المخرج يوسف ي. الخوري/لبنان الميثاق تتنازعه الفِدرالية من جهة، وجمهوريّة الملالى الإسلاميّة من الجهة المقابلة

308

لبنان الميثاق تتنازعه الفِدرالية من جهة، وجمهوريّة الملالى الإسلاميّة من الجهة المقابلة…
المخرج يوسف ي. الخوري/01 حزيران/2020

أن يترحّم بعضُ اللبنانيّين على المارونيّة السياسية، فهم بذلك يرومون الإشارة إلى مساوئ الحريرية السياسية (1993 – 2005)، والشيعيّة السياسية التي تضبط البلاد منذ اتفاق مار مخايل الشهير (2006).

وأن يتمسّك بعضُ اللبنانيّين باتفاق الطائف، فليس من قبيل أنّ هذا الاتفاق هو وطني ويحفظ الصيغة والهويّة اللبنانيتين، بل لأنّ أهل السنّة في البلاد يرون في خسارته تدنّيًا لنفوذهم في السلطة.

وأن ينعيَ بعضُ اللبنانيّين، وتحديدًا الشيعة، الميثاقَ الوطني واتفاقَ الطائف، فليس من باب الدعوة إلى عقد اجتماعي جديد يُخرج الوطن من تصدّعاته المذهبية، بل لأن الشيعة باتوا يشعرون أنّ قوّتهم تخوّلهم التحكّم بأمور العِباد والنهيِ في شؤون البلاد خارج شراكة الضعفاء.

الجامعُ الوحيد بين التوجّهات أعلاه، هو أنّ مقاصدَها غير وطنية، إذ بالتعمّق في فحواها، يتضح أنّ الأولى هي لسان حال المسيحيّين، والثانية لسان حال السنّة، والثالثة لسان حال الشيعة، وهو الأمر الذي إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على أنّ كل ما يُحكى عن هويّة وطنية، أو عيش مشترك، أو ميثاق وطني، بات اليوم وبعد مئة عام على قيام لبنان الكبير: مواربة وكذبة ليس إلّا.

تُشير المعطيات أنّ لبنان الجمهورية والصيغة في أزمة، وهو عرضة إلى التنازع على إرثه بين صيغتين متناقضتين: واحدة تشدّه باتجاه أن يتحوّل إلى “جمهوريّة ملالى إسلامية”، وفي المقابل تعمل واحدة ثانية المستطاع لتحويله “دولة اتّحادية” (فِدرالية).

جمهوريّة الملالى الإسلاميّة جاهزة للإعلان وهي لا تحتاج أكثر من كبسة زرّ.

الفِدراليّة جاهزة هي الأخرى، ولا تحتاج أكثر من النيّة في استبدال صيغة العيش المشترك بصيغة جديدة هي الاتّحاد الوطني. حسب الظاهر اليوم، لبنان هو دولة مستقلّة.

في الباطن وحسب الواقع، هو أقرب إلى فِدراليّة طوائف غير متّحدة، يوازن بينها ويسيّر شؤونها على وقع استراتيجيّاته العليا، رجلُ دينٍ شيعي يتبع لولاية الفقيه، ويرتكز على ترسانة سلاحه وعلاقاته الإقليمية.

يُشبه وضع لبنان الحالي الـ statu quo الذي ساد فيه حين كان مقسّمًا إلى ولايات طائفيّة مستقلّة تحت الحكم العثماني السنّي، لكن مع فارق واحد ألا وهو أنّه في زمن العثمانيّين كانت تركيبة لبنان واضحة، بينما اليوم هي مقنّعة.

إنّ أشدّ ما يحتاجه لبنان في المرحلة الراهنة، هو رفع القناع عنه، والإقرار بأنّه غير موحّد إلّا بالشكل. وإذا كان لبنان الميثاق والعيش المُشترك هو فعلًا إلى أُفول كما يرى الكثيرون، فلا بدّ أن تنتصر نهائيًّا إمّا جمهوريّة الملالى الإسلامية، وإمّا الفِدرالية. فبهذا يُصبح بإمكان كل لبناني ان يلحق مصيره: القبول والبقاء، أو الرحيل.

خيار جمهوريّة الملالى الإسلاميّة:
لا يُخفي منظّرو العقيدة في حزب الله أن الوصول إلى لبنان جمهورية إسلامية هو من مشاريعهم المنشودة، ويبسّط نائب الأمين العام للحزب، الشيخ نعيم قاسم، الموضوع بقوله: “لا يُمكن لأي مُلتزم إسلامي… إلّا وأن يكون مشروع إقامة الدولة الإسلامية أحد التعابير الطبيعية لالتزامه الإسلامي…”، ويدعو الشيخ قاسم “إلى اعتماد النظام الإسلامي على قاعدة الاختيار الحر والمباشر من الناس، لا على قاعدة الفرض بالقوّة”.

يُشبه هذا السعي إلى نظام إسلامي بأسلوب “ديمقراطي”، سعيَ ثورة 17 تشرين إلى انتخابات مبكّرة بالأساليب السلمية، فلا النظام الديني يتوافق مع الديمقراطية، ولا الحركات الثورية تتوافق مع السلمية. فمّما لا شك فيه، أنّ جرأةَ حزب الله على الدعوة لقيام نظام إسلامي في مجتمع طائفي تعدّدي، هي ثورة بحدّ ذاتها، وعليه، فإنّ هكذا نظام لا تتحقّق إلّا بالقوة والفرض. في حال وجدت طريقها من دون معارضة باقي الطوائف، ستكون حدودها كامل الـ 10,452 كلم مربع.

أمّا إذا تمّت مواجهتها، فستُدخل البلاد في حرب مذهبية، قد توصل إلى تقسيم فعلي لمساحة لبنان الكبير بين أكثر من كانتون طائفي، بحيث تُعلَن جمهورية الملالى الإسلاميّة ضمن نطاقِ أحدها.

خيار الدولة الفِدرالية:
إن نفور الكثير من اللبنانيّين من طرح الفِدرالية، لا يعدو كونه اعتقادًا خاطئًا بأنّ الفِدرالية هي مشروع لتقسيم بلادهم وفَصلِهم عن بعضهم، وما ذلك إلّا نتيجة لاستسهال اللبنانيّين تكرار الشعارات الفضفاضة كالببغاء، عوض أن يصرفوا جهدًا بسيطًا للتعمّق في باطن الأمور للتمييز بين ما هو حق وما هو محرّم. اللبنانيون يعترضون على الفِدرالية وهم يعيشون فيها، وهي تشكل نمطًا لحياتهم اليومية ولدقائق أمورهم، ولا ينقصها سوى أن تُثبّت في دستورهم.

الفِدرالية هي في تاريخنا، منذ العهد الفينيقي، لكنّها لم تُسمَّ بالاسم. وهذه بعض الإشارات إليها:
مدننا الفينيقيّة الساحليّة، من طرابلس حتّى صور، كانت مستقلّة عن بعضها، وكانت كلّ مدينة تتمتّع بسيادتها الخاصة ضمن ما يُعرف بالدولة المدينة (Cité-État).

جبالنا كانت ملجأً لمجموعات إثنية مختلفة ارتضت أن تعيش بالقرب من بعضها بما يُشبه اتّحادًا بين الطوائف.

كان لبنان في الزمن العثماني مقسّمًا إلى ولايات مستقلّة عن بعضها، جبل لبنان، صيدا، بيروت، طرابلس…، وكان لكل ولاية حيثيّاتها الطائفية، وتقاليدها الاجتماعية وقضاؤها الخاص…

لبنان الكبير قام على أساس قبول الطوائف العيش معًا. لكن لبنان هذا، ما كان ليتحقّق بحدوده المعروفة، لولا عمليّة الضمّ التي جمعت، بنوع من فِدراليّة جغرافيّة، ساحلَه وجبلَه وسهلَه.

جرّبنا كلبنانيّين الوحدة طيلة مئة عام، ليتبيّن أنّنا أخفقنا على المدى الطويل، وما إخفاقنا إلّا نتيجة لعجز طوائفنا عن الانصهار تحت راية وطن، إذ بقيت الأولوية في ولاءاتنا للتحزّبات الطائفيّة.

هذا امرٌ لا يُفاخَر به في القرن الواحد والعشرين، وقد يكون عَيبًا بحدّ ذاته، إنّما العيب الأكبر والأخطر، بعد كلّ ما مرَرنا ونمرّ به، هو أن نبقى متنكّرين لعدم نجاح تجربة الوحدة، ورافضين للتغيير رأفة بأجيالنا الناشئة.

في المحصّلة،
يبقى لبنان الصيغة والميثاق في وجداني، وكلّي إيمان أنّ الشعب اللبناني سيظهر واحدًا موحّدًا إذا رفعنا عنه نير طائفيّة الأحزاب، لكن إذا كان لا بدّ أن يتجدّد النظام اللبناني وليس أمامنا سوى الاختيار بين جمهوريّة الملالى الإسلاميّة والفِدرالية، فأنا أختار الفِدرالية لأنّها ببساطة تجمع اللبنانيين ولا تفرّقهم حسبما يزعم البعض.

(غدًا مقالتي بعنوان: “الفِدرالية تجمع اللبنانيّين ولا تفرّقهم”، مع شواهد حيّة بأنّنا نعيش اليوم في فِدرالية مقنّعة)