كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الرابع/الحلقة الثانية

177

كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الرابع/الحلقة الثانية
18 تشرين الثاني/2020

لم يكن الوصول إلى صور سهلا في تلك الأيام على ابناء المنطقة المسيحيين. فمادة البنزين “شحيحة” من جهة، وقد كثرت من جهة أخرى الحواجز وانتشر المسلحون ولا من يردع. وليس هناك قانون يحدد الأصول أو مبدأ للتفاهم حوله. فالوطن ضائع بين ما سبق أن كان لبنان، وما قد يصبح فلسطين الجديدة أو سوريا الواسعة أو إحدى الجمهوريات الثورية التي قد تنسب إلى العروبة أو التقدمية أو الاشتراكية… وفي فترة الانتقال تلك لا يعلم أحد كيف يجب أن يكون التصرف، فمزاجية حاملي السلاح وحدها التي تحدد تصرفهم وليس أشياء أخرى. ولكن الوفد كان يحتمي بإسم عزمي وقد كان له بالفعل نوعا من التاثير على الحواجز والمسلحين. ففي “بيت ياحون” حيث كان حاجز الجيش فيما مضى يعطي الطمأنينة لأبناء عين إبل، كان هناك هذه المرة جيش آخر وعلم آخر غير العلم اللبناني، وقد بدوا وكأنهم غرباء فالانضباط مفقود كما يظهر من ثياب ولحية ووضع الغفير الذي وقف هناك، ولم يكن كلامه مهذبا لائقا كما تعودوا في الماضي، وقد كان وحيدا كما يبدو وليس كعادة الجيش على الحواجز. ثم عندما عرّفوا عن أنفسهم أمرهم بالانتظار ولم يسمح لأحد منهم بالنزول من السيارة للتحدث معه وشرح الموقف. ثم ذهب إلى قرب الغرفة التي يرتاح فيها عادة الجنود، ونادى على أحدهم، وبعد عدة دقائق ظهر “الرقيب” وتقدم نحو السيارة وسأل عن الهويات ووجهة الوفد وما سبب النزول إلى صور ولماذا لم يكونوا مزودين بتصريح من أحد المسؤولين. ولكنه عندما سمع بأسم بلال وعزمي تغيرت لهجته ولانت قليلا وسمح لهم بالانطلاق. بعد انطلاقهم من بيت ياحون الذي كان إسمها يذكرنا بالاهين مهمين هما “ياه” و”أون” بدت تبنين تتوسطها القلعة التي تحيطها بيوت البلدة ويجاورها من الغرب بقايا “الحصن” الذي تستند إليه الكنيسة، فلا يزال في تبنين حي للمسيحيين ولو قل عددهم. ومن الشرق يظهر المستشفى العسكري الذي كانت الراهبات تشرفن عليه قبل الحرب. وكانت قلعة تبنين، التي لم يزل سورها الخارجي قائما منذ الحروب الصليبية حيث أنشأها لأول مرة “هيو سانت أومير” أمير الجليل الأول بعد “تانكرد” الذي كان رافق “بوهيموند” وقاتل معه ثم التحق ب”غودفروا دو بويون” الذي توج أول ملك على مملكة القدس وأقطع “تانكرد” الجليل . وقد كان بناء تبنين التي سميت ب”تورون” في اثناء حصار صور، وقبل سقوطها. وقد اصبح سادة تبنين دائما من المقربين من الملك. وكان “همفري الثاني” أو “الكبير” “كنداسطبل” المملكة، وقد اشتهر ببطولاته وحروبه إلى جانب الملوك المتعاقبين على مملكة القدس. وقد تمكن من تخليص الملك “بودوان الرابع” من كمين نصب له بالقرب من بانياس وبقي يقاتل مع بعض جنوده لتأمين انسحاب الملك وحراسه، وكان يومها في السبعين من عمره، وجرح في تلك المعركة وعاد إلى حصن “هونين”. ولكنه توفي فيما بعد متأثرا من تلك الجراح . وكانت تتبع لتبنين قلاع وحصون عديدة منها “دوبيه” التي بحسب “ابن جبير” مركز المكوس أو الضريبة المفروضة على كل القوافل العابرة بين الشام وعكا لصالح صاحب تبنين، وقلعة “هونين” التي كانت مركز الدفاع الرئيسي عن المملكة بعد سقوط بانياس، وقلعة “مارون” . وقد أعاد فخر الدين الثاني إستعمال تبنين وكذلك فعل الشيخ ناصيف النصار باعادة ترميمها واستعمالها كمركز “حكومته” في نهاية القرن الثامن عشر. وقد بدت القلعة تحيطها خضرة ربيعية وتواجهها من الشرق تلة “النبي صديق” وفيها قبة يقال بأنها قبر “الولي” الذي يعتقد بأنه هو نفسه الكاهن الكنعاني الذي بارك “ابراهيم الخليل”، وقد ورد ب”التوراة” بإسم “ملكي صادق”. وهنا تجدر الأشارة بأن “خربة سلم” القريبة من المكان قد تكون نفسها “شلم” التوراة أي “شلم” “صديق”. وبين “شلم” و”صديق” من الشرق مرتفع آخر ليس أقل جمالا وهو المعروف ب”صفد البطيخ” وإسمها القديم “صب دو بتاخ” أو “صفد الفتاح” المنسوبة إلى “ال – بتاح” وهو أحد “الكبيروس” أو الآلهة التسعة الكبار وقد بقي اسم الفتاح الذي كان يتمثل على مقدم السفن الفينيقية، بقي هذا الأسم من أسماء الله الحسنى حتى مع الاسلام. وصفد البطيخ مع برعشيت وتبنين ظلت قرى يسكنها المسيحيون حتى اليوم…
على مفرق “عيتا الزط” – تبنين وبمقابل محطة “وزنة”، حيث كان العينبليون يواكبون في ايام العز العرسان بعد الأكليل بسياراتهم حتى تلك المحطة، حيث تعود فتعمر الدبكة توديعا للعروسين اللذين يسافران إلى جبال لبنان لفترة شهر العسل، كان يقع منزل “محمد الطويل”، وهو محمد فواز من تبنين وقد كان تلميذا في مدرسة مار يوسف الثانوية في عين إبل وقد أطلق عليه لقب “الطويل” تمييزا له عن “محمد فواز” الآخر الذي كان أقصر منه. وكان محمد شابا مهذبا لم تصدر عنه أية ذلة طيلة السنوات التي أمضاها في عين إبل، وقد نال احترام وتقدير الجميع، وكان كلما التقى أحد أبناء عين إبل يستقبله بالترحاب ويدعوه إلى منزله. وعندما مر الوفد من أمام بيته في ذلك اليوم كانت تقف سيارتا جيب مرقطتين ومسلحتين برشاشات كبيرة وقد تناثر المسلحون حولهما. فخفف السائق من سرعته تحضيرا للوقوف إذا ما أشير له بذلك ووضعت الأيدي على القلوب تحسبا ولم يجرؤ أحد على التلفت باتجاه بيت محمد خوفا من أن يوقفهم هؤلاء المسلحون. ولكنها مرت على سلامة، كما يقال، ولم يشر أحد من المسلحين على السائق بالتوقف. فأكمل الوفد سيره على طريق “عيتا الزط”. وعيتا الزط قرية عرفت بهذا الأسم منذ آلاف السنين ويدل اسمها على تواجد شعب قديم عرف باسم “الزط” في هذه المنطقة ولا تزال “قراص الزط”، وهي أكلة معروفة في قرى المنطقة تذكر بهذا الأسم وقد رأى بعض قصيري النظر والذين لا يعرفون من الأسماء إلا ظواهرها وترنيماتها السمعية ولا يفقهون بعمقها التاريخي الذي قد تكون حملته لالآف السنين، أن يغيروا اسمها إلى “عيتا الجبل” فتصبح بشحطة قلم “عيتا الجبل” ويمحى “الزط” وتاريخهم من الوجود.
تابع الوفد طريقه فاجتاز حداثا وحاريص. وفي مفرق كفرا – ياطر كان هناك حاجز للجبهة الشعبية. وقد كان هؤلاء من المتطرفين عادة ولكنهم لم يكثروا من الكلام بعد أن عرفوا وجهة الوفد. لكن أحد المسلحين أسمعهم كلمات عن أنهم عملاء السلطة والاسرائيليين وقد كاد “ريمون” أن يجاوبه “بأنكم أنتم العملاء والمأجورين وناكري الجميل” لولا أن “أبو مارون” شد على يده ليسكت “فلسنا بموقف يسمح لنا الحفاظ على الكرامة”. وبعد قليل إجتازوا “وادي السد” حيث كان الجيش يحتفظ عادة بفرقة من الهندسة لمحاولة تدمير الطريق في حالات الهجوم البري لتأخير العدو، ولكن الموقع كان فارغا لأنه لم يعد هناك جيش أو قيادة، وهم مسؤولي ما سمي ب”الجيش العربي” إختلف عن هم الجيش اللبناني الذي كان يعتبر مهمته تتعلق بحماية الوطن وليس بقتال فئات من الشعب، بينما اقتصر هدف هؤلاء على محاربة المسيحيين وتوسيع النعرة الطائفية وخدمة اسيادهم الفلسطينيين والليبيين. وفي أول صديقين كان هناك علم لحركة أمل وصورة للسيد “موسى الصدر” وكانت هذه أولى مظاهر التحول الشيعي الجديد، فالمسلمون عادة يتجنبون الصور للرموز الدينية لأنها تعتبر تأليها للأشخاص وإشراكا أو تعبدا لهم، وهذا يتنافى مع تعاليم الاسلام، ولكن الشيعة كانوا قد بدأوا يتميزون في هذه الحركات عن غيرهم من المسلمين. وفي قانا كانت هناك تحركات كثيرة للفلسطينيين فلهم في أولها مراكز للتدريب وعندهم مواقع كثيرة في مثلث محرونة – جويا – قانا. ولكن رؤية “أبو حسن” جعلت “أبو مارون” يصر على السائق بالوقوف.
نزل “أبو مارون” من السيارة وكأنه إلتقى غائبا عزيزا فتعانق مع “أبو حسن” الذي رحب به من كل قلبه فقد كان “أبو حسن”، غير شكل، وهو مهاجر عاد من أفريقيا وفتح تجارة في بلدته قانا. وكان يحب المرح ويفتش عن الجلسة الحلوة والسهرة اللطيفة. وقد كان يقصد عين إبل ليشرب كأسا مع “أبو مارون” ويمضي أمسية هادئة. تحادث الرجلان برهة قبل أن ينتبه “أبو حسن” للذين في السيارة فيمضي يدعوهم للنزول إلى منزله لتناول القهوة، فلا يجوز أن “يمروا دون أن يستريحوا من سفرهم ولا يزال النهار طويل”. وعبثا حاول “أبو مارون” أن يشرح له بأنهم بعجلة من أمرهم ولكنه أصر، وفي هذه الأثناء مرت سيارة جيب تابعة لأحد التظيمات كتب عليها “منظمة العمل الشيوعي” وكان سائقها بعجلة من أمره وكاد يصدم “أبو مارون” فصرخ به “أبو حسن”:
– ولو… شو هالسرعة كنت ضربت الزلمي…
ولكنه لم يكن بعد انتبه إلى أنها سيارة مسلحة. وإذا بالسائق الفتى “يشحط” فرامله فتصدر دواليبه صوت تزحلقها على الأرض، ثم يرجع إلى الخلف مسرعا، ويتوقف قرب “أبو حسن”، فينزل ثلاثة من المسلحين ويمسكون به وب”أبو مارون” وبدفعونهما إلى السيارة وهم بتهددون “أبو حسن” لتجروئه على رفع صوته.
عندها اقترب بعض ابناء البلدة ومنهم “أبو علي” صاحب الدكان الذي يعرف هؤلاء المسلحين وأخذ بتهدئتهم وقد حمل بيد بعض قرون الموز وباليد الأخرى غصن صغير تعلقت به عدد من حبات الأكيدينيا الشهية ووزع ما بيديه على “الأحوان” وقد أخذ على عاتقه الموضوع مترجيا أن “تمسح بهالدقن ومعليش هالمرة… اعتبروها غلطة خيكن أبو علي…” ويظهر أن كرم أبو علي كان سابقا على كل هؤلاء المسلحين فعفوا عن أبو حسن وأبو مارون “كرامة له” وتابعوا طريقهم. عندها اعتذر الوفد من أبو حسن وشكروا أبو علي الذي اعتذر بدوره عن الحادث قائلا:
– الله ينرق هالأيام على سلامة، هاييتنا متل ما شيفين كل يوم نفس المشكل، وما باليد حيلة…
وأكملت السيارة الطريق باتجاه صور. وفي آخر قانا ظهرت على يمين الطريق تلة تبعد بعض الشيء باتجاه الشمال ويبدو على قمتها شجرة كبيرة وبناء يقال له “مقام الجليل” وهو مقام مكرم مثل مقام النبي “صديق” قرب تبنين ويعتقد البعض بأن قانا الجليل التي عمل فيها السيد المسيح أولى عجائبه هي نفسها قانا هذه وقد وجدت نقوش بقربها تمثل المسيح وتلامذته الأتني عشر وبعض الأجاجين التي تشبه تلك التي كانت تستعمل أبام المسيح. ويقول بعض الباحثين بأن :أوزابيوس” أسقف قيصرية الذي عاش في القرن الثالث وكتب “جغرافية فلسطين” يقول بما يتعلق بقانا أنها “قانا التي إلى صيدون الكبرى من سبط أشير هناك حول سيدنا والاهنا يسوع المسيح الماء إلى خمر ومنها نتنائيل وهي مدينة ملجأ في الجليل ” ولا يزال وادي عاشور الواقع قرب قانا يذكر ب”أشير”، ويقول القديس “أيرونيموس” الذي عاش في القرن الرابع محددا فوقع قانا التي عمل فيها المسيح العجائب بأنها “قرية صغيرة اليوم في جليل الأمم ” ولا يمكن أن يكون جليل الأمم بالقرب من الناصرة وإلا فاين يصبح جليل اليهود عندها؟.. وفي المنطقة كثير من الأماكن التي تعود إلى العهود الأولى للمسيحية وتذكرنا بأنها كانت أول ملجأ للرسل الهاربين من الاضطهاد ومن ثم أول أرض للبشارة فأولى عجائب السيد المسيح قد جرت فيها ويذكر التقليد بأن أول مجمع كنسي خارج فلسطين كان اقيم في صور وحضره ثلاثمئة أسقف. ولا يزال اسم القديس قونون ظاهرا في اسم “دير قانون” وفي المنطقة مكانين يحملان هذا الأسم (دير قانون النهر ودير قانون راس العين) وهو يذكرنا أيضا بالرسول سمعان القانوني الذي يقال بأنه نتانئيل نفسه، وقد تكون “دير كيفا” منسوبة لبطرس الذي كان اسمه سمعان وقال له المسيح: “سيصبح اسمك كيفا” وكيفا بالآرامية تعني الصخرة وباليونانية “بطرس”…
وبعد حانويه وعند قبر “حيرام” الذي يقول البعض بأنه أحد ملوك صور بينما يقول آخرون بأنه “حيرام ابي” المهندس الذي بنى هيكل سليمان، كان هناك سيارة بيك أب عسكرية معطلة تقف في وسط الطريق. فاضطر سائق سيارة الوفد إلى التخفيف والنزول خارج الأسفلت ليكمل طريق.
وفي النهاية تمكنوا من الوصول إلى صور…
كانت صور قد أصبحت كالمخيمات فقد انتشر المسلحون والباعة فيها، وتكاثرت حول الطرق أنواع من البسطات كان بينها كثير من المسروقات تعرض للبيع بعضها أثاث بيوت على أنواعه، وقد تضمنت حتى الأبواب والشبابيك. وكانت هذه المسروقات من مآثر غزو القرى المسيحية في الدامور والجية وغيرها، أو من ألأحياء المسيحية في الضاحية الجنوبية وغرب بيروت حيث هجر هؤلاء من بيوتهم أو خطفوا أو قتلوا ولم يكن لهم من ذنب، في أغلب الأحيان، إلا إنتمائهم المسيحي…
وكانت سيارات مسلحة بال”دوشكا” أو المضاد وبعضها بمدافع ال”بي-10″ تجوب الطرق باشكال وألوان تتمازج وتتداخل دونما ذوق أو نمط معين، ويقف خلف هذه الأسلحة شبانا تختلف ألوان وأشكال ثيابهم ولكنها تقترب بالأغلب من الأخضر والكاكي وقد ترك أكثرهم لحيته وشعره وربط جبينه أو زنده بشريط. وكان هناك من يلف “الحطة” المرقطة حول عنقه تيمنا بفلسطين و”حطة” “أبو عمار” المشهورة، وبينهم من كان يحمل “الكلاشنكوف” أو ال”أر بي جي”…
دخل الوفد بعد طول انتظار إلى الردهة الخارجية حيث جلس عدد من الأهالي ينتظرون دورهم. وقد كان يدخل بين حين وأخر أحد المسلحين ويفتح باب المكتب حيث من المفروض أن يكون “عزمي” ثم يخرج دون أن يعيرهم اي انتباه. لم ترق الحالة ل”أبو مارون” فنهض وتقدم صوب الباب وفتحه فإذا به وجها لوجه أمام “عزمي” الذي كان يجلس في كرسي فخم لم يتجانس مع حالة المكتب، ولا بقية الأثاث، وقد توزعت أوراق على الطاولة أمامه بشكل غير منظم بينما ظهر خلفه رشاش صغير علق على الحائط. فنظر إلى “أبو مارون” مستفهما عابسا ولكن حنكة أبو مارون المعهودة وروح النكتة عنده وتنبه عزمي لأهمية هذا الوفد، جعلته يقف من كرسيه ويخرج معه لدعوة البقية للدخول معتذرا عن التاخير. ثم نادى على أحد المسلحين لإحضار الشاي أو القهوة لمن يريد. وبدأ بالسؤال عن “إخواننا” في عين إبل وبأنه سمع بالحادثة المؤلمة التي يعتقد بأن “عملاء العدو” قامو بها، ولكنه يريد أن يسمع منهم تفاصيل أكثر لكي يستطيع أن يضع اليد على هؤلاء “القتلة” ويربي المنطقة بهم، “فلن نرضى أن يستغل أحد الوضع ويحدث الفتن بين الأخوة في منطقة تحت سلطة الثورة”. كان هذا هو الجو العام الذي تحدث فيه عزمي وكان مشجعا نوعا ما فقد وعد بالاقتصاص من المجرمين قائلا:
– لا ترضوا إلا بأن تعلق مشانقهم في ساحة الكنيسة في عين إبل…
لكن “ريمون” فهم أن الموضوع قصة عواطف ليس إلا، وأراد أن يخرج باي مكسب للبلدة في مجال الحماية ووقف التعديات. فطلب من عزمي أن يمنع على مسلحيه التوجه إلى عين إبل. فقبل ذلك على الفور وأقترح أن تقوم دوريات في عين إبل من قبل أهل القرية لحماية أنفسهم من الدخلاء باعتبار أن هؤلاء ليسوا من قوات الثورة. وعرض تسليم سلاح لأهل البلدة من “فتح”. فكان الجواب أننا لا نريد أن نصبح خط مواجهة وجل ما في الأمر أننا نرغب بالتهويل على المشاغب والسارق وذلك ممكن بسلاح الصيد. ثم استغل أبو مارون الوضع قبل الانتهاء من الاجتماع وسأل عن وضع البنزين والطحين فأجاب عزمي بأنه يدرس الموضوع وسوف يعالج أمور الناس المعيشية. وطلب أن تشكل لجنة متابعة خاصة لموضوع التموين. وكانت كل أنواع الوقود قد خفت وشح توزيع الطحين على التجار فارتفعت الأسعار بشكل كبير. ولم يكن هناك سبب لقطع الوقود كون مصفاة الزهراني داخل منطقة نفوذ الفلسطينيين أما بالنسبة للطحين فقد كانت المطاحن الكبرى وأهراءات القمح في الشرقية ومن الطبيعي أن تنقطع ما دامت الطرق والاتصالات بين المنطقتين مقطوعة. ولكن عزمي تكلم عن كميات سوف تأتي بالبحر وأخرى بالبر من سوريا… وهكذا انحل الاجتماع، وقد كان باديا على عزمي الرضى، فعين إبل ليست أية قرية في المنطقة، فهي بلدة البطريرك الماروني وهي ذات الصيت والهيبة والكل يعرفها، وهي واجهة المسيحيين في كل المنطقة الجنوبية منذ العشرينات، وكل الزعامات الحنوبية لها في عين إبل علاقات وحتى الزعامات الفلسطينية تعرف مقام عين إبل وقيمتها، وقد كانت تقدر دورها والمساعدات التي قدمتها للاجئين في 1948 ولذا فقد كان مجرد زيارة وفد من عين إبل على هذا المستوى له في صور إعترافا وتثبيتا لسلطته ودورا مهما سوف يقوم به على صعيد العلاقات بين سكان المنطقة…
ترك الوفد بوابة صور باتجاه البص دون المرور على المطرانية حيث كان الأب مارون صادر، نائب المطران وإبن عين إبل، يتواجد بشكل دائم لخدمة الرعية هناك. وقد كان المطران “يوسف الخوري” غائبا في بيروت بعد تعرضه لمحاولة إغتيال عند مستديرة الحايك في سن الفيل. وقد قيل يومها أن العناصر التي أطلقت النار عليه قدمت من مخيم تل الزعتر الفلسطيني. وكانت محاولة إغتياله تهدف إلى زيادة الفتنة كونه إحدى الشخصيات المهمة على صعيد الموارنة في كل لبنان. وعند مرورهم أمام “بيت الخليل” الذين كانوا يشكلون زعامة صور ومنافسوا بيت الأسعد على زعامة الشيعة في المنطقة، وكانت لهم علاقات مهمة بالرئيس شمعون وقد شكل “كاظم بيك” قوة سياسية وتأثيرا مهما على الأحداث بخاصة يوم ساهم في قيام التفاهم بين الزعماء الموارنة الثلاث الذين شكلوا الحلف الثلاثي الذي قضى على أحلام الشهابية في انتخابات 1968 وأوصلت نتائجها الرئيس فرنجية إلى الحكم في 1970. كان بيت الخليل خاليا إلا من الغبار على شبابيكه المخلعة، حيث كانت تتزاحم الأقدام وتعج الوفود في الماضي القريب، ولكن سيطرة الثورة الفلسطينية قضت على وجود هذه الزعامة وصادرت ممتلكاتها ومنعت بالقوة والتهديد أي من “أولاد الخليل” من البقاء في صور، فتفرق المحازبون وتواروا عن الأنظار، نظر “أبو مارون” إلى ذلك البيت وقد كان فيما مضى صديقا ل”ناظم” وطالما زار “عبد الرحمان” الذي بقي وحيدا في صور متحديا كل التيارات المناهضة وحتى الثورة نفسها وأزلامها حتى مماته قهرا على الحالة التي آلت إليها البلاد، وقال في نفسه هل تعود الأيام الحلوة ونرجع إلى صور ورجالاتها الحقيقيون يحكمونها؟ أم أن ما مضى قد مضى وسيصبح ذلك حلما ونعتاد على الواقع؟ أم أنها حالة عابرة سوف تنتهي وتعود الدولة فتلملم أطرافها ويسود الاستقرار؟
وصل الوفد إلى عين إبل مساء ذلك اليوم ولم تكن الظلمة قد حلت بعد، وفي مدخل القرية فوجئوا ببعض الشباب يحملون سلاحا ويرابطون قرب بيت “حنا الياس” وكان بينهم “ظطام” وابراهيم وسعيد ومارون وغيرهم ممن كانوا تسلموا في الماضي سلاحا من “الأنصار”، وهي فرقة دربها الجيش اللبناني وسلمها أسلحة لحماية المواطنين في القرى من تحرشات الفلسطينيين بنوع خاص. وقد كانوا يتبعون في الإمرة إلى أحد ضباط الجيش اللبناني ويتواجدون في قراهم. وكانوا بعد أن قام جيش لبنان العربي قد احتفظوا باسلحتهم ولم يسلموها لهؤلاء، بالرغم من مطالبتهم بها. وهكذا عندما شعروا أن الوضع أصبح خطرا على ابناء البلدة، وها هي أولى الجرائم ترتكب بحق أثنين من الفلاحين، بعد أن كانت حرمة القرية قد انتهكت بسرقة ثلاث سيارات من أمام منازل أصحابها وبالرغم من معرفة مكان وجودها وأسماء سارقيها وتوجه أصحابها إلى جماعة “الأمر الواقع” في بنت جبيل لم يجدوا آذانا صاغية ولا اهتماما لا بل خافوا من الأسوأ، لذا فقد قرر هؤلاء “الأنصار”، بعد هذه الحادثة اليوم، أن يقيموا أمنا ذاتيا دون الرجوع إلى أحد ولا حتى زعماء البلدة. أراح هذا المظهر “ريمون” قليلا فقد كان في حديثه مع عزمي المح إلى نوع من هذا التصرف، ولكنه كان يتساءل في قرارة نفسه عن كيفية التنفيذ، ولم يكن خطر بباله أن هؤلاء الشباب سوف يهرعون من تلقاء أنفسهم إلى القيام بدوريات لحماية البلدة، وقد اصبح لكلامه ما يدعمه الآن ولهؤلاء أيضا ما يغطي تصرفهم، فزعيم القوى المسيطرة على المنطقة عنده علم بالموضوع لا بل كان هو من إقترح هذا التصرف. بعد التنبيه لعدم التحرش بالناس أو السعي إلى خلق المشكل، أكمل الوفد طريقه إلى البلدة لاطلاع الباقين عن نتائج المهمة.
أما في البلدة فقد كان الجدل بدأ يدور حول ضرورة أو عدم ضرورة الدوريات وهل سيعتبر تحرشا بالناس في المنطقة أم لا. وكان “المعسكر اليساري” يعتقد بعدم جدواها بينما القلة من اليمينيين الخائفين على حياتهم ومستقبلهم بعد ما جرى كانوا متحمسين لهذه التجربة التي “قد تنذر إذا لم تردع”. ولكن وصول الوفد أوقف كل الآراء والأحاديث ريثما يعلمون ما هو الوضع وما كان موقف “الجماعة” في صور…
بعد أن شرح الوفد أمام عدد كبير من أهل القرية الذين تجمعوا تلقائيا في بيت “أبو ريمون” ما حدث معهم وخاصة طلب تحييد القرية أمنيا واقتراح عزمي لفكرة “الدوريات المحلية”، تغير موقف المعارضين وأصبح الجميع مع فكرة “الأمن الذاتي المؤقت”. وعرض الاستاذ “حليم”، وقد كان من ضمن الوفد، تأليف لجان لمتابعة الأمور الحياتية والأمنية والاتصال والتنسيق مع المحيط والمسؤولين في المنطقة. وهكذا تألفت “لجنة التموين” “ولجنة العلاقات العامة” و”اللجنة الأمنية” و”اللجنة العليا” التي تشكلت من زعامة القرية لتشرف على عمل اللجان الأخرى. ودخلت القرية بومها إطارا جدبدا من العلاقات داخل المنظقة كان مقتل بولس وشكيب السبب المباشر له…
بقيت الحالة هكذا عدة أشهر ولكن أوضاعا جديدة في الشمال بدأت تضع شكوكا حول مستقبل المنطقة والقوى التي تحكمها، فقد سقط مخيم تل الزعتر بيد القوى اليمينية بعد أن كان يهدد “بيروت الشرقية” ويمنع التحرك بين مناطقها، وقيل يومها أن السوريين غيروا من تحالفاتهم ووقفوا ضد “الثورة” التي تعاظمت قوتها لدرجة سيطرتها مع حلفائها اليساريين والقوى الاسلامية في أغلب المناطق اللبنانية وكادوا أن يسقطوا الشرقية كلها وكان كثير من القوى اليسارية العالمية والدول العربية يساندونهم، فاضطر المسيحيون والاحزاب اليمينية، بعدما يئسوا من مساعدة الغرب تحت شعار الخوف من الكتلة الشرقية، أن يجروا إتصالا مع الاسرائيليين ويفتحوا بابا للتعاون لكي لا تسقط المنطقة بيد الفلسطينيين وحلفائهم، فكانت ردة فعل القيادة السورية بشخص الرئيس الأسد أن تحولت ضد حلفائها وأجرت إتصالا بالرئيس فرنجية الذي كانت تربطه علاقات صداقة شخصية بالرئيس الأسد منذ 1958. وقد ادعى الرئيس الأسد فيما بعد بخطابه الشهير في تموز 1976 أنه لم يكن يعرف نوايا الفلسطينيين واليساريين وأنه كان يعتقد أنهم مظلومون ولكنه اكتشف أن “جنبلاط” يريد القضاء على المسيحيين والسيطرة على لبنان ما لا يرضاه هو، لأن ذلك برأيه سوف يؤدي إلى تقسيم لبنان ونشؤ “دولة المقهورين”، دولة مسيحية أكثر عداء من اسرائيل، وقد يكون محق، ومن يقرأ الأحداث كان يستطيع التصور أن تصرف الأسد وانقلابه ضد حلفائه كان وراءه بالفعل خوفه من التدخل الاسرائيلي الذي قد يعيد توازن القوى ليخرج المسيحيين من دائرة الخوف على المصير إلى المطالبة جهرا بحقوق لبنان في الاستقلال الكامل والحقيقي ومن ثم بناء الوطن الحر المتطور والمحكوم بديمقراطية تبعد كل البعد عن الذي يجري في دمشق وغيرها من العواصم العربية. كان هذا الانقلاب في العلاقات بين حلفاء الأمس حافزا لكل المقهورين للتامل بوضع جديد يعيد خلط الأوراق. وبدت منظمة الصاعقة الفلسطينية السورية والتي كانت أول من شارك بالهجوم على الدامور وبيت ملات ودير عشاش والقاع وغيرها من القرى المسيحية، بدت وكأنها تريد مساعدة المسيحيين وحتى تسليحهم ضد “فتح” والمنظمات الأخرى. ثم أنشأ السوريون “طلائع جيش لبنان العربي” من القوى التي لم تلتحق بجيش الخطيب المسمى الجيش العربي والتي كانت متمركزة في البقاع حيث أصبح السوريون أصحاب السلطة والقرار. وجرت عدة صدامات مسلحة بين الفصائل الفلسطينية، ما ظهر وكأن السوريون ينوون بالفعل وقف الهجمة الفلسطينية على لبنان وإعادة سلطة الدولة.

******************
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة التمهيد والحلقة الأولى (طريق البحر) من كتاب الكولونيل شربل بركات “المداميك”
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الأول…الحلقة الثانية

*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الأول…الحلقة الثالثة
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الأول…الحلقة الرابعة
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الأول…الحلقة الخامسة

*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الثاني…الوصول إلى عين إبل/الحلقة الأولى
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الثاني…الوصول إلى عين إبل/الحلقة الثانية
* ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الثاني…الوصول إلى عين إبل/الحلقة الثالثة
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الثالث/الحلقة الأولى
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الثالث/الحلقة الثانية

*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الثالث/الحلقة الثالثة
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الثالث/الحلقة الرابعة
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الثالث/الحلقة الخامسة
ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الرابع/الحلقة الأولى/سيطرة المنظمات