كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الرابع/الحلقة الأولى/سيطرة المنظمات

203

كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الرابع/الحلقة الأولى/سيطرة المنظمات
16 تشرين الثاني/2020

أكمل شريف طريقه باتجاه صف الهوى ومر على ضهر العاصي حيث بقيت بعض التحصينات التي تذكر بأحداث 1976. وقد كانت عين إبل، هذه المرة أيضا، عرضة لتجربة قاسية دفعت خلالها من دماء بنيها. وقد توقفت فيها الحركة الانتاجية ونزح عنها الكثيرون ولم يبقَ إلا قلة ممن لم يزل العنفوان يغزي نفوسهم والكرامة والعزة يعنيان لهم أكثر من الحياة. بمثل هؤلاء تبنى الأوطان عادة وترسم الحدود، حدود التعاطي مع الآخرين، حدود الاحترام، حدود السلطة، حدود الحرية التي لا تعني الحياة من دونها الشيء الكثير. وعندما تستقر الأمور كثيرا ما تنسى الشعوب هؤلاء الذين لو لم يقفوا تلك المواقف لما كانت لهم هم عودة إلى ديار أو وقفة عز أو كلمة وراي. ويعتبر البعض أن الوجود تحصيل حاصل والكرامة مبدأ عام، والحرية والعزة أشياء توهب بلا مقابل. ولكن قدر عين إبل إلا تخلو من الرجال وقد أعطت ما أعطته، ونفس الحرية التي أزهرت مع تضحيات الجدود لا يمكن أن يزول. وهكذا فكما تركها البعض يوم قست الأحوال، عاد اليها آخرون، وقد سال فيهم دم تغزى على البطولات وقد قبر الشهداء فعله فنمّى فيهم العنفوان، وما هو إلا وقفة عز ساعة يحاول البعض أن يذل القوم…
في بدء الأحداث سنة 1976 وكانت قد توضحت الأمور وبات معروفا أن الجيش والدولة غير قادرين على محاربة الفلسطينيين ووقف تعدياتهم، وقد تنامى في الجنوب خاصة نفس اليسار الذي غذته الشيوعية تارة والبعث أخرى وكل المعذوفة المناهضة للدولة، وقد عشعش في بيوت الفقراء كما هي العادة دائما، وكثر في القرى الشيعية في الجنوب حتى أصبح مكتب المنظمة يتدخل في شؤون الناس، وأفرادها يدخلون المدارس ليفرضوا الإضراب حينا أو يهددوا أحد الطلبة حينا آخر. ثم غاب الجيش عن المنطقة وشاع الفلتان. وإذا ب”الاخوان” يرسلون من يختطف فلاحين من عين إبل كان كل منهما يفلح أرضه قرب شلعبون.
كان بولس رجلا بكل معنى الكلمة فقد ثبت وجوده كأحد النواطير الذين يهابهم الناس. وكان منظورا في القرية، فهو عضو في المجلس البلدي، وقد بقي بين القلائل الذين كانت الأرض لهم صديقا وعونا ولم تخنه مرة بالرغم من قساوة الظروف. وكان قد بدأ يكرّب أرضه لزراعة الدخان في أوائل نيسان، وقد ربط فدانه باكرا كعادته قبل الفجر. وكان “شكيب” في الجهة المقابلة قد “ربط” هو الآخر وبدأ بالحراثة وقد وضع الخرج بجانب الصخرة هناك وفيه زاده ومطرة الماء، و”طوّل” لحماره في الربعة المواجهة للطريق العام. وبعد أقل من ربع ساعة رأى شكيب شخصين يتقدمان باتجاهه، وقد علق كل منهما سلاحه في كتفه فلم يبال ولم يحاول النظر اليهما وكأنه لم يرى شيئا. لكنه عندما رد في التلم الثاني فوجيء بأحدهم يسدد سلاحه إليه بينما أصبح الثاني على بعد خطوات منه، فلم يخف شكيب واعتقد أنهما يريدان سؤاله عن شيء ما. ولكن، عندما خرطش ذلك الشاب سلاحه ووجهه إلى صدره، ارتعب فأوقف الفدان وهم بالكلام. لكن الشاب اشار إليه بعدم الكلام أو إصدار اي صوت، ثم أمره بالسير أمامه باتجاه رفيقه رافعا يديه. وما أن وصلا إلى هناك حتى اقترب الآخر وربط له يديه خلف ظهره، ثم اقتاداه إلى جهة الغرب. وعند وصولهم إلى “تينات بو عواد” أمره أحدهم بالجلوس وبقي بقربه بينما ذهب الآخر باتجاه بولس.
كان بولس قد “رمى ” وبدأ بالفلاحة، وكانت الأرض تفرط أمامه متل “الكحل” وقد أعجبته فأعطى لفدانه أن ينطلق دونما حاجة للتوجيه فهو يعرف عمله ولم يزل في عز نشاطه والأرض تساعد. فكر بأنه سوف يتمكن من فلاحة “المارس” كله قبل الظهر. ولكنه ما أن وصل إلى نهاية التلم إذا بذلك المسلح يسدد إليه سلاحه ويأمره بالنزول إلى الجل الثاني. فاوقف الفدان وأقترب يريد الكلام. ولكن المسلح أمره بالسكوت والسير أمامه.
سار بولس وهو يفكر بأن هؤلاء سوف يفسدون نهاره، فما لهم وله حتى يقتادونه هكذا؟ وقد كان بدأ نهاره بشكل جيد، واعتقد أن ذلك المسلح سوف يأخذه إلى رئيسه أو مجموعته وهم يريدون سؤاله عن الطريق أو شيء آخر. ولكنه لم يحسب إبدا أنه ربما كانوا يريدون توقيفه أو احتجازه أو أيذاءه. ولكن عندما وصلا إلى حيث شكيب ورآه وقد ربطت يداه، توقف واستدار نحو ذلك المسلح الذي كان يقتاده مستفهما. فما كان من هذا الأخير إلا أن دفعه بيده محاولا إرغامه على التقدم. ولكن بولس كان رجلا ولا كل الرجال، ولم تؤثر يد ذلك الفتى عليه، فأمسكه بسلاحه وسحبه صوبه. فحاول الفتى تخليص سلاحه، لكن بولس دفعه به واسقطه أرضا فصرخ هذا برفيقه، وقد ارتعب:
– أقتله… اقتله…
فما كان من رفيقه الذي لم يبدو عليه أنه أشجع من الأول، إلا أن أطلق النار على بولس فاصابه. عندها أدرك شكيب أنه لا بد مقتولا فنهض يحاول الفرار ويداه مقيدتان. فقفز إلى الطريق وركض باتجاه البلدة، لكن رصاصات الغدر كانت أسرع منه، فأصيب وسقط تحت الطريق. فقام المسلحان وتأكدا من مقتل الرجلين بأن أطلقا رصاصة في رأس كل منهما وذهبا باتجاه الطيري.
لم يكن في تلك الجهات فلاحون غير شكيب وبولس، ولم يكن الرعاة قد سرحوا بعد في تلك الساعة. ولكن “أبو أميل” الذي كان قادما على فرسه إلى “الدوير”، سمع اطلاق نار، وقال في نفسه “الله ينجينا”. ولكنه لم يرد الاعتقاد أن هناك ما يدعو إلى القلق.
مر ذلك النهار كئيبا وقد تكاثفت الغيوم فحجبت الشمس وبقي النسيم البارد يلفح تلك الأودية ويداعب أوراق اللوز والملول ويحرك أطراف الأعشاب الربيعية التي تملاء الحفافي. وفي البلدة لم يكن أحد قد سمع اطلاق نار وكان ما يجري في بيروت يبعث جوا من التشاؤوم والقلق جعل الكثيرين يلجأون إلى سماع كل نشرات الأخبار. وكانت إذاعة “مونت كارلو” تعتبر مصدر الخبر المهم لأن اذاعة “صوت لبنان” لا يمكن التقاطها بسهولة والاذاعات الأخرى قد سيطر عليها اليساريون. وكان هناك بعض الذين هربوا من أحداث بيروت ينشدون نوعا من الطمأنينة في القرية التي لم تطالها الأحداث بعد. وقد هرب كل بطريقته ولم يخل ذلك الهروب من الخطر، إلا أنه يبقى أفضل من مشاكل بيروت وحصار الشرقية التي بدأ كل شيء ينقطع فيها وصار كل حي عرضة للقصف أو التقنيص. وكانت حلقات الكلام والنقاش وعرض الآراء والمواقف تنتشر حيث اجتمع أكثر من إثنين، ومادة الحديث طبعا ما يجري في العاصمة. وكان اليساريون لا يزالون يدافعون عن مواقفهم بالرغم من أنهم لم يجدوا لهم مكانا كمسيحيين في ذلك اليسار. وكانت هذه النقطة ما يشدد عليها “ياسر” في جداله معهم. وقد كان يمينيا منذ المولد، مسيحيا متمسكا، يفاخر بالدفاع عن اليمين ولبنان. لدرجة أنه لم يقبل أن يحذو حذو رفاقه في التعليم الذين ذهبوا إلى سوريا لينالوا شهادة يستطيعون بها مواصلة التعليم الجامعي فيتقدموا في وظائفهم إسوة برفاقهم الشيعة. فقد كان من نجح في البريفيه يستطيع تقديم طلبا للتوجيهية فينجح، ثم يسجل في الجامعة العربية وينال اجازة تعترف له بها الدولة وتخوله التقدم بالوظيفة. وقد اصبح هذا الدرب مسلك الأغلبية من معلمي المعارف في المنطقة. ولكن “ياسر” رفض هذا المبدأ واصر على النجاح بالشكل الطبيعي وظل يحاول ويدرس حتى نال الفلسفة اللبنانية، ثم تسجل بالجامعة اللبنانية مفضلا الصعوبة مع الانتماء لدولته على السهولة التي كان يشعر أنها تسيء الى المستوى المطلوب وتحرّف ذلك الانتماء. وقد قامت حلقات جدل مغلقة عدة مرات، لكن “ياسر” وأمثاله كانوا يهابون بعض الشيء من السلطة المتعاظمة لجماعات اليسار في مقابل انحصار سلطة الدولة حتى بيروت الشرقية. ولكنه كان له نقطة على أولئك أنهم هربوا من الشدة، ولم يجدوا لهم مكانا في مناطق اليسار، ولا ملجأ يحميهم ساعة الشدة تلك إلا قريتهم…
في مساء ذلك اليوم وقد كان الحديث يتجدد في الدكاكين والتنظير والجدل يتناميان، قامت صرخة في الحي الشمالي مثل “دبة صوت”. فتراكض البعض يستفهم وجاءت الأخبار أن بولس وشكيب مفقودين وقد ذهب من يفتش عنهما فوجد البقر يسرح بعيدا عن مكان الفلاحة ولم يجد لهما اثر. فاندفع الجميع، على هذا الخبر، ليساعدوا بالتفتيش عنهما ومعرفة سبب الغياب. وقد بدأت النظريات وكلها تدور في الاتجاه السيء. ولكن ظل الأمل ألا يكونا قد قتلا بل أختطفا فقط. لكن كلاما نسب إلى “ابو أميل” عن أنه سمع إطلاق نار صباحا زاد من التخوف. وهكذا فقد انطلق شباب البلدة كلهم للتفتيش عن الرجلين…
عندما وصل “مارون” إلى قرب شلعبون ذهب مباشرة إلى حيث كان شكيب يعمل وبحث في المكان فوجد أن الزوادة لم تزل في الخرج بجانب الصخرة ولم تمس ولا مطرة الماء ما زاده قلقا، سيما وأن الكمية المفلوحة من الأرض تدل على أنه لم يعمل قرابة الساعة وذلك يعني أنهما خطفا منذ الفجر وإذا كان هذا صحيحا فإنهما سوف يكونان في صور الآن أو في الرشيدية. ثم حاول مع من رافقه اقتفاء الأثر كي يعرف وجهة الخاطفين. وكان هناك فريقا آخر ذهب باتجاه المكان الذي كان يفلح فيه بولس وتابعوا نفس الأسلوب، وبعد قليل صدرت صرخة من مجموعة كانت توجهت صوب زيتون المطران بأنهم وجدوا شيئا.
كان ذلك في البدء بضعة رصاصات فارغة. ثم آثار دماء على الطريق ولما اقتربوا منها شاهد أحدهم جثة شكيب الذي كان واقعا على وجهه تحت الطريق وقد غطى دمه الأرض بينما ربطت يداه خلف ظهره. فنادوا على البقية ولم يقولوا بأنهم وجدوه مقتولا لأن شقيقه وأحد اولاده الصغار كانا بين عناصر إحدى مجموعات التفتيش. فاقترب من كانوا يفتشون حيث فلح بولس باتجاه الصوت وإذا بجثة بولس ممددة على طرف الجل المطل على “تين بو عواد” وقد اصيب برصاصة في راسه وأخرى في ظهره. فحمل الشباب الجثتين إلى البلدة وقد سيطر صمت القلق والخوف على الجو فتوقفت الأحاديث وقل الكلام الغير الموزون، ثم زاد مشهد الجثتين على ذلك أسى وحزنا على الرجلين…
لم تخفف صرخات النسوة المفجوعة من النظرات المبهورة والتي تحوي ألف سؤال. وقد بدا الاشمئزاز من الوضع في صمت الأفواه المبغوتة والوجوه المسودة الواجمة وكأن كل واحد قد طعن في الصميم…
في مساء ذلك اليوم لم تنم القرية بأكملها وقد تأثر “ابو ريمون” كثيرا وتحادث مع “أبو نصري” وهما عائدين إلى البيت وقد أعيد مشهد “سنة العشرين” أمام أعينهما.
لم يكن الرجلان بالرغم من تزعم كل منهما لعائلته بعيدين، فقد تجاورا في السكن وتصاحبا صغارا وكبرا في نفس العمل السياسي بعد أن كانا ترافقا في المعركة وفي الجهاد بعدها في سبيل رفع شأن قريتهما. ولطالما ركبا نفس الطريق واستعملا نفس السلوب، وقد تنافسا في الفروسية وعلى الزعامة وعلى رئاسة البلدية وحتى، شبابا، على قلوب الصبايا، ولكنهما كانا تعلما من أمثولة “الحرب” تلك أن عين إبل تبقى فوق الصراعات وأن التنافس لخيرها ورفع شأنها وليس لمصالح خاصة وتحزب أعمى. وفي الحالات الصعبة كان التشاور والتفاهم حاجة وواجب. وقد تعلما من الكبار والخبرة أن الأزمات تتطلب موقفا موحدا ولذا فقد قررا تكملة الحديث في البيت لوزن الأمور وإعطائها حجمها الصحيح…
كان بيت ابو نصري من البيوتات العينبلية الكبرى وقد بني على عقد كان جد أبيه الخوري “انطانس” قد أنشأه وفيه كان قتل جده “مارون” وشقيقته “مجيدي”. وكان الطابق الأول الذي بناه عمه الخوري “انطانس الصغير” قد شهد أياما ومواقف. وقد تحول مدخله من ساحة الكنيسة القديمة في الجهة الغربية إلى الساحة الشرقية التي دعيت “الحارة” وكانت مركز البلدة مدة مئة عام قبل أن تصبح ساحة الكنيسة الجديدة مركز القرية في العصر الحديث. وكان ذلك الدرج قد رأى زعماء ووجهاء وعامة من كل المنطقة يعبرونه. وشهد تجمعات واحتفالات لم يشهد مثلها في القرية إلا درج بيت “بو بركات” في ساحة الكنيسة الجديدة وأحيانا درج “ايوب” الذي كان ولده “انطانس”، بعد أن تعلم في روما ومارس الكهنوت سنوات عديدة، أصبح مطران صيدا ما أطلق على والده اسم “ابو المطران” حتى وفاته ولكنه لم يحظَ بلقب “أبو البطرك” لأنه توفي قبل أن ينتخب “أنطانس” في 1975 بطريركا على كرسي إنطاكيا وسائر المشرق.
كان أبو نصري قد استقر أخيرا على تحالف مع “بيت الأسعد” أحفاد “البيك” ولذا فلم يكن يأمل الكثير في هذه الظروف، والفلسطينيون وأعوانهم اليساريون هم ضد “كامل بيك” وقد اعتبروه ممثل الاقطاع السياسي والزعامة التقليدية. وبالرغم من أنه كان يمثل شريحة كبرى من المجتمع في جبل عامل، وفي نفس الوقت كان رئيسا لمجلس النواب، إلا أنه بسقوط الدولة وتعاظم سلطة المسلحين، فلسطينيين ويساريين، تقلصت فعاليته وصمت محازبوه، وقد فضلوا الانحناء على المجابهة. فدخل الفلسطينيون وأعوانهم إلى قصر “الطيبة” الذي كان رمزا لسلطة “بيت الأسعد” مدة أكثر من مئة عام، ونبشوا قبور الزعماء وقتلوا الحراس وبعض المحازبين…
أما ابو ريمون فقد كان بنى بالجهد الشخصي دارا جديدة قرب البيت العتيق الذي كان قتل فيه “عبد الأحد” في العشرين والذي سكنه مع زوجته “إميلي” أكثر من أربعين عاما. وكان الشارع فقط يفصله عن بيت ابو نصري. وكان أبو ريمون أصبح بعد وفاة والده “ابو يوسف” زعيم عائلته وهي كبرى عائلات القرية. وكان في نفس الوقت رئيسا لأقليم بنت جبيل الكتائبي وبطبيعة الحال يخشى، هو أيضا، تعاظم سلطة الفلسطينيين. فالكتائب في بيروت يقودون الحرب ضد الفلسطينيين وقد هوجم أعوانهم في كل البلاد حيث ضعف المسيحيون أو قل عددهم، وأضطر الباقون للهرب إلى بيروت. ولم يميز أحد بين رأي سياسي وموقف عسكري فالمسيحيون يلاحقون بشكل اجمالي فكيف إذا كانوا كتائبيين فتلك الجريمة الكبرى. ولكن في عين إبل لم يتعرض أحد قبل الآن لحادث اعتداء مباشر وقد عرف الأهالي كيف يتجنبون الاحتكاك بالمسلحين وانقطع كثيرون منهم عن التوجه إلى بنت جبيل بسبب وجود المسلحين هناك، بخاصة بعدما ذهب الجيش الشرعي وحل ما سمي آنذاك ب”الجيش العربي” محله، وقد كان صنيعة الفلسطينيين والليبيين. ولكن من جهة ثانية كان الخوف من اسرائيل، وإمكانية تدخلها لحماية المواطنين الذين يتعرضون لمذابح، قد كبح جماح المغامرين والمتعصبين هؤلاء هنا، ما لم يحدث مثلا في “بيت ملات” بالشمال أو في “الدامور”، حيث كانت “الصاعقة” السورية وغيرها من الفصائل الفلسطينية، قامت بالهجوم على البلدتين فقتل وتهجر أبناؤهما ولم ينجو إلا من هرب بواسطة زوارق الصيد في الدامور، يومهان في بحر هائج لا يزالون يذكرونه، وهم حتى الآن لم يعودوا إلى بلدتهم التي بقيت خرابا. وكان أبو نصري وأبو ريمون يعتقدان أن أهالي المنطقة والصداقات بين بنيها وتجارب الماضي سوف تمنع هؤلاء المسلحين من الاعتداء على البلدة أو أحد بنيها سيما وأنهم لم يحاولوا أن يقتنوا سلاحا ولا جاهروا بعداوتهم. إنما ما حصل اليوم بمقتل بولس وشكيب قد قلب الأمور وجعل البحث عن موقف فوحد وموزون لرد الخطر عن القرية ومواطنيها شيئا ضروريا…
دخل الرجلان إلى بيت ابو نصري لأنه لم يكن هناك من يزعجهما، فحتى ام نصري كانت قد ذهبت إلى ساحة كنيسة مار الياس الجديدة حيث كانت قد سجيت الجثتين وحيث تجمعت نساء البلدة ورجالها، بينما تلازم ام ريمون عادة البيت بسبب حالتها. فقد فقدت نظرها منذ زمن طويل ولم تعد تستطيع المشاركة بالواجبات الاجتماعية. وقد استعرضا الوضع من كافة جوانبه، فهم منقطعون عن المسيحيين ويفصل بينهم مسافات وأميال وبحر من السلاح والمسلحين، وقد حافظت البلدة على عدم اظهار عواطف أهلها خوفا من اختراع ذريعة لمهاجمتها خاصة بهذه الظروف، وسعت إلى الابقاء على روابط حسن الجوار والعلاقات الطيبة مع الجميع، ولكن مع عدم التنازل في الأمور المصيرية أو مجارات الغير مسايرة أو خوفا. وقد استطاعت البقاء خارج دائرة العنف والصراع الجاري حتى الآن. ولكن، وها هي قد إستفذت الآن، فهل يمكن السكوت؟ وما هو المقصود من قتل فلاحين من عين إبل إذا لم يكن لزجها في موقف حاولت تجنبه حتى اليوم؟.. كان هذا محور الحديث وخلاصته، إنما ما هو الحل وليس في اليد قوة للمناورة أو حلفاء للمساعدة، وها هو العدو يقرع الباب بأسلوبه المعهود ويجب أن يكون هناك رد. فقر الراي على أن يتم الاتصال بوجهاء المنطقة في بنت جبيل خاصة، لأن مقر قيادة الفلسطينيين كان فيها وهي تعتبر مركز القضاء والثقل الشيعي الأساسي وقد كان نائب المنطقة “عبد اللطيف بيضون” موجودا فيها والوزير والنائب السابق “علي بزي” أيضا وهما يمثلان زعامة بنت جبيل لا بل زعامة المنطقة، فكان من الضروري إذاً وضعهم بالأجواء والطلب منهم التدخل مع المعنيين لوقف التعديات في المنطقة…
بعد الجناز الذي حضره عدد كبير من القرى المجاورة وخاصة من اليساريين الذين وضعوا اللوم على “اسرائيل وعملائها لمحاولة خرق الصفوف وإحداث مشكلة في المنطقة حيث أصبح من الواضح أن الثورة الفلسطينية هي التي تسيطر”، توجه وفد من البلدة إلى بنت جبيل وتشاروا مع المعنيين من أبنائها، وبالطبع كان هناك نوع من التضامن وعدم الرضى عن مثل هذه الحوادث ولكن “ما باليد حيلة ويجب التوجه إلى الفلسطينيين فهم الذين يتحكمون بالمنطقة اليوم وعلى مسؤولي “فتح” الاهتمام بكشف الفاعلين”، كان هذا هو الجواب وخلاصة اللقاء. وقد عاد الوفد ولم يكن متوقعا منه الشيء الكثير…
كان “بلال” مسؤولا عن منطقة بنت جبيل في تنظيم “فتح” وكان يتردد في بعض الأحيان إلى “كازينو حيرام”، وهو المطعم الذي يقع في ضهر العاصي، لاثبات وجوده من جهة وللتقرب من الأهالي إذا أمكن، ولكن حتى هذا اليوم لم يكن حتى اليساريون من أهالي البلدة يجرؤون على مجالسته علنا، ومع ذلك استطاع أن يفتح نوعا من العلاقة مع “عصام” الذي يدير المطعم، بعد تتالي الزيارات. وكان هذا المطعم يعتبر الأفضل بمستوى الخدمة التي يقدمها حتى مطاعم “خيزران” على الطريق الساحلي، ولذا فقد كان يرتاده كل غريب يصل إلى المنطقة ويفتش عن جلسة هادئة ولقمة نظيفة. وكان ضابط الدرك وضباط الجيش عادة من زيائنه. وعندما أصبح الفلسطينيون حكام المنطقة كان من الطبيعي أن يتشبه “بلال” بهؤلاء الضباط ويصبح أيضا من الزبائن. وهكذا وبعد يومين على الحادثة قدم بلال إلى الكازينو وتعمد سؤال عصام عنها وعن ردة فعل الأهالي وأظهر تحمسا لمعالجة الموضوع مع “عزمي” إذا كان هناك نية من الأهالي للاجتماع به وبحث هذه الأمور، “فهذه من تصرفات العدو ليوقع بيننا ونحن لن تقبل أن تمر بدون أن يكشف الفاعلون ويأخذون عقابهم”. كان هذا الكلام الذي نقله عصام عن لسان بلال كافيا لاعادة طرح الموضوع، وتبرع البعض بالتوجه إلى صور ومقابلة “عزمي”، وهو مسؤول فتح في كل المنطقة. وتحمس بعض اليساريين الذين رأوا أن الواجب تجاه الضيعة من جهة و”الثورة” من جهة أخرى يدفعهم للتدخل و”تطويق الحدث قبل أن يفلت الزمام من العقال ونصل إلى حيث لا نريد”، سيما وأن بلال قد تحدث عن أن “أصابع العدو” وراء ذلك. تشكل الوفد من نفس العدد والعناصر تقريبا وتبرع البعض ليحل محل من أعتذر لتكملة العدد. وفي اليوم الثاني توجهوا إلى صور لمقابلة “عزمي”.

******************
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة التمهيد والحلقة الأولى (طريق البحر) من كتاب الكولونيل شربل بركات “المداميك”
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الأول…الحلقة الثانية

*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الأول…الحلقة الثالثة
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الأول…الحلقة الرابعة
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الأول…الحلقة الخامسة

*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الثاني…الوصول إلى عين إبل/الحلقة الأولى
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الثاني…الوصول إلى عين إبل/الحلقة الثانية
* ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الثاني…الوصول إلى عين إبل/الحلقة الثالثة
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الثالث/الحلقة الأولى
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الثالث/الحلقة الثانية

*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الثالث/الحلقة الثالثة
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الثالث/الحلقة الرابعة
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الثالث/الحلقة الخامسة