الكولونيل شربل بركات/هل كان الطائف مدخلاً للجمهورية الثالثة؟

561

هل كان الطائف مدخلاً للجمهورية الثالثة؟..
الكولونيل شربل بركات/26 أيلول/2020

*لبنان سيقوم، وسيسقط الفاسدون تحت ضربات الشعب الثائر، ولن تفرغ البلاد من أهلها، وسوف يرتدع كل متجبر وكل من اعتقد بأن لا أحد يطال راسه.

*التاريخ علمنا، خاصة في لبنان، بأن هذا البلد قائم على توازنات لا يمكن الاخلال بها، وكل من اعتقد بأنه قادر على فرض رايه بالقوة على الآخرين سينال ما يستحق والزمن لا يرحم…

*سيطر الحزب الايراني بدعم من السوريين على حركة أمل بعد اغتيالات طالت زعمائها واشتباكات عنيفة جرت في كل مكان، ومن ثم جرى تطويع دروز جنبلاط بحرب العلم

***
التعنت الذي يبديه الثنائي الشيعي اليوم، في عدم تسهيل الخروج من المأزق الذي أوصلنا اليه تغييب القرار واستمرار العمل بمدأ من “بعدي الطوفان”، وهو عادة ما يستعمله أي احتلال لكي يستكمل السيطرة بواسطة بعض الجشعين من ابناء البلد، هو ما يمنع الخروج من الدوامة التي نتخبط فيها. وقد كان الاحتلال السوري، الذي أراد تهديم دولة لبنان الكبير لكي يتثنى له هضم اجزائها بحجة فشل التجربة اللبنانية، عمل على منع أي نوع من التواصل بين القوى المختلفة، وذلك باطلاقه يد عرفات وزمره أولا، ولما كشف أمره وبدت الحرب “على لبنان” لا “بين اللبنانيين”، عمل على انشاء فريق لبناني تدرّب على يد “الحرس الثوري الإيراني” وتشرّب الحقد الذي زرعه فيه على كل مختلف عنه، ما لم يكن مرة من شيم اللبنانيين، وبالأخص الطائفة الشيعية التي عرفت معنى الظلم الذي تتعرض له الأقليات المذهبية.

هذا الفريق، الذي لا يعرف شيئا عن لبنان وقد باع نفسه لمشروع التوسع الفارسي في المنطقة، سيطر على الأرض بسبب غياب المواجهة الوطنية الصادقة له وعقدة الذنب لدى بعض اللبنانيين تجاه فلسطين. وقد استغل العقل الفارسي هذا الموضوع الذي يدغدغ عواطف هؤلاء ليعمل على تأليه جماعته وبسط نفوذهم على لبنان، ومن ثم تهديم مؤسسات الدولة وانشاء جهاز رديف يحل محلها.

في عهد الرئيس الجميل، الذي شهد انتكاسة المقاومة اللبنانية الحقيقية وانسحاب الاسرائيليين بدون اتفاق ما أدى إلى عودة السوريين بالقوة وفرض مشروعهم التخريبي على البلد، يئس الكثيرون ممن حلموا باستمرار لبنان، وسادت الحروب بين كل المناطق وقد قادتها المخابرات السورية. فبعد تهجير الجبل والسيطرة على بيروت الغربية انسحبت القوات المتعددة الجنسية ودمرت السفارة الأميركية وضربت مراكز المارينز والمظليين الفرنسيين ودخلت العمليات الانتحارية قاموس الحرب، كل ذلك على يد التنطيم الإيراني الجديد الذي سمي لاحقا بحزبالا.
وقام السوريون بتقديم خطتهم الجديدة لاستكمال ضرب ما تبقى من الفلسطينيين، ولكنهم كانوا يستبدلون قيادات التخريب والارهاب بجماعتهم، وهكذا سيطروا على طربلس وصيدا واستكملوا تهجير قرى المسيحيين في اقليم الخروب وشرق صيدا. ولولا وقوف جيش لبنان الجنوبي سدا بوجههم لكانوا واصلوا تهجير جزين ومرجعيون وغيرها من المناطق المسيحية التي ينسحب منها الاسرائيليون.

ثم سيطر الحزب الايراني بدعم من السوريين على حركة أمل بعد اغتيالات طالت زعمائها واشتباكات عنيفة جرت في كل مكان، ومن ثم جرى تطويع دروز جنبلاط بحرب العلم التي قام بها الثنائي الشيعي بتغطية من السوريين وتحت قيادة اللواء السادس، ما أفسح المجال واسعا لمخابرات النظام السوري للسيطرة على كافة التفاصيل وقبول اللبنانيين بأهين الشرين؛ الحروب بين المليشيات المتنازعة أو الخضوع للسيطرة السورية. وبعد اكمال سيطرتهم أطلق السوريون يد حزبالا هذا لاختطاف الرهائن وتفريغ البلاد من اي وجود أجنبي لابتزاز الدول الكبرى فتعترف للسوريين بالسيطرة مقابل وقف الاقتتال والتعدي على الناس.

في هذه الأجواء، والتي لم تحيَّد المناطق الشرقية فيها من المتفجرات المتنقلة بالسيارات الملغومة ومن ثم بالانقلابات داخل صفوف القوات اللبنانية، تنتهي فترة حكم الرئيس الجميل، الذي كان حاول فتح الحوارات الغير المجدية مع الأفرقاء، وقد برز دور الجيش اللبناني كأحد القوى المنظمة والأكثر انضاباطا من بقية المليشيات، فتوسم الجميع خيرا بهذه المؤسسة وراهنوا عليها لتخليص البلاد من الفوضى. وقبل أن ينهي ولايته، قرر الرئيس الجميل تسليم الحكم لحكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش لتعمل على اجراء انتخابات رئاسية وفرض سيطرة الدولة على كامل أرجاء الوطن.

في هذه الأثناء كان الرئيس العراقي صدام حسين قد خرج منتصرا من حربه الضروس ضد الخمينيين، وقد كان السوريون تعاونوا مع الإيرانيين بشكل مفضوح، ما جعل صدام، المنتصر لكل العرب أمام الفرس، يتفرغ لمواجهة هؤلاء. من هنا تغيير الوضع في لبنان، فبالرغم من انسحاب الاعضاء المسلمين في الحكومة العسكرية، قرر العماد عون، رئيس الحكومة يومها، الاستمرار بالمهمة معتمدا على التغيير في الموقف العربي بموضوع اطلاق يد السوريين، حلفاء ايران في الحرب ضد العرب، في لبنان. وكان رهانه على مساعدة العراق له في الامداد العسكري كما في الموقف السياسي في جامعة الدول العربية.

قام السوريون بالضغط على الجنرال عون لمنعه من اتمام مهامه، فأجبروا الرئيس الحص على عدم القبول بالحكومة العسكرية والاستمرار بحكومته، وهي خطوة غير شرعية. ومن ثم ضغطوا على الأعضاء المسلمين في الحكومة العسكرية لعدم التعاون، وأجهضوا كل محاولات الحكومة العسكرية للسيطرة على المرافئ وضبط أموال جباية الدولة وفتح معبر المرفأ، الذي كان اتُفق عليه مع الرئيس الحص. ثم قاموا بالاعتداءات المتفرقة والقصف على المناطق لاثارة القلاقل بوجه الحكومة العسكرية، التي كان ردها حاسما باعلان “حرب التحرير”، وخاصة بعدما اغتال السوريون المفتي حسن خالد الذي كان يحاول القيام بتفاهم بين المناطق.

حرب التحرير هذه حركت الدول العربية فانشأت اللجنة السداسية التي أنصفت لبنان. ولكن التنعت السوري أفشل مهمتها لتنشأ لجنة ثلاثية تحاول تقريب وجهات النظر، وقد تألفت من الملك السعودي والملك المغربي والرئيس الجزائري. هذه اللجنة أوصت بالحوار لحل كامل الملف اللبناني، وكان الأخضر الأبراهيمي يقوم بدور الوسيط بينها وبين كافة الفئات اللبنانية. وقد دعت النواب إلى الطائف في المملكة العربية السعودية للاتفاق حول مستقبل لبنان وانهاء المشاكل فيه. وقد صدر عن هذا الموتمر ما عرف “باتفاق الطائف” الذي عدّل دور السلطات في البلد، فخفف من صلاحيات رئيس الجمهورية، وأعلن بالمقابل اعتماد المساواة بين المسيحيين والمسلمين، والعمل على الغاء الطائفية السياسية تدريجيا، مع اعتماد اللامركزية الموسعة. وخلق مجلس شيوخ يرأسه درزي، على أن يصبح هذا الاتفاق جزءً من الدستور وتنتهي مطالبة المسلمين بالادعاء بأن هناك غبن وأن النظام المتبع لا يؤمن المشاركة الفعالة في ادارة البلاد.

يتساءل البعض ماذا كان لدى المسيحيين لو لم يقبلوا بالطائف؟
الموضوع ليس بهذه السهولة ففي توزيع القوى على الأرض سنة 1988 كانت القوات اللبنانية تشكل قوة كبرى يحسب لها حساب في اية مواجهة مع المناطق الأخرى. وكان الجيش اللبناني، المحسوب على المناطق المسيحية الممتدة أقله من القرنة السوداء شمالا إلى الحدث جنوبا وخط الجبال شرقا، يمتلك القوة والقدرة الكافية لحماية مناطقه. وكانت القوات البحرية التابعة للقوات اللبنانية والجيش اللبناني هما الوحيدتان اللتان تملكان قطعا بحرية يمكنها اعتراض أي محاولة تسلل عبر البحر. وكانت منطقة جزين والمنطقة الحدودية تعتبر جزء من القوى المساندة للبنان الحر، والتي لا تزال تقاتل جماعة سوريا. وهذه يمكن أن تشكل مع مناطق الدروز مستقبلا حلفا لصالح قيام بلد متحرر من سلطة السوريين يعتمد اللامركزية في ادارة شؤون مناطقه. وبمجرد قيام هذه المناطق بالاعتراض على سيطرة السوريين، كان بالامكان انضمام مناطق أخرى أو قوى مختلفة تفضل الالتحاق بلبنان الحر من البقاء تحت رحمة هؤلاء. مع العلم أن دول عربية كانت مستعدة للوقوف بجانب هكذا حلف.

أما في العلاقات الخارجية فقد كان بامكان قيادة هكذا حلف اعادة الاتفاق مع الاسرائيليين حول انسحابهم مما تبقى من المناطق اللبنانية بدون قتال، ما ينهي دور ما سمي بحزبالا، وبالتالي يعطل سيطرته على الطائفة الشيعية تحت ادعاء مقاومة اسرائيل. وفيما خص الغرب الذي يعاني من ابتزاز السوريين له، كان بالامكان استمالته لمساندة لبنان الحر، بدل العمل تحت رحمة هؤلاء وأعوانهم لمنع التعدي على السفارات والبعثات الديبلوماسية.

أما من ناحية الحلول السياسية المقترحة والمتعلقة بالتعداد فالجواب السهل هو التقسيم. فاذا أرتم أذلالنا لأن عندكم أعداد أكبر ورجال الدين الذين يقودون بعض المجموعات عندكم يتبجحون كل يوم بقدرتهم على اصدار الفتاوى الدينية التي تؤدي إلى زيادة الانجاب، فإننا لا نريد مشاركتكم بالوطن ولنفترق بحب ورضى كل إلى منطقته مهما صغرت، حيث له الحق بالحياة على طريقته وبدون ضغوط ثقافية أو دينية. وهذا الطرح هو سيف نعرف أنه ذو حدين ولكنه يبقى سيفا لا يترك بدون ثمن، ويمكن وضعه بالغمد وعدم استعماله ولكنه يبقى موجودا لوقت الحاجة. أما أن يترك وبدون مقابل فهي غلطة سياسية يدفع ثمنها كل من يبني وطنا ويضحي من أجله. فالدروز، بناة لبنان زمن الامارة، أكبر دليل على ذلك.

ولا نريد هنا أن نعرض كل الحلول التي كان يمكن اعتمادها، ولكن النواب الذين تفاوضوا في الطائف كانوا بعيدين في الغالب عن الأرض، وقد تقدموا بالسن ولم يعتادوا على مناقشة أمور مصيرية. وكانت القوات اللبنانية هي الوحيدة التي قد تملك جهاز تحليل وتخطيط وطني في الجانب المسيحي، أما الجيش فلا شأن له بالتصورات المصيرية وهو عادة يتالف من موظفين يعملون تحت قيادة سياسية تأمرهم فينفذون، ولا يمكن الاعتماد عليهم لدراسات تتعلق بتركيبة الوطن أو مصيره، ولو كانت لهم القدرة على ذلك. من هنا، ولأن العماد عون الذي كان يمثل السلطة السياسية في الجانب المسيحي، لم ينسق مع القوات اللبنانية تفاصيل الموقف الواجب اتباعه، أعتبر هؤلاء بأن اي حل ينهي سيطرة الجيش على المناطق المسيحية أفضل من المواجهة معهم وتقسيم المنطقة. بينما لم تأخذ بكركي دورها الطليعي والطبيعي في تقديم ثوابتها بالنسبة للحلول، خوفا من اتهامها بأنها تعيق الحل الذي يجب أن يؤدي إلى وقف القتال. فقد كان السوريون استعملوا كل قوتهم في تلك الحرب وقصفوا باسلحة ممنوعة المناطق الشرقية والغربية أحيانا.

وهكذا نشأت دولة بثلاثة رؤوس لا أحد بقادر على محاكمتها فالمجلس النيابي لا يمكن حله ومن هنا تملّك الرئيس بري منصبه فهو اللآمر والناهي بموضوع المجلس ولا أحد يستطيع أن يعترض عليه. والمجلس قادر على التمديد لنفسه وقادر على سن القوانين بما فيها المتعلقة بالانتخابات ومراقبة الفساد وغيرها، ويمكنه تفصيل القانون المناسب له. أما رئيس الجمهورية فهو ولو كان القائد الأعلى للقوات المسلحة ولكنه لا يستطيع اعلان الحرب بل مجلس الوزراء، وغيرها من الأمور فمن الواجب أن تعرض عليه القوانين أو أمور الحكم ولكنه إذا ردها وأصر مجلس الوزراء على اعادتها تمر بدون توقيعه. وكل هذه الأمور وغيرها جعلت التجربة ضعيفة من الناحية التنفيذية. زد على ذلك أن سوريا تحكمت بالسياسة الخارجية والسياسة الدفاعية للبلد ومن ثم حلت المليشيات وأبقت حزبالا ليسيطر وحده على الشارع ويفرض ما يريد. وذلك لاسقاط التجربة اللبنانية لانهاء الديمقراطية الوحيدة في دول المنطقة، عدا اسرائيل، فلا يوجد رؤوساء سابقين في اي من دول المنطقة الا في لبنان. وقد راينا ما حل بسوريا وكيف هجر أهلها وقتل من قتل ودمرت المدن ليبقى الرئيس.

وما نراه في لبنان اليوم هو ثقافة الأسد وثقافة ملالي ايران حيث الحزب القوي والذي يسيطر بقوة سلاحه على الناس هو من يحكم ويتحكم بالبلاد والعباد. من هنا أهمية القرارات الدولية المتعلقة بلبنان والتي يجب تنفيذها قبل اي اصلاح لأنها تمنع تحكّم السلاح بالراي. ومن هنا تصبح الانتخابات قريبة من تمثيل الشعب ويكون لهذا الشعب القدرة على التغيير بصندوق الاقتراع.

الحلول في المجال السياسي والقانوني تبدأ عندما يصبح للكلمة دورها وللشعب صوته المسموع فالحكم يجب أن يكون مرآة لارادة الشعب. فباسمه تسن القوانين وتنفذ السياسات. ومن أجل السهر على مصالحه يتنافس الزعماء والقادة والمنظورون. ومن جملة هذا الشعب تؤمن مصالحهم ولكنها تبقى في ظل القانون ويمكن مساءلتهم عنها في اي وقت.

يقول البعض بأن الثنائي الشيعي يسعى للعدالة الاجتماعية لأن الطائفة الشيعية أصبحت واحدة من الطوائف الكبرى، وبالتالي يجب أن يجري تعديل الدستور ليعكس هذا الوضع. ولذا فإذا كان الطائف قد أدخلنا في الجمهورية الثانية يجب اليوم التحضير لصياغة دستور الجمهورية الثالثة. ولكننا نقول أولا إن الطائف ولد تحت قصف السوريين ولذا فهو لم يكن طفلا شرعيا. وبالرغم من ذلك قبلناه وعملنا به ولو أنه لم يطبق في كل بنوده، وأولها تسليم سلاح المليشيات الذي لم يطبق على حزبالا ولا على غيره من ابناء الطائفة الشيعية. ومن ثم فقد هدم الطائف، بموضوع لا طائفية الوظيفة، كل قوانين التوظيف ولم يعد الزعيم، حتى لو أراد ذلك، قادر أن يرفض توظيف جماعته، ولو لم يكن هناك حاجة لهم. ففي زمن طائفية الوظيفة كان لا بد من الاعلان عن شغور وظائف وتعميم ذلك على الكل، أما اليوم فالوزير قادر على توظيف من يريد بدون رادع. أما من ناحية اللامركزية الموسعة فهي لم تتم بعد، ولا تحضير للعمل بها. ولم ينشأ مجلس الشيوخ ولا أعطي الدروز دورهم برئاسته، وهي أمور يجب أن تنفذ قبل الكلام على التعديلات وتجربة القوة في كل مرة كان هناك من يسند إحدى الفئات.

ولكننا بالرغم من كل ذلك نقول إن لبنان سيقوم، وسيسقط الفاسدون تحت ضربات الشعب الثائر، ولن تفرغ البلاد من أهلها، وسوف يرتدع كل متجبر وكل من اعتقد بأن لا أحد يطال راسه. فالتاريخ علمنا، خاصة في لبنان، بأن هذا البلد قائم على توازنات لا يمكن الاخلال بها، وكل من اعتقد بأنه قادر على فرض رايه بالقوة على الآخرين سينال ما يستحق والزمن لا يرحم…