يوسف ي. الخوري/رسالتي إلى حسّان دياب

82

رسالتي إلى حسّان دياب
يوسف ي. الخوري/24 آذار/2020

أعذرني فإنّ الظرف الراهن لا يسمح بإطالة المقدّمات لتفخيمك، وأنت إنسان يقتضب غالبًا في الكلام، وعليّ في توجيهيَ الكلام إليك، أن أراعيَ هذه الناحية وأختصر بدوري، خوفًا من ألّا تجد الوقت الكافي لقراءة رسالتي حتّى النهاية.

منذ قيامة الشعب في 17 تشرين الأوّل الماضي، وأنا لا أفوّت مناسبة إلّا وأحاول أن أشرح خلالها وجهة نظريّتي القائلة بأنّ اثنين – البنوك والحزب الإلهي – هما السبب في ما وصلت إليه حال العِباد والبلاد، وهما أيضًا خصما الشعب في انتفاضته، والأكثر تضرّرًا منها. وقد عبّرت في إحدى محاضراتي عن هذا الواقع بالقول:
“إنّ انبعاث الثورة في 17 تشرين الأوّل جنّب لبنان مواجهة بين المؤسسات المالية، وعلى رأسها حاكم مصرف لبنان، من جهة، والقوى السياسية التقليديّة التي يتزعّمها حزب الله، من جهة ثانية”.

ثمّ أضفتُ، وكلّي قناعة بما أُضيف: “لو انفجر الصراع بين هذين الطرفين، لدمّر لبنان تدميرًا فعليًّا، بِدءًا من تغيير وجهته الحضارية والثقافية وصولًا إلى تبديل هويّته”.

وفي مكان آخر من نفس المحاضرة قلت “إنّ حزب الله وشلّة المصارف هما مكوّنان في مصلحة واحدة، متى اتفقا أحكما قبضتهما على رقبة الشعب وتحكّما بمصيره، ومتى اختلفا يدمّران الهيكل على رأس هذا الشعب وهما يتفرّجان”.

لماذا أخبرك بكل هذا يا صاحب الدولة وأنت لا تحب الإطالة في الكلام؟ لأنّي أرى أنّ المشكلة في مكان وحكومتك تحلّها في مكان آخر. لأنّ المجرمَيْن الحقيقيَين ينعمان في مكان، وحكومتك تلاحق جياعًا خرجوا إلى الشارع ثائرين حتى جاء “الكورونا” ولم يُبقِ من ثورتهم سوى ما أحسنَت به إليك، فلا تنسَ أنّك ووزراءك تدينون لهذه الثورة بنعمة حلولكم في السلطة. لماذا أخبرك بكل هذا؟!

لأنّيَ شخصيًّا ليَ عليك ما تحمّلتُه من تهجّمات وإهانات أحد شيوخ دار إفتاء السُنّة لمجرّد أنّي اعتبرت وصولك إلى السلطة شرعيًّا ودعَوْتُ أهل السُنّة في لبنان إلى عدم اللجوء إلى الشارع وانتظارك حتى تُخطئ. وها أنت تُخطئ ووزراؤك يُخطِئون… فليس هكذا تُدار الأوطان يا صاحب الدولة!

لا تُحكَم بلادٌ يا صاحب الدولة وأصحاب الشرّ فيها طليقون لا يُحاسَبون! صاحب المصرف ينعم بجنى أعمار الناس، وصاحب السلاح لا يستقوي إلا على الناس.

أحد وزرائك – لا أذكر اسمه – صرّح، من دون خجل، في مقابلة تلفزيونية، بأنّكم لن تغيّروا صاحب المصرف المركزي، مستشهدًا بأحد الذين قرأ كتبهم قائلًا ومعتقدًا بأنّه مثقّف: “لا نغيّر الحصان في وسط المعركة”. وكيف لا، يا صاحب الدولة، وكل الشرّ والبليّة في هذا الحصان؟!!

ماذا كنّا سنفعل لولا أصيب الحصان ومات في وسط المعركة؟

حكومتك لا تزال تراهن على الحصان الخاطئ: المصارف. لا توفّر جهدًا للحؤول دون سقوطها بحجّة الدفاع عن نهجٍ يُسمّونه ليبرالي.

ما قيمة الليبرالية وشعبي يجوع لأنّ هذه المصارف أغرته فجذبته فأسرته ثمّ سرقته بلا رحمة.

أتعرف يا صاحب الدولة أنّ هذه المصارف تُهمل ولا تُمهل؟

أتعرف كم عائلة تشرّدت لأنّ المصارف اغتصبت بيوتها؟

وكم طفلة نامت من دون عشاء لأنّ “باباها” اختار تسديد السند للبنك بدل تغذيتها؟

وقبل أن تقول لي أنّ البنوك أمّنت الرفاهيّة وبحبوحة العيش للبنانيّين كما يدّعي أحد أصحابها، ويُطيّب لكلامه أحد كبار مقدّمي البرامج، أقول لك إنّ هذه البنوك كان من واجبها تمويل الإستثمارات وتنشيط الدورة الإقتصادية، وليس تشجيع “الكزْدرة”.

وإذا قلت لي أنّ البنوك سهّلت حياة المواطنين بتديينهم الأموال، أقول لك أنّ البنوك، بقيادة حاكمها المركزي، بالتضامن والتكافل والتوافق، دَوْلروا الاقتصاد اللبناني، ورفعوا نسب الفوائد إشباعًا لجشعهم ومن دون رؤية مستقبلية، ما أثّر على الدورة الإقتصادية وزاد الفقراء فقرًا واضطرّهم للّجوء إلى الاستدانة والعيش بذلِّ على فتات الأغنياء الذين زاد غناهم.

وكي لا ننجرّ أكثر في الحديث عن جرائم حصلت ولم تأتِ بعد ساعةُ حساب مرتكبيها، أودّك أن تعرف، يا صاحب الدولة، أنّ المصارف بزعامة الحاكم – وكلّ ادّعاء بالشرخ بين الإثنين هو هراء – لم توقف سرقة الناس بعد بالرغم من كلّ ما أصابهم ويُصيبهم من الانهيار والوباء.

أحد أصدقائي أمّن لوالدته العجوز مبلغًا في البنك لتعيش بكرامة من فائدته كلّ شهر، تفاجأت العجوز الشهر الماضي أنّ ما جنته من الفائدة انخفض إلى ما دون النصف.

وصديق آخر لي استدان من البنك سابقًا والفائدة على دينه لا تزال هي هي، لا بل إلى زيادة، لأنّه بتوقّف أعماله في الأشهر الأخيرة لم يعد بمقدوره دفع السندات، فصار بنكه يفرض عليه غرامات تأخير!

ماذا تفعل حكومتك لوقف السرقات التي لا تنفكّ البنوك تمارسها بحقّ الناس الذين وقعوا في مصائدها؟ صدّقني يا صاحب الدولة، رهان حكومتك على البنوك باطل، فالحياة لا تعود إلى الوراء، وهذه البنوك التي تاجرت بشباب شعبك بدفعهم إلى الهجرة لتتغذّى هي من تعبهم، لن تعود الثقة بها مهما حاولت تبييض صفحتها، سواء بإخافتنا من هول الكارثة علينا في حال سقطت، أو بمحاولات التبرّع علنًا على شاشة إحدى المحطّات بحفنة من أموالها، مساهمةً منها لتجاوز أزمة “الكورونا”.

الشعب نزع عنه رداء الغباء يا صاحب الدولة، فلا سقوط البنوك قادر بعد اليوم على ترهيبه، ولا التبرّعات قادرة على الاستخفاف بذكائه.

أتَعلم؟ أنا شخصيًّا قدّرت كثيرًا خطوة المحطة التي جمعت خمسةً وعشرين مليار ليرة للمساعدة في تخطّي أزمة “الكورونا”، ونظرت إليها من زاوية التعاون البنّاء بين قطاع مدنيّ والدولة.

لكنّ الناس، يا صاحب الدولة، أصابتهم هذه الحملة بشيء من الوجع، إذ كيف هم مُحتجزون في منازلهم، قرشهم الأبيض لا ينفعهم حتّى في يومهم الأسود، وهناك مَن لديهم القدرة على التبرّع بعشرات، لا بل بمئات الملايين من الليرات، ومن بينهم البنوك التي تحتجز أموالهم وأبت أن تزيد من رؤوس أموالها لتتخطّى الأزمة الاقتصادية التي سيدفع ثمنها الشعب عن طريق ما سُلب منه.

نعم يا صاحب الدولة، ما استغلّته البنوك بالتبرّع للتستّر على معاصيها، لم يمرّ على الناس لا بل أوجعهم بمكان. وللزيادة في قهر الناس، يأتيك بالأمس الحصان الكبير المركوب بالهندسيّات، طارحًّا تديين المؤسسات والشركات المتعثّرة من دون فوائد. لكن كيف، ومن أين له، وهو يحتجز أموال الناس ويعجز عن تسديد التزاماته؟ كيف، وعدد الشركات المتعثرة بالآلاف؟ أما زال يُمعن بتضليل الناس ببروغانداته المدفوعة التي عهدناها تصوّرُه فرسًا عربيًّا أصيلًا بينما هو لا يعدو كونه “مبندقًا” من أمّ فارسيّة وأب أميركي أو العكس؟

لائحة تعدّيات المصارف تطول، لكنّنا لا ننسى، وليس باستطاعتك، يا صاحب الدولة، تجاهل مصيبتنا الثانية التي غطّت شواذ المصارف لسنين طويلة، وعنيتُ بها حزب الله وسلاحه. إذا كان هذا الحزب الذي يدّعي حماية لبنان من الشرّ الإسرائيلي قد حمى المصارف وسكت عن نواياها البغيضة بحقّ الناس وهو عالِمٌ بها، يكون بهذه الحال شريكًا في الجريمة. وإذا كان لا يعلم، فيكون غير جدير بحمايتنا. فليسلّم سلاحه ويترك شعبه “المحروم” ينضمّ إلى فقراء لبنان.

أتجرؤ يا صاحب الدولة بوضع الأصبع على الجرح لحلّ المشكلة، أم ستستمرّ بالبحث – كأسلافك – عن الخاتم الضائع تحت لمبة البلديّة التي تضيء في محيطها، بينما الخاتم سقط بعيدًا في الوادي المظلم؟ أتجرؤ أن تسأل ما الجدوى من بقاء السلاح واستقواء فئة من اللبنانيّين به على باقي الفئات اللبنانية؟ وما الجدوى منه ومنذ أربعة عشر عامًا لم يُستخدم مرّة واحدة في وجه عدوّه!؟

نعم! ما الجدوى من السلاح وأنا أكتب أسطري هذه أسمع صوت الطيران الحربيّ الإسرائيليّ يتجوّل فوق رأسي؟!! وقبل أن تقول لي أنّ السلاح ينفع لتحرير القدس، أسألك، وأنت السنّي العارف، بماذا تهمّ القدس حزبًا شيعيًّا؟ ومنذ متى يهتمّ الشيعة بقدسٍ مسجدها على اسم عمر بن الخطّاب الذي هو على رأس لائحة السبعة الذين هم منهم براء؟! لن تقول لي يا صاحب الدولة أنّ السلاح مُجْدٍ لردع كلّ معتدٍ على نفطنا، لأنك تعرف أنّ النفط لن يطفو إلى أعلى إلّا برضى إسرائيل وأميركا، وعلى حكومتك التعامل مع الموضوع في هذا الإطار.

بعدما استفضت، يا صاحب الدولة، بعرض المشكلة، لن أبخل عليك وعلى وزرائك ببعض النصائح التي من شأنها المساهمة بتجاوزنا الأزمة الراهنة، وتُظهرك بأنك غير متواطئ مع البنوك والسلاح، وأنت كذلك، على ما يدلّ عليه أداء حكومتك لغاية اليوم.

أوّلًا: لا تستغلّوا أزمة “الكورونا” وما أسميتموه “تعبئة صحيّة” لتمرير ما يحمي البنوك من السقوط، على حساب مدخّرات القوم.

ثانيًا: كفّوا عن استدعاء الثوّار وقمعهم لتثبيت قوّتكم، فهذا يُظهركم خائفين من عودة الثورة ويزيد حقد الناس عليكم.

ثالثًا: كلّ المشاريع التي يتقدّم بها وزير ماليّتكم مشبوهة، فهو لم يخطّ سطرًا واحدًا يفيد الناس بما وقعوا في شركه. ومن المقترحات الممكنة، على سبيل المثال لا الحصر: كانت البنوك تحمّل الناس فوائد تأخير على ديونها من دون رحمة ولا مناقشة، فلِمَ لا تُلزمون هذه البنوك بنسبة فوائد للمودعين على الأموال التي تحجبها عن أصحابها؟

رابعًا: ألزموا البنوك بوقف الفوائد على الدين بشتّى أنواعه، على غرار ما حصل في مصر وفي العديد من الدول، لأنّ الظرف طارئ والاقتصاد في جماد كلّي بسبب هذه البنوك قبل “الكورونا”. أمّا الفوائد على الإيداع، فليس من العدل إيقافها لأنّ البنوك استفادت وتستفيد من هذه الودائع.

خامسًا: اعلموا أننا على أبواب مجاعة لا تقلّ أهميّة عن مجاعة العام 1914. ففي ذاك العام، مات أهالي جبل لبنان من الجوع لأنّهم كانوا ملهيّين بتجارة الحرير وتخلّوا عن زراعة المواد الأوّليّة كالقمح والحبوب، ثمّ أطبق عليهم الأتراك بحصار مُحكم أجاعهم لأنّ أرضهم لم تكن مجهّزة للإنتاج. اليوم، كلّ لبنان محاصر بإجراءاتكم، والأعمال متوقّفة بسبب تعبئتكم الصحيّة، ولا مال لشراء مواد الإعاشة بالرغم من أنّها متوفّرة، فماذا تفعل حكومتكم لإبعاد شبح الجوع عن لبنان واللبنانيّين؟ ماذا تفعل حكومتكم غير المشاريع لحماية المصارف وانتظار أمر اليوم من الحزب حتى لاتخاذ الإجراءات الطبيّة؟!!

سادسًا: لن تجرؤوا على السلاح وعلى الحزب لأنّكم تقتاتون من وصايتيه المليّة والسوريّة على لبنان، لكن اعلموا أنّ الثورة التي تُخيفكم ما كانت لتتعثّر لولا تغاضيها عنهما.

سابعًا: لا ضير من سؤال النواب ورئيسهم عمّا إذا انتهى تعقيم مجلسهم، ففي الشدائد يفتقد القوم مَن أولوهم شأنهم، فليخرجوا من مخابئهم وليعودوا إلى العمل أو فليرحلوا!

سيّدي صاحب الدولة، لا تُرسل أجهزتك لاعتقالي فقد أكون مصابًا بفيروس “الكورونا” وأفتك بهم. وإذا كانت مقالتي هذه تمسّ بالأمن الوطني، فعليك أن تعتقل معي ما لا يقل عن أربعة ملايين مواطنًا لأنّي كتبتها بلسان حال كلّ الشعب اللبناني ما عدا قيادات الأحزاب الصامتة، وأصحاب البنوك والمستفيدين منهم، وأصحاب السلطة بمن فيهم تكنوقراطيّو حكومتك.

أخيرًا، ولكي لا ننسى، يبقى هذا اليوم هو التاسع والخمسون بعد المئة لانبعاث الفينيق.