نوفل ضو/ثلاثية الدولة والثلاثيات القاتلة

141

ثلاثية الدولة والثلاثيات القاتلة
نوفل ضو/الأربعاء 15 نيسان 2020

*مركز الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الجيو سياسي للدراسات الاستراتيجية والأبحاث

عاش لبنان منذ خروج اتفاق الطائف عن مساره العربي والدولي، ونجاح الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد في احتكار الإشراف على تنفيذه ووضع اليد على لبنان، أزمة كيانية أفقدته سيادته على أرضه وقراره، وصادرت قراراته العسكرية والسياسية والاقتصادية، وأحكمت قبضتها على مفاصل إدارته وقضائه، وتحكمت بمؤسساته، واستنزفت مقدراته المالية، وسطت على ثرواته الوطنية، وأحدثت تحولات بنيوية في علاقات لبنان العربية والدولية.

وعلى الرغم من كل ذلك، فقد ارتضت المنظومة السياسية التي جاء بها النظام السوري أن تكون واجهة للاحتلال، وأن تتحول الى سلطة تحكم باسمه، وتنفذ مصالحه، وتدافع عن ارتكاباته، وتؤمن له الغطاء السياسي والقانوني والدبلوماسي المحلي والعربي والدولي.

في تلك المرحلة، احتمى الاحتلال السوري شكلا بمنظومة “الترويكا” الرئاسية التي كانت تعبيراً واقعياً عن إفراغ دستور الطائف من مضمونه. واحتمى سياسياً بأكثر من نظرية ابتدعها حلفاؤه اللبنانيون لترسيخ أقدامه وتعميق سيطرته.

ثلاثية الاحتلال السوري: “شرعي وضروري وموقت”
وفي هذا الإطار، إبتدع رئيس مجلس النواب نبيه بري ثلاثية “شرعي وضروري وموقت” لتبرير الاحتلال السوري للبنان ولبقاء الجيش السوري على أرضه خلافاً لاتفاق الطائف الذي كان ينص على اعادة الانتشار باتجاه البقاع بعد سنتين من إقرار وثيقة الوفاق الوطني، تمهيداً للانسحاب الكامل.

وتبنت ال “ترويكا” الرئاسية، ومن بينها الرئيس رفيق الحريري، هذه الثلاثية التي نص عليها البيان الوزاري لأول حكومة لبنانية بعد انتخابات العام 2000 التي أعقبت الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، والبيان الشهير لمجلس المطارنة الموارنة في ايلول عام 2000 الذي دعا لتطبيق اتفاق الطائف لناحية انسحاب الجيش السوري، فشكلت بذلك الواجهة السياسية للاحتلال السوري، في موازاة “ترويكا” أمنية – قضائية – إدارية أمسك بها رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في الجيش السوري غازي كنعان، ومن بعده رستم غزالة، اللذين أحكما السيطرة على الأرض ومفاصل الدولة وقراراها.

وفي تلك المرحلة، برزت الى الواجهة نظرية الرئيس رفيق الحريري التي حاول من خلالها التمايز ب”هدوء وخجل” عن شركائه في “الترويكا” والتي تقول بفصل الاقتصاد عن السياسة والأمن، من منطلق وجهة نظر تعتبر بأن لبنان الذي لم يكن يستطيع استعادة سيادته بشكل فوري، يمكن أن يركز جهوده على إعادة الاعمار والازدهار والتنمية للخروج من تداعيات الحرب ونتائجها، في انتظار ظروف إقليمية ودولية مناسبة لخروج الجيش السوري من لبنان واستعادة السيادة.

ورضي الحريري بهامش محدد من حرية العمل الاقتصادي والاعماري، مع حفظ حصة الاحتلال السوري وأدواته المحليين، وغض الطرف عن القرار العسكري والأمني، وحافظ على هامش مهم من العلاقات السياسية العربية والدولية، ولو أنه في كثير من الأحيان سخر هذه العلاقات في خدمة السياسة السورية وحزب الله، كما حصل في “تفاهم نيسان 1996” عندما ساعد الرئيس رفيق الحريري، من خلال علاقاته العربية والدولية، حزب الله على الحصول على نوع من “الشرعية” للعمليات العسكرية التي كانت تنفذ ضد إسرائيل على الأراضي اللبنانية بحجة “المقاومة”. كما ساهم من خلال علاقته بالرئيس الفرنسي جاك شيراك، وخصوصا من خلال ترتيب زيارة شيراك الى لبنان، وكلمته في مجلس النواب اللبناني عام 1996 في إضفاء “شرعية” على الدور السوري في لبنان، وفي الحصول على نوع من “الاعتراف” الدولي بهذا الدور الذي كان يركّز على تحويل لبنان الى ورقة مساومة وضغط وتفاوض لاستخدامها مع المجتمعين العربي والدولي في تعزيز دور سوريا الإقليمي.

لكن في النهاية، لم تتمكن نظرية الرئيس رفيق الحريري من قلب القواعد وتعديل الثوابت العلمية التي يستحيل معها فصل الاقتصاد عن السياسة والأمن، فسقطت هذه النظرية مع اغتيال الحريري ورفاقه في 14 شباط 2005 على يد المنظومة السورية – الإيرانية التي كانت تمسك بالقرار السياسي والأمني في لبنان، والتي حاول الرئيس الحريري الوقوف في وجه إرادتها بالتمديد للرئيس إميل لحود، دولياً من خلال القرار 1559، وداخلياً من خلال التحضير لخوض الانتخابات النيابية في حزيران 2005 من خلال تحالف لبناني عابر للطوائف، معارض للنظام الأمني اللبناني – السوري الذي كان يتحكم بلبنان!

ثلاثية الاحتلال الإيراني: “الجيش والشعب والمقاومة”
ومع خروج الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان 2005، على أثر انتفاضة 14 آذار رداً على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، سقطت ثلاثية “الشرعي والضروري الموقت” التي حكمت لبنان على مدى خمس عشرة سنة، ليدخل لبنان “زمن” ثلاثية جديدة هي ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة” التي تبنتها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بعد انتخابات حزيران 2005، والتي نجح حزب الله في انتزاعها من “قوى 14 آذار” وفرضها كمظلة تغطي ممارسات حزب الله الداخلية على حساب الدستور والقانون، وتسمح له بالتفلّت من تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559، الذي ينص ليس فقط على انسحاب الجيش السوري من لبنان، وإنما كذلك، على نزع سلاح كل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، ومن بينها حزب الله، وبسط سلطة الدولة اللبنانية كاملة بقواها الشرعية الذاتية حصراً على أراضيها كافة.

ومع هذه الثلاثية المدمرة، دخل لبنان “زمن” أزمة كيانية أخرى بدأ حزب الله من خلالها تدريجياً بلعب الدور الذي كان يلعبه الاحتلال السوري في التحكم بمفاصل الدولة اللبنانية وقراراتها السيادية، فباشر باحتكار القرار الأمني والعسكري في مرحلة أولى (من حرب تموز 2006 الى 7 ايار 2008) ومن ثم القرار السياسي (من اتفاق الدوحة، مرورا بإسقاط نتائج الانتخابات النيابية لعام 2009 من خلال إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري عام 2010، ومنع إعادة تسميته لتشكيل الحكومة الجديدة بالقوة، وتشكيل حكومة القمصان السود عام 2011، وصولاً إلى فرض انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية عام 2016، والتحكم بالأكثرية النيابية عام 2018 من خلال قانون للانتخاب مفصل على قياس مصالح حزب الله الاستراتيجية، وعلى قياس قصر النظر السياسي والاستراتيجي للجهات السياسية والحزبية التي وافقت عليه)… وها هو حزب الله يدخل اليوم صلب معركة السيطرة على القرار المالي والاقتصادي للدولة اللبنانية من خلال تكريس اقتصاده الموازي، ومصادرة قسم كبير من عائدات الدولة اللبنانية ومواردها المالية، والأهم من خلال معركة السيطرة على مصرف لبنان وإخضاع القطاع المصرفي الخاص لشروطه تحت طائلة تدميره نهائياً!

في كل هذه المراحل منذ العام 2005 الى اليوم، شكلت نظرية “الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي في مقابل التساهل في السيادة”، التي هي استنساخ لاستراتيجية الرئيس رفيق الحريري في الفصل بين الاقتصاد من جهة والسياسة والأمن من جهة مقابلة، الحجة لقبول الطبقة السياسية، أو لتغاضيها عن الأمر الواقع الذي فرضه المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة ولبنان من خلال حزب الله وسلاحه، فخسر اللبنانيون السيادة ولم يربحوا الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، بدليل عشرات الاغتيالات ومحاولات الاغتيال، والمواجهات الداخلية السياسية والأمنية والعسكرية، والحروب الخارجية التي ورط حزب الله لبنان فيها، وصولا الى ما يعيشه لبنان اليوم من افلاس الدولة وانهيار الاقتصاد والعملة الوطنية على نحو لم يشهده اللبنانيون من قبل، حتى في أسوأ أيام الحروب!

لقد شبه ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان، الاتفاق النووي بين إيران والمجتمع الدولي الذي تمّ التوصل اليه في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، باتفاق ميونيخ في 30 أيلول 1938، بين ألمانيا النازية من جهة وكل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا من جهة مقابلة، عندما حاول الثلاثي الأوروبي تفادي الحرب مع ألمانيا من خلال الاعتراف لهتلر بضم المناطق الفاصلة بين ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا بحجة حماية الألمان فيها. لكن النتيجة كانت أن ألمانيا استغلت هذا الاتفاق وانطلقت من الأراضي التي ضمتها، لاجتياح بولونيا، وكانت الحرب العالمية الثانية في العام 1939 بعد سنة على اتفاق ميونيخ!

وعلى الرغم من أن المسؤولين اللبنانيين الرسميين والحزبيين تلقوا نصيحة الأمير محمد بن سلمان بضرورة الاتعاظ من تجربة “اتفاق ميونيخ”، إلا أنهم كرروا الخطأ الذي ارتكبه الأوروبيون في العام 1938، وفضلوا التسوية مع إيران بحجة ضمان “الاستقرار”، على “التضامن العربي” في مواجهة مشروعها… فسقط الاستقرار… ويكاد يسقط معه الكيان اللبناني في القبضة الكاملة للمشروع الإيراني في الشرق الأوسط!

ثلاثية الدولة: “الأرض والشعب والقانون”
وهكذا يتبين أن ثلاثية “الشرعي والضروري والموقت” التي غطت الاحتلال السوري للبنان بين 1990 و 2005، وثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة” التي غطت وتغطي الاحتلال الإيراني للبنان من خلال سلاح حزب الله منذ 2005 ولغاية اليوم، دمرتا مقومات الدولة اللبنانية، ونسفتا الثلاثية الحقيقية والعلمية التي تقوم عليها أي دولة في العالم وهي ثلاثية “الأرض والشعب والقانون”.

وبذلك، تثبت وقائع السنوات الثلاثين الماضية أنه في غياب السيادة الكاملة والناجزة للدولة اللبنانية على أرضها وشعبها وقراراتها، وفي غياب الديموقراطية الحقيقية، فإنه يستحيل التحقيق الفعلي والترجمة العملية على أرض الواقع لأي من العناوين الاقتصادية والمعيشية والخدماتية والاجتماعية كتطوير البنى التحتية، وتأمين الخدمات العامة والحقوق الاجتماعية والصحية والاستشفائية والتعليمية للمواطنين، وضمان الشيخوخة، وإطلاق خطط التنمية الاقتصادية والبشرية، وتطبيق الإصلاح الإداري والسياسي والضريبي، ومحاربة الهدر والفساد وبناء القضاء المستقل وغيرها من العناوين التي تدغدغ طموحات اللبنانيين!

وبالتالي فإن كل ما يحكى في هذا المجال اليوم، في غياب السيادة الكاملة والناجزة للدولة اللبنانية، وفي غياب ديموقراطية حقيقية وفعلية في إنتاج السلطة وعملها، لا يعدو كونه قنابل دخانية وشعارات فارغة من مضمونها لإلهاء الناس، وكسب الوقت، لترسيخ الاحتلال وتعميق الهوة التي تفصل اللبنانيين عن الدولة الحضارية التي يطمحون لبنائها والعيش فيها.

ثلاثية السيادة: “أمن واقتصاد وسياسة”
تقوم سيادة الدول على ثلاثة مرتكزات:
1- السيادة السياسية التي تنظم العلاقات الداخلية والخارجية للدولة، ورمزها الدستور والقوانين المتفرعة عنه (تنظيم العلاقة بين المؤسسات التي تدير النظام السياسي للدولة وتنظيم العلاقات بين المواطنين) والدبلوماسية التي تدير علاقات لبنان الخارجية (معاهدات – اتفاقات ثنائية – عضوية المنظمات الإقليمية والدولية الخ… التي تحدد التموضع الجيو – سياسي للدولة).
2- السيادة الأمنية والعسكرية التي تحمي الحدود والداخل، ورمزها الجيش والقوى الأمنية الشرعية التي تستمد هويتها وتوجهاتها من طبيعة النظام السياسي.
3- السيادة الاقتصادية التي تؤمن مقومات الدورة الاقتصادية للدولة ومقومات الحياة لمؤسساتها وشعبها، ورمزها العملة الوطنية والنظام الاقتصادي الذي يستمد هويته وتوجهاته من النظام السياسي.
بكلام آخر، فإن الهويتين الأمنية والاقتصادية للدولة لا يمكن أن تُناقضا هويتها السياسية. فالنظام السياسي الديموقراطي، لا يمكن أن يعيش في ظل الاحتلال العسكري الأجنبي، ولا في ظل منظومة عسكرية وأمنية قمعية داخلية تعمل باستقلالية عن القرارات والتوجهات السياسية للدولة وبعيداً عن إمرة مؤسساتها الدستورية، وإلا بطُل النظام أن يكون ديموقراطياً.

كما أن النظام السياسي الديموقراطي لا يمكن أن يعيش في ظل منظومة اقتصادية ومالية موجهة ومقيّدة، لا تحترم حق الملكية الفردية، والتنافس الشريف، ومبادىء الاقتصاد الحر، وإلا بطُل النظام السياسي أن يكون ديموقراطياً!

من هنا، تُفهم الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبت على مدى السنوات الثلاثين الماضية في محاولة تجاوز سيادة الدولة السياسية والأمنية والعسكرية في قراراتها الداخلية والخارجية المبنية على نصوص الدستور اللبناني وعلى مكونات القانون الدولي وفي مقدمها قرارات مجلس الأمن الدولي، لا سيما منها تلك المتعلقة بلبنان، من أجل إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية والخدماتية والادارية والقضائية الخ… التي يرزح تحت ثقلها لبنان واللبنانيون.

وبطبيعة الحال، فإنه لا يجوز بعد اليوم التمسك بنظريات وتجارب أثبتت فشلها على مدى ثلاثين عاماً مضت، إذا أردنا فعلاً تلمّس طريق الحلول المنطقية والطبيعية والعلمية لما أرهق كاهل الدولة والشعب، ولما يهدد حاضر اللبنانيين ومستقبلهم!

وعليه، فمن غير المنطقي أن يمضي اللبنانيون قدماً في الخلط بين الأسباب والنتائج، وفي هدر الجهد والنضال والامكانات في غير مكانها الصحيح. فالأزمة الاقتصادية الاجتماعية بكل أشكالها ومظاهرها هي نتيجة الأزمة السياسية – الأمنية – العسكرية المتمثلة بفقدان الدولة اللبنانية سيادتها على قراراتها السيادية السياسية والأمنية والعسكرية، وبسعي حزب الله الى وضع اليد على مواقع القرار السيادي الاقتصادي.

فكما غيّر حزب الله هوية لبنان السياسية والأمنية والعسكرية لمصلحة المشروع الإيراني، فإنه اليوم وانسجاما مع دوره في المشروع الإقليمي لإيران يعمل لتغيير الهوية الاقتصادية للدولة اللبنانية. وبالتالي فإنه من العبث معالجة الأسباب والعوارض التقنية المالية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية والمصرفية قبل معالجة جذرية للاسباب الجوهرية السياسية والأمنية والعسكرية.

ومن المؤسف أن يبدو حزب الله أكثر انسجاما مع الواقع العلمي في تنفيذ مشروعه بحيث يتمسك بأن يكون الاقتصاد كما الأمن شبيهين لمشروعه السياسي، في حين لا يزال معارضو الحزب يتلهون في البحث عن سبل وحجج وذرائع لتبرير الفصل غير المستند الى أي منطق بين المعالجات الاقتصادية والحياتية والمعيشية من جهة وبين المعالجات السياسية والأمنية والعسكرية من جهة مقابلة.

إن هذا الواقع يضع لبنان واللبنانيين أمام عملية انتحار جماعي أبطالها:
1- سلطة سياسية ملحقة بمشروع حزب الله العامل على تقويض الدولة بوضع اليد على مؤسساتها، ومصادرة مقدراتها، تمهيداً لتغيير هويتها التاريخية بسلخها عن عمقها العربي والشرعية الدولية!
2- قيادات سياسية وحزبية مشتتة، ضعيفة، مستسلمة أو مرتهنة!
3- شعب يتصرف بدافع من غريزة البقاء ووجع الجوع والعوز، يفتقد الى قيادات حكيمة ترشده الى الطريق الصحيح للخروج من الأزمة، ويرفض الاستماع الى كلام العقل والمنطق، على قلّته، إما لأنه كفر بتجاربه السابقة مع الذين أغرقوه في الفشل والغش، أو لأنه يئس من “كماليات” السيادة والحرية والاستقلال وبات غارقاً في البحث عن “أساسيات” المأكل والصحة واللباس والسكن!

إن ما وصلنا إليه اليوم من “كفر” شعبي بالسياسة، ورفض الاعتراف بدورها في حل الأزمات النقدية والمالية والمصرفية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، هو نتيجة طبيعية لعمل كل احتلال ولغياب الديموقراطية الحقيقية.

فكل محتل أو حاكم متسلط عبر التاريخ يعتمد الأسلوب ذاته للوصول الى النتيجة التي وصلنا إليها اليوم في لبنان، من خلال التسلسل الآتي:

1- احتلال الأرض بالقوة العسكرية.

2- إيجاد واجهة سياسية محلية للحكم على المستويات كافة، مهمتها تنفيذ مشروع المحتل او الحاكم المتسلط.

3- ولاء تلقائي من معظم أصحاب رؤوس الأموال للسلطة حفاظاً على مصالحهم.

4- بروز طبقة من “الأغنياء الجدد” مهمتها “تخويف” أصحاب رؤوس الأموال القدامى من مغبة فقدان دورهم وثرواتهم وامتيازاتهم في حال عدم الولاء للسلطة، ونهب الثروة الوطنية لمصلحة الاحتلال او الحاكم المتسلط، وتوظيفها في مشاريع القمع والتسلح والتوسع والحروب.

5- تركيز الثروة بيد أقلية حاكمة أو ملحقة ومنتفعة، مما يؤدي الى زوال الطبقة المتوسطة التي تتشكل عادة من المثقفين والمتعلمين وقادة الرأي وتعتبر ركيزة العمل السياسي والحزبي والديموقراطي في المجتمع، ورأس الحربة الفكرية والشعبية لأي “تغيير”.

6- قمع من تبقى من قادة الرأي والإعلام بالملاحقات القضائية والسجن والاغتيالات لقطع الطريق على نمو أي فكر نقدي وديموقراطي وتغييري في المجتمع.

7- ازدياد الهجرة الاقتصادية والسياسية بحثاً عن حياة كريمة، أو هرباً من القمع، مما يحول المجتمع الى مجتمع فقير ومعوز، لا همّ لأبنائه إلا البحث عن لقمة العيش، فيستفرد الاحتلال او النظام القمعي بالسلطة ومقدراتها من دون حسيب أو رقيب.

في ظل هذا الواقع، تغيب مقومات الثورات السياسية في المجتمعات المقموعة، وتتحوّل الانتفاضات الشعبية، في حال حصولها، الى مجرد تحركات “مطلبية” على علاقة بلقمة العيش ومتطلبات الحياة البديهية لا بالحريات والحقوق السياسية!
وهذا ما هو عليه لبنان اليوم!

ثورة 17 تشرين الأول 2019
في 17 تشرين الأول 2019، وبعدما تمادت المنظومة السياسية التي فرضها حزب الله على اللبنانيين في قراراتها العشوائية لتمويل الخزينة المرهقة بالعجز والديون والفساد والهدر والصفقات المشبوهة، إنفجرت في لبنان تظاهرات شعبية مفاجئة سرعان ما تحولت الى بركان غطى انفجاره كل الأراضي اللبنانية من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب، ومن البقاع الى العاصمة بيروت وجبل لبنان. واللافت في هذه التحركات أنها شملت للمرة الأولى عمق المناطق التي يسيطر عليها حزب الله وحركة أمل ورُفعت في خلالها شعارات منددة بالحزب والحركة وبمسؤوليهما كاسرة حاجز الخوف المفروض منذ سنوات طويلة على “البيئة الحاضنة” لأمل وحزب الله!

لكن حزب الله نجح بعد ايام في استيعاب “الضربة الأولى” للثورة التي استهدفت منظومته الحاكمة. فعلى الرغم من الإرباك الذي طبع ردة فعله في الأيام الأولى، فقد عاد ونجح في خطته لإضعاف التحركات الشعبية باختراقها حيناً، وبالاعتداء عليها أحياناً، وباستنزاف قدراتها وطاقاتها على الصمود، وبتأليب قسم من الرأي العام ضد أقفال الساحات وقطع الطرقات وشل الحركة، وعرقلة التنقل بين المناطق.

وعمد حزب الله الى تسخيف الأهداف الحقيقية للثورة، مستعيناً بمجموعات عقائدية ويسارية وأمنية تدور في فلكه أو تعمل لمصلحته، فعمل على تحوير الشعارات والأهداف، ووضع المتظاهرين في مواجهة مع الحكومة ومكوناتها، لا مع خياراتها الاستراتيجية، مانعاً استهدافه بالشعارات المرفوعة واعتباره شريكاً في المسؤولية عما آلت إليه الأمور، وساهم في تحضير الأجواء للمواجهات العنفية مع القوى العسكرية والأمنية من خلال المندسين الذين كان يحركهم أو يسهل تحركاتهم لافتعال أعمال الشغب والاعتداء على المؤسسات العامة والخاصة مما تسبب بسقوط مئات الإصابات وبخسائر مادية فادحة، وركز الاستهداف على مصرف لبنان والمصارف التجارية بعد انفجار أزمة السيولة الخ…

وهكذا، فقد نجح حزب الله في شن هجوم مضاد على الثورة وأهدافها، وحوّل الخطر الذي كان يهدد مشروعه ومنظومته، الى إعادة إنتاج لحكومةٍ أكثر مطواعية له، محاولاً إخفاء ذلك بتبنٍّ شكلي لشعارات المتظاهرين المطالبين بحكومة من الاختصاصيين المستقلين، فإذا بالحكومة مجموعة ممثلين للأحزاب والقوى السياسية الدائرة في فلك حزب الله، وإذا بوعود الحلول الإقتصادية والمالية من خلال خطة إنقاذية تتحول الى محاولة لوضع اليد على ودائع اللبنانيين وغير اللبنانيين عبر التمنع عن دفع سندات الدين المستحقة على الحكومة، ومشاريع لتقييد حرية المودعين في التصرف بودائعهم (كابيتال كونترول)، وأخرى لاقتطاع نسبة كبيرة منها (هيركات)، والى مشاريع لتأميم مبطن للمصارف من خلال شطب رؤوس أموالها لإطفاء قسم من دين الدولة، ودراسات لرفع الرسوم والضرائب وغيرها من التدابير التي تلبي المتطلبات التمويلية والتحاصصية والسلطوية للمنظومة الحاكمة بدل أن تلبي مطالب الشعب اللبناني!

ويترافق المضي المضي قُدُماً في التلزيمات المشبوهة، والتعيينات التحاصصية، وعرقلة التشكيلات القضائية، مع غطاء كثيف من الحملات المركزة على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمصارف التجارية لتحميلهم مسؤولية الأزمة الإقتصادية والمالية والنقدية والمصرفية التي يعاني منها اللبنانيون، كما لم يعانوا من قبل!

الدين العام: أسباب ومسؤوليات
يركز حزب الله ومنظومته على الترويج بأن سبب الأزمة المالية والنقدية والمصرفية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها اللبنانيون اليوم هو الأرباح الطائلة التي جنتها المصارف التجارية نتيجة سياسة مصرف لبنان في الاقتراض لتمويل عجز الدولة، وبأن أصحاب المصارف وضعوا يدهم على أموال المودعين وأقرضوها للدولة أو هربوها الى الخارج.

وقد نجح حزب الله، في التسويق لهذا الاتهام في الأوساط الشعبية، وفي تصوير المشاكل المالية والنقدية والمصرفية كسبب لأزمة لبنان واللبنانيين، على الرغم من كونها عملياً نتيجة للأسباب الحقيقية التي يتحمل مسؤوليتها الاحتلالان السوري والإيراني للبنان على مدى 30 سنة.

فجوهر المشكلة النقدية والمالية والمصرفية هو في عجز الدولة، والبحث يجب أن يتركز على الظروف والسياسات والقرارات التي تسببت في هذا العجز، والجهة المسؤولة عن هذه الظروف والسياسات والقرارات منذ العام 1990 الى اليوم.

وفي هذا المجال لا بد من التوقف عند ما يلي:
1- كلفة الحروب الداخلية والخارجية وما تسببت به من دمار وخسائر مباشرة وغير مباشرة على الاقتصاد اللبناني. وبجردة سريعة على هذه الحروب يتبين أن لبنان عاش سلسلة من الحروب والحوادث الأمنية الكبيرة أبرزها: عملية تصفية الحساب بين اسرائيل وحزب الله (1993)، عملية عناقيد الغضب بين اسرائيل وحزب الله (1996)، معارك جرود الضنية (1999-2000)، سلسلة محاولات الاغتيال والاغتيالات التي بدأت باستهداف النائب مروان حمادة (2004) واستمرت مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه (2005) وتواصلت حتى اغتيال اللواء وسام الحسن (2012)، حرب تموز بين اسرائيل وحزب الله (2006)، اقفال حزب الله لوسط بيروت (2007)، معركة مخيم نهر البارد (2007) احتلال حزب الله لبيروت ومهاجمة الجبل (7 أيار 2008)، تدخل حزب الله في الحرب السورية وما تسبب به ذلك من تفجيرات ومواجهات في عمق لبنان وعلى الحدود الشرقية، ومن حركة نزوح للسوريين الهاربين من المناطق التي تدخل فيها حزب الله في سوريا دعما لنظام الرئيس بشار الأسد (2011 الى اليوم).

2- كلفة الأزمات السياسية على الاقتصاد اللبناني. ومن أبرز محطات هذه الأزمات: شطب القوى المسيحية الفاعلة من الحياة السياسية في لبنان في الانتخابات التشريعية التي قاطعها المسيحيون (1992)، فرض التمديد للرئيس الياس الهراوي(1995)، فرض انتخاب العماد اميل لحود واعتذار الرئيس الحريري عن تشكيل الحكومة (1998)، فرض التمديد للرئيس إميل لحود (2004)، منع حزب الله انتخاب رئيس للجمهورية (2007)، إقفال مجلس النواب وتعطيله (2007-2008)، أزمة إسقاط حكومة الرئيس الحريري وعملية “القمصان السود” لمنع إعادة تسميته لتشكيل الحكومة(2010)، تشكيل حكومة اللون الواحد (2011)، تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية (2014)، بالإضافة الى الأزمات الطويلة التي رافقت تشكيل معظم الحكومات في لبنان منذ 2005 الى اليوم نتيجة للشروط وعمليات الابتزاز التي غالباً ما كان يفرضها حزب الله أو أحد حلفائه لتعزيز حضورهم في الحكومة!

أما على الصعيدين العربي والدولي فقد تسببت مواقف حزب الله المعادية للدول العربية لا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، والتصريحات التي تستهدف قادة هذه الدول، والدعم اللوجستي والإعلامي والعسكري والأمني للجهات المعادية لهذه الدول، في تحميل لبنان خسائر مالية باهظة من خلال وقف معظم أشكال الدعم المالي والاقتصادي وتراجع الاستثمارات وتصفية لبعض ما كان قائما منها، وانخفاض كبير في تحويلات اللبنانيين العاملين في الخليج والعالم الى لبنان.

وأدت بعض الاختراقات التي قام بها حزب الله للمنظومة المصرفية الدولية من خلال عمليات مالية وتحويلات عبر المصارف اللبنانية الى تفعيل العقوبات الاميركية على هذه المصارف مما أدى إلى بيع أحدها (اللبناني – الكندي) وتصفية آخر (جمال ترست بنك) وهو ما أثر سلباً على القطاع المصرفي ككل، وجعل هذا القطاع تحت رقابة مشددة أخافت المودعين والمستثمرين.

3- كلفة تضخم الإدارة اللبنانية نتيجة تحويلها الى مكان لاحتواء المحازبين والمناصرين على مدى أكثر من ثلاثين سنة. فبعض التقارير يشير الى 260 الف موظف في الدولة اللبنانية بينهم مئة الف موزعة بين وظائف غير منتجة أو وظائف لمن يتقاضى راتباً من دون الحضور الخ… من دون إغفال “جيوش” المستشارين والمتعاقدين والمياومين وغيرهم! وجاء إقرار سلسلة الرتب والرواتب عام 2017 ليضاعف من كلفة الإدارة وبالتالي من الهدر والعجز!

4- كلفة الفساد والرشوة وسوء الإدارة وفي مقدمها قطاع الكهرباء (47 مليار دولار) وقطاع استيراد النفط (الوزارة كانت من حصة حلفاء سوريا وحزب الله منذ التسعينات الى اليوم)، والرشاوى والغش والسمسرات في مشاريع البنى التحتية، وتمويل القوى الحزبية من خلال الصناديق والمجالس وغيرها، والإشغال غير الشرعي للأملاك البحرية والنهرية والأملاك العامة الأخرى…

5- كلفة التهرب الضريبي والتهريب الذي يديره حزب الله ويشرف عليه لتمويل مؤسساته وحروبه (1،5 مليار دولار سنويا).

مسؤولية مصرف لبنان:
في ظل ما سبقت الإشارة إليه من ظروف سياسية وأمنية وعسكرية وإدارية واقتصادية، كان على مصرف لبنان إدارة أزمة الدين العام الذي تسبب به تراكم عجز الموازنات الحكومية بعد إقرارها في مجلس النواب على مدى نحو من ثلاثين عاما، بالتزامن مع الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية بحسب القرارات السياسية الدائمة للحكومات اللبنانية المتعاقبة، وتأمين التمويل المطلوب لخزينة الدولة، والحفاظ على الدورة الاقتصادية، فأطلق أكثر من سلة محفزات للقطاعات الصناعية والزراعية والتجارية والسياحية والإسكانية وغيرها، بفوائد مدعومة ومتدنية، ساهمت في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي… واعتمد هندسات مالية كانت موضع جدل على الرغم من أنها أدت الى تلافي تعثر بعض المصارف الكبرى في لبنان وبالتالي الى انهيار كبير في القطاع المصرفي، وساعد الحكومة على تأمين ما تحتاج إليه لتمويل عجز الموازنة من خلال سندات الخزينة التي تكثر الانتقادات في شأن الفوائد المرتفعة نسبياً التي اعتمدت لتسويقها بسبب المخاطر السياسية والأمنية والاقتصادية المرتفعة التي رافقت أصدارها. وانتقد الكثيرون حاكم مصرف لبنان على الكلفة المرتفعة التي تحملها المصرف من أجل تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية على الرغم من أنه كان ينفذ سياسات حكومية واضحة تم التعبير عنها في كل البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة منذ تولي رياض سلامة حاكمية مصرف لبنان في العام 1993.

ويبدو واضحاً أن حرب تقاذف المسؤوليات الدائرة في لبنان في شأن الأزمة المالية والنقدية والمصرفية والاقتصادية، تقوم على اعتبارات سياسية وعلى خلفيات تستند الى الاستغلال والمصالح وتصفية الحسابات والانتقام، أكثر مما تستند الى العلم والمنطق والأخذ في الاعتبار الظروف السياسية والأمنية التي عاشها لبنان خلال السنوات الثلاثين الماضية.

فالتعاطي مع الملفات الاقتصادية والمالية والنقدية والمصرفية من دون الأخذ في الاعتبار الظروف السياسية والأمنية والعسكرية التي ترافقها وتنعكس عليها، يفتقد الى المهنية والحرفية، ويندرج في إطار المزايدات والمناكفات وتزوير الحقائق في إطار الصراع على السلطة.

فهل يمكن، على سبيل المثال، لأفضل حاكم مصرف مركزي في العالم حل مشكلة إيران أو فنزويلا الاقتصادية ما لم تتغير سياسات الحكومتين الايرانية والفنزويلية التي استجلبت لهما العزلة الدولية والعقوبات المالية والمصرفية والاقتصادية على الرغم من أن إيران وفنزويلا هما من أكبر الدول النفطية في العالم ومن أغنى الدول من حيث الثروات الطبيعية التي تختزنها أرضهما؟

وهل كان يمكن لحاكم المصرف المركزي اليوناني أن يعالج مشكلة إفلاس الدولة اليونانية لو لم تتخذ الحكومة اليونانية القرارات السياسية والمالية والاقتصادية المطلوبة؟

وهل كان يمكن لحاكم المصرف المركزي القبرصي أن يتجاوز أزمة إفلاس بعض المصارف القبرصية لو لم تكن حكومته جزءا من منظومة الاتحاد الأوروبي وتوجهاته السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية؟

وهل كان يمكن لحاكم المصرف المركزي في الاتحاد السوفياتي السابق أن يطبق سياسات نقدية ليبرالية في ظل النظام الشيوعي الذي كان يعمل في ظله؟ وهل يمكن لحاكم المصرف المركزي الأميركي أن يتخذ قرارات تناقض النظام الرأسمالي وتحد من الحرية الاقتصادية التي يقوم عليها النظام الأميركي؟

وهل يمكن لحاكم المصرف المركزي الأوروبي أن ينفذ سياسات مالية ونقدية مخالفة لمتطلبات الوحدة الأوروبية وقواعدها ومستلزماتها؟
إن التركيز على مسؤولية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وجمعية المصارف عن الأزمة النقدية والمالية والمصرفية والاقتصادية الحالية، وكأنهما خالفا السياسات الحكومية، يفتقد الى الحد الأدنى من المنطق السياسي والقانوني والاقتصادي المطلوب للحل، خصوصا في ظل وضع لبنان الواقع تحت الاحتلال منذ العام 1990.

فبين العامين 1990 و2005 تحكمت سلطة الاحتلال السوري بكل القرارات السيادية للدولة اللبنانية، ومنذ العام 2005 وحتى اليوم يتحكم حزب الله بهذه القرارات، في غياب الديموقراطية الصحيحة التي هي ركيزة أساسية من ركائز الشفافية والمحاسبة.

مسؤولية المصارف التجارية:
تُوجَّه أصابع الاتهام الى المصارف التجارية ب:

1- التسبب بعجز الدولة اللبنانية من خلال الأرباح الكبيرة التي جنتها من سندات الخزينة التي اشترتها لتمويل العجز المتراكم للموازنات الحكومية.

2- تبديد أموال المودعين من خلال استثمارها في المكان الخطأ، وتحديداً في تمويل الدولة على الرغم من معرفتها بارتفاع مخاطر عدم قدرة الدولة على التسديد.

أما في الواقع، فمن الطبيعي أن تحقق المصارف كمؤسسات تجارية أرباحاً. فالمصارف لم تتأسس لتخسر. والمصارف لم تكن هي من جرّت بسياساتها الحكومة اللبنانية الى الاستدانة، وإنما العكس. والمصارف سددت للدولة اللبنانية الضرائب المتوجبة عليها لقاء أرباحها، مما يعني أن الدولة كانت مستفيدة بدورها من أرباح المصارف لتمويل خزينتها. والمصارف أمنت وتؤمن الحياة الكريمة لألوف العائلات من موظفيها، وتؤمن لهم الخدمات الاجتماعية التي يفترض بالدولة ان تؤمنها لشعبها من بدلات طبابة واستشفاء ودراسة وغيرها من المساعدات الاجتماعية.

والقول بأن المصارف قد حققت أرباحاً من سندات الخزينة هو وجه من أوجه الحقيقة، لأن الوجه الآخر هو أن المودعين الذين وظفت المصارف قسماً من ودائعهم في سندات الخزينة استفادوا من الفوائد المرتفعة لجني أرباح مكنتهم من تأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة على مدى سنوات طويلة، وسمحت للدورة الاقتصادية بأن تتحرك على مدى سنوات وهو ما أدخل الى خزينة الدولة المليارات من الرسوم والضرائب وإن كانت الحكومة قد اساءت استخدامها وتوظيفها في الأماكن الصحيحة.

إن اتهام المصارف بالتسبب بعجز الدولة نتيجة لفوائد الدين كان يمكن أن يكون صحيحاً لو أن الحكومة توصلت الى مرحلة ألغت معها العجز في موازنتها، وبقيت ترزح تحت عبء فوائد الدين فقط. لكن المشكلة الحقيقية تمثلت في أن الحكومات المتتالية لم تعمد الى معالجة الفجوات في موازنة الدولة وبقيت نسبة العجز ترتفع سنوياً بمعزل عن كلفة خدمة الدين العام.

ثم أن المصارف سبق لها بعد مؤتمر باريس-2 أن وظفت 3،6 مليار دولار في سندات الخزينة بفائدة صفر بالمئة كمساهمة منها في مساعدة الحكومة على خفض عجز الموازنة كما وعدت الدول المانحة يومها. والمصارف كانت على استعداد السنة الماضية لتوظيف 3 مليارات دولار أخرى في سندات الخزينة بدون فائدة ملاقاة لمؤتمر “سيدر” في مساعدة الدولة اللبنانية لو أن الحكومة وفت بتعهداتها بإقرار موازنة تعالج الهدر والفساد وتخفف العجز كما وعدت!

لكن مع إصرار الحكومة على إبقاء موازنتها مصدراً لتمويل الحياة السياسية والحزبية للمنظومة الحاكمة ولخزينة حزب الله، وامتناعها عن اتخاذ التدابير الكفيلة بوضع حد للاقتصاد الموازي غير الشرعي الذي يرعى التهريب والتهرب الضريبي والمضاربات غير المشروعة، ومع عدم قيام الحكومة بأي خطوة لتصحيح العلاقة مع الدول العربية والمجتمع الدولي، رفضت المصارف أن تضخ أموالا جديدة في سندات الخزينة!

أما في الشق الثاني المتعلق بتبديد أموال المودعين، فإن المصارف لم تخرق قاعدة توزيع المخاطر التي تعتبر قاعدة ذهبية في علم الاستثمار.

فهي وظفت أقل من ثلث ودائعها فقط في سندات الخزينة لتتمكن الدولة من تسيير شؤونها، في حين وظفت الثلث الثاني لإقراض القطاع الخاص فسمحت للشباب بتملك عشرات ألوف الشقق، وشراء السيارات، وزيادة الإنتاج الصناعي والزراعي، وتطوير القطاعات السياحية والخدماتية، ووظفت الثلث الأخير في استثمارات أخرى متنوعة بعد الاحتفاظ بملاءة تزيد عن ال 12% وبعد الاحتياط الإلزامي المفروض إيداعه في مصرف لبنان.

من هنا، يصبح اتهام المصارف بتبديد أموال المودعين من خلال توظيفها لدى الدولة اللبنانية، اتهاماً للدولة وليس للمصارف!

ففي كل دول العالم تعتبر الدولة هي الضامن والناظم للعلاقة بين الناس، وبين المؤسسات، وبين الناس والمؤسسات، وهي بحكم كونها، مبدئياً، الحاكم والحَكَم، يفترض أن تسهر على تطبيق القانون وصون حقوق المؤسسات والناس لا على إهدارها وتبديدها.

وبما أن العجز المتراكم هو – باعتراف السلطة السياسية نفسها- نتيجة للهدر والفساد وسوء استخدام السلطة، وهي كلها مخالفات قانونية تدين القائمين بها، فإن المنظومات السياسية التي تشكلت منها الحكومات على مدى السنوات الثلاثين الماضية هي التي يجب أن تكون في قفص الاتهام لا المصارف!

وما يؤكد مسؤولية الحكومة عن الوصول الى حافة الإفلاس لا مسؤولية المصارف، نموذجان:
1- القطاع الاستشفائي الذي يرزح تحت عجز يهدد بإقفال الكثير من المستشفيات وتوقف بعضها الآخر عن العمل بسبب امتناع الدولة اللبنانية عن تسديد عشرات المليارات المتوجبة عليها من مستحقات للمستشفيات المهددة بالإفلاس!

2- الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، حيث يودع العمال وأصحاب العمل الأموال المخصصة لتعويضات نهاية الخدمة بعد سن التقاعد. وقد تمّ توظيف أكثر من 80 بالمئة من أموال هذا الصندوق في سندات الخزينة التي أعلنت الحكومة تمنعها عن دفعها! فهل المسؤولية في تبديد هذه الأموال تقع على عاتق المصارف أم على عاتق الدولة؟

بين المحاسبة السياسية والمحاكمة القضائية:
في ظل سلطة احتلال، أو في غياب الممارسة الديموقراطية الصحيحة لا يمكن الحديث عن محاسبة سياسية أو محاكمة قضائية، بل عن استخدام القانون وتوظيفه لتحويل القضاء الى “محاكم عرفية” مهمتها الفعلية هي القمع والترويض والإخضاع.

فسلطة الاحتلال والسلطة غير الديموقراطية إن حاكمتا، فللتخلص من المعارضين ورافضي مسايرتهما والخضوع لهما والمواجهين لمشاريعهما والمتصدين لتمريرها، أو لتقديم ضحية وكبش فداء وتحميله مسؤولية لا يتحملها، لامتصاص نقمة الناس وتضليلهم وحماية الاحتلال او الحاكم وتبرئته من المسؤولية الحقيقية!

لذلك، فإن اللجوء الى القضاء في هذه المرحلة، لا يبدو مفيداً، في ضوء تجارب السنوات الثلاثين الماضية من “محاكمات” بحجة محاربة الفساد والفاسدين، بينما لم تكن في الحقيقة والواقع سوى عمليات انتقام سياسي قامت بها سلطة الاحتلال ومن يتعاون معها ضد المعارضين، أو ضد الخارجين عن وصايتها.

ولنا على سبيل المثال لا الحصر أمثلة عدة.
فمحاكمة النائب السابق يحيى شمص بتهمة الاتجار بالمخدرات، بعد رفع الحصانة النيابية عنه، لم تكن قراراً من الحكومة اللبنانية بالقضاء على هذه الآفة، وعلى التهريب، بدليل أنها لا تزال متفلتة حتى اليوم، بل ذريعة لتأديب شمص الذي اختلف يومها مع رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في الجيش السوري العامل في لبنان غازي كنعان.

ومحاكمة الوزير السابق شاهي برصوميان بتهمة بيع الرواسب النفطية لم تكن لاستعادة المال العام المنهوب كما قيل يومها، بدليل استمرار فضائح هذا القطاع حتى اليوم بأشكال مختلفة، بدءا بالمحروقات وانتهاء بصفقات الكهرباء، ومحاكمة النائب السابق حبيب حكيم بتهمة هدر المال العام في محرقة برج حمود للنفايات لم تضع حدا لمشكلة الفساد والهدر في ملف النفايات المفتوح على مصراعيه حتى اليوم، ولكنهما كانتا نموذجين من النماذج التي اعتمدها عهد إميل لحود للانتقام من خصومه المحليين المحسوبين على تركيبة سورية كانت في طريقها الى الأفول لتحل مكانها تركيبة بشار الأسد في الإمساك بالملف اللبناني.

وفي قضية “بنك المدينة” الشهيرة، تمت ملاحقة الأخوين عياش والأخوين قليلات، بتهمة تبديد أموال المودعين، ولكن أحداً لم يقترب من البطل الحقيقي لهذه الفضيحة رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في الجيش السوري في لبنان اللواء رستم غزالة، ولم يُسأل إسم واحد من الأسماء الواردة على قائمة طويلة من السياسيين وغير السياسيين اللبنانيين التابعين لغزالة عن مصير الأموال التي نهبوها من المصرف المذكور.

ثلاثية الحل: “التحرير الديموقراطية القانون”
بالاستناد الى كل ما تقدم، فإن المطالبة بمحاسبة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أو محاكمة أصحاب المصارف وكبار المساهمين فيها، وبمعزل عن مدى مسؤوليتهم أو عدمها عن الأزمة الحالية، لا تعدو كونها، في ظل الظروف السياسية القائمة التي يمسك فيها حزب الله بالقرارات السيادية للدولة اللبنانية، وبمفاصلها الحيوية، وفي ظل غياب مؤسسات ديموقراطية حقيقية:

1- دعوة الى الانتقام من النظام المصرفي الذي لا يزال يقاوم محاولات حزب الله لإرضاخه وإخضاعه واستعماله خلافاً لقواعد عمل النظام المصرفي العالمي.

2- تسهيلاً، ولو عن غير قصد، لاستيلاء حزب الله على مواقع القرار في السلطة النقدية مع ما يعنيه ذلك من سيطرة على رمز سيادي أساسي إضافي من الرموز السيادية السياسية والأمنية والعسكرية التي وضع حزب الله يده عليها خدمة للمشروع الإيراني.

أما الحل الحقيقي فيبدو مستحيلاً في ظل غياب المحاسبة السياسية، وفي ظل استمرار تحويل الانتخابات، كما منذ ثلاثين سنة، غطاء شكلياً يسمي من خلالها الاحتلال وشركاؤه من منظومة السلطة والنفوذ السياسي والمالي من يريدونهم للتشريع ولاختيار رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ومنح الحكومة الثقة ومراقبة اعمالها ومحاسبتها!

إن التعاطي مع الأزمة الراهنة، كما لو أنها أزمة تقنية، لا يوصل الى حل. فالأزمة هي أزمة بنيوية – كيانية – سياسية، لا يمكن معها تجاوز ترتيب الأولويات المطلوبة لبناء الدولة.

فخريطة الطريق لبناء الدولة واضحة:
تحرير لبنان من سلاح حزب الله والوصاية الإيرانية هو المدخل الإلزامي الى الديموقراطية. والديموقراطية هي المدخل الإلزامي الى القانون والعدالة. أما قلب الأولويات، ولو عن حسن نيّة، فينسف كل المعادلة:
فالقانون بلا ديموقراطية أداة تعسف ووسيلة انتقام.
والديموقراطية بلا تحرير غطاء لسلطة الاحتلال!

*نوفل ضو
صحافي وسياسي لبناني
منسق التجمع من أجل السيادة
مركز الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الجيو سياسي للدراسات الاستراتيجية والأبحاث