخليصه إياهم ممّن استباح أرضهم وقراهم وأعراضهم وأموالهم وبيوتهم، أو أن نردّ عليهم بأنه عندما فاض الكأس بمسلمي لبنان من جور المنظمات الفلسطينية وانتهاكها لكلّ الحرمات لجّوا بالدّعاء، وكانت جملة «إن شاء الله تجي إسرائيل تقبعهم» تتردّد في السرّ والعلن، وهذا ليس من باب مؤازرة العدوّ ولكن من باب الحكمة التي تقول: «وما من ظالم إلا سيبلى بأظلم»!!

غاب الرّجل ولا شاعر من مقامه وقامته يرثيه، وقد رثى سعيد عقل نفسه في حياته، ربما لأنّه أدرك عجز الآخرين عن رثائه فقال: «أقول: الحياةُ العزمُ، حتى إذا أنا/ انتهيتُ تَوَلّى القَبرُ عزمي من بَعدي»، وقد تفي في هذا المقام استعارتنا قصيدته «من شاعر؟» لرثائه: «لا مذ بَكيتُك، لكِنْ، قَبلُ، مُذ سكَتَت/    يَراَعةٌ لكَ، قَلَّ الهَمُّ في الغُصُنِ/ غَصَصتُ بالدَّمع، هل فَرّتْ بَلابٍلُنا/ طُرّاً، فما من شَجِيٍّ، بعدُ، أو لَسِنِ/ أنا الَّذي قالَ: يا شِعْرُ، آُبكٍهِ وأجِدْ/ مِن قَبلِ ما كان لا، يا شِعرُ لم تَكُنِ»…

كتب أحدهم قبل عام في تكريم سعيد عقل في ذكرى مئويته: «لبنان الذي أكره»، ولا علاقة لسعيد عقل بكراهية الكاتب للبنان، فهؤلاء معروفون بولائهم لغير وطنهم منذ العروبة والاتحاد السوڤياتي ومنظمة التحرير الفلسطينية ثم معمّر القذافي، ثم الخميني والخامنئي وأحمدي نجاد، كتب متفّهاً مستهجناً تكريم سعيد عقل بسبب موقفه في الاجتياح الإسرائيلي، ولأن الشيء بالشيء يُذكر، نودّ أن نسأل هؤلاء: لولا الاجتياح الإسرائيلي هل كان هناك اليوم «لبنان» أم كنّا لاجئين في دول العالم، فيما المنظمات الفلسطينية تمعن في تقتيل بعضها على أجزاء لبنان، ولولا الاجتياح الإسرائيلي كم دولة فلسطينية كانت قائمة اليوم محل لبنان الوطن والدولة… ألا يقولون «ربّ ضارّة نافعة»…

إن كان سعيد عقل في يوم وداعه مداناً بحبّ لبنان، مداناً بـ»لي صخرة علقت بالنجم أسكنها طارت بها الكتب قالت: تلك لبنان!»، فكلّنا مدانون لأننا وصلنا إلى خلاصة لبنانيّة صميمة حملت عنوان «لبنان أولاً»، في يوم وداع سعيد عقل نختار أن نردّ على كلّ محاولات تجريح رحيل عملاق من بلادي،(من قصيدته في شفيق معلوف) وواحد مجد لبنان الذي أخذت عنه الحضارة ما لولاه لا حضر/ جبيل، بيروت، صيدون، طرابلس إطارها البدع أو لا كانت الأطر/ ان مس ذكر لقانا أو لصور سنى مس الكمال رؤى التاريخ والعبر/ أو خمشت لمعة من بعلبك أسى توجعت مهجات الحسن تنفطر/ أقسم البيت؟! ماذا! الانتصار سدىً!؟ ماذا؟! دماء رفاقي في الفلا هدر!؟/ لبعض لبنان ناضلت؟! اشهدي شيمي، كما السواحل هاتيك الربى الخضر/ شمالهن، الجنوب، القلب، تلك سما بالي لتبقى، ويبقى الرمل والنهر/ ووحدهم أهلها أغلى على كبدي منها كعيني أغلى منهما البصر/ جميعنا لفحتنا الحرب: ذاك بما قاسى، وهذا بقصد الموت يبتدر/ ولن أفرق، ناسي الناس لا بعدوا كذا الينابيع، مائي الماء لا الكدر/ ولست أخسر نصراً هز أعمدة ً لبنان منشطر؟/ لبنان مندحر!/ افتن بشعرك لكن قل تحطمه ممن غووا وبذمات العلى كفروا/ لوحده في العداوات الدخيل جرى بباله غصب أرض تربها الطهر/ وان نكن لربىً خضر شمخن هوىً شطٍ، وقامات صخر ليس تنكسر/ معاندات، لها في الله، والتفتت دوماً، الى الله، قل هل بعدها خسر/ بل سنبقى، ويبقى فوق صخرته لبنان، قهار من ما غيرهم قهروا/ وقال من خطر نمضي إلى خطر ما هم؟ نحن خلقنا بيتنا الخطر»… وداعاً سعيد عقل.. ترحل أنت، ولبنان باقٍ، وسوف نبقى، [من كتاب «قدموس»]، ومن أغنية ماجدة الرومي وآخر ما غنتّه لك من قصائد: «سوف نبقى يشاء أم لا يشاء الغير فاصمد، لبنان، ما بك وهن/ سوف نبقى لا بد في الأرض من حقً وما من حقً، ولم نبق نحن».. سوف نبقى…