الكولونيل شربل بركات/حكايتي وحكاية بلدتي عين ابل مع القديسة رفقا

584

حكايتي مع رفقا بدأت منذ الصغر يوم قصت علي والدتي بعضا من مظاهر التدين التي كانت رفقة العينبلية تقوم بها قبل أن تنتقل إلى الدير
الكولونيل شربل بركات/23 آذار/2023

من أرشيف عام 2015/حكايتي وحكاية بلدتي عين ابل مع القديسة رفقا
الكولونيل شربل بركات(أرشيف)/20 حزيران/2015

زارتنا الأسبوع الماضي ذخائر القديسة رفقا وتجمعت الرعية تصلي لها وتتضرع أن تكون زيارتها بركة لكل بيت وبلسما لكل مصاب ورجاء بأن الله عز وجل لا يترك محبيه مهما صعبت الظروف وكثرت المشاكل من حولهم.
ولكنني بحضرة القداسة التي تمثلها رفقا ورهبة الموقف الجماعي الذي تجلى بالخشوع والتقوى وجميل الألحان والترانيم، أعادتني كلمة الأب شربل عن حياة القديسة الى نوع من التجاذب حول فكرتين تتعلقان بها وبتضحياتها:
الأولى التشبه بالمسيح ربنا الفادي وحمل جزء من آلامه في حياتها،
والثانية نكران الذات الذي يقودها أكثر على درب القداسة.
وحكايتي مع رفقا بدأت منذ الصغر يوم قصت علي والدتي بعضا من مظاهر التدين التي كانت رفقة العينبلية تقوم بها قبل أن تنتقل إلى الدير وهي التقية المواظبة على تأدية كل الفروض حتى أنها كانت تركع وحملة الحطب على رأسها عند سماع الناقوس لتأدية الفرض، إذا لم يكن هناك من يساعدها على وضعها على رأسها من جديد (وهذه أخبار متوارثة عنها في تقليدنا منذ أكثر من مئة سنة).
وهذا التصرف البسيط الذي لم يكن يعني الكثير بالنسبة لي صغيرا حفظته صورة حلوة في الذهن لتلك الفتاة الراكعة وعلى رأسها حملة حطب وفي يدها مسبحة تعد حباتها لتأمن أنها تؤدي الفرض كاملا.
ثم عندما كنت تلميذا في معهد عينطورا (بداية السبعينات) أخبرني صديقي شربل عقيقي، وكان يسكن في حراجل، أنه ذهب ووالديه لزيارة قبر القديسة رفقا وأنها لا تزال تعمل عجائب.
تذكرت يومها دفتر المرحوم جدي بركات الذي دوّن فيه سجل العائلات العينبلية محاولا العودة إلى الجذور، حيث رأيت مرة اسم رفقة مع الملاحظة التالية (التي ترهبنت عند راهبات الموارنة في دير حراجل وعملت عدة عجائب) لكن شربل قال أنه زار قبرها في بلاد البترون.
حاولت بعد ذلك أن أبحث أكثر في الموضوع .
وعندما عدت إلى عين إبل ذلك الصيف قرأت من جديد مزيدا من التفاصيل في دفتر جدي ووجدت أن رفقة ابنة الياس حنا ابراهيم دياب هي الوحيدة من الاناث المذكورة في هذا السجل مع الملاحظة الواردة سابقا.
ولكني لاحظت أيضا جو الايمان الذي كان لا بد يحيط بها؛ فعم جدها حنا هو الخوري بركات الذي حمل الأمانة مباشرة بعد الخوري عبد المسيح الطويل الذي كان تخرج من المدرسة المارونية في روما ورسم كأول خوري رعية على مزرعة عين إبل، يومها، على يد سعيد الذكر المطران يوسف العاقوري الذي أصبح فيما بعد بطريركا مارونيا على انطاكية وسائر المشرق.
وتبعه الخوري انطانس ابن أخيه شاهين الأصغر منه سنا وهو ابن عم جدها حنا أيضا.
ثم ارتسم عمها يوسف كاهنا بأسم الخوري يوسف وكانت زوجته تدعى رفقة عواد من الحصارنة، وقد تكون رفقة حملت أسم زوجة عمها.
وكان ثلاثة من أولاد الخوري يوسف من أصل ستة ذكور رسموا كهنة.
فابراهيم البكر رسم كاهنا متزوجا وولد لويس (الذي أصبح فيما بعد المونسينيور يوحنا دياب أول راعي على موارنة مدينة بيروت وهو أنشأ بماله الخاص مدرسة الحكمة الشهيرة وعنه نقل المرحوم جدي معلوماته حول العائلة) وقد ربته جدته رفقة بعد وفاة والدته وذهاب والده لخدمة المطعونين في نيحا الشوف حيث كان الأمير بشير يمنع خروج أي من السكان عندما يظهر المرض لمنع انتشاره.
وقد عرف الخوري ابراهيم انه يدخل بدون رجعة، ولكنه فضل خدمة رعية توفي راعيها وهي تنذف كل يوم، ولا يجوز أن تكمل حياتها بدون كاهن أو تدفن موتاها بدون صلاة وتعزية من قبل الرب. وقد قام بخدمتها ردحا من الزمن ثم توفي ودفن فيها حيث بقي قبره معروفا حوالي المئة سنة.
أما خليل الولد الثاني للخوري يوسف فقد رسم كاهنا بأسم الخوري يوسف ويبدو أنه خدم الرعية بعد ابيه وكان كاهنا متزوجا لم يعقب ببنين.
أما بطرس فقد كان تخرج من مدرسة عين ورقة ويعتبر من مشاهيرها باسم بطرس العينبلي وهو رسم كاهنا على عكا ثم انتقل إلى بيروت وساهم في تأسيس رهبانية المرسلين اللبنانيين “الكريم”.
في هذا الجو المتدين نشأت رفقا وعرف عنها التزامها التقوى والورع وعمل الخير وقد تكون سمعت من أولاد عمها عن انشاء رهبنة لراهبات الموارنة فالتحقت بصفوفها.
هذه المعلومات كانت تؤكد لي بأن رفقة العينبلية، وبحسب التقليد المحلي، هي نفسها رفقة القديسة، وقد كانت ارتفعت صورة لها في بيت قريبتها ام نور، ولم يكن عندنا أي شك بذلك.
ولكننا لم نعلم تفاصيل الرهبنة الناشئة أو يوميات الراهبات هناك.
ولكن خبرا عن زيارة حاول المرحوم جدي يوسف (والد جدي بركات) الذي كان مختار عين إبل يومها مع شقيقه المرحوم جدي نقولا وقريب رفقة ابن شقيقها موسى ويدعى حنا، إلى الدير للاطلاع على أحوالها بعد أن سمعوا بمرضها كانت نقطة مهمة في البحث ( وكان أخبرني بها خالي بطرس بركات والد المونسينيور إيلي).
ولكن على ما يبدو فقد ذهب الثلاثة إلى بيروت وسألوا عن مكانها وقيل لهم أنها في أحد أديرة كسروان ولما زاروا الدير وجدوا الخوري يوحنا الحاج الذي قال لهم أن قريبتكم رفقا هذه قديسة فقد كانت أخواتها الراهبات عندما حدث الزلزال يسألنها أن تصلي من أجلهن لأن الله يسمع صلاتها وهذا الخوري أصبح بعدها البطريرك الماروني الواحد والسبعون وهو الذي توفي في نفس ليلة عيد الميلاد مع الراهب الحبيس شربل مخلوف، وقد قال لهم بأن رفقة والراهبات المارونيات نقلوا إلى بلاد البترون. ولم يكمل هؤلاء المشوار لبعد المسافة. وهكذا فقد كانت ملاحقة الأخبار حول رفقا قليلة..
عندما بدأ الكلام عن تطويب القديسة كانت الحرب قد مزقت البلاد وأصبح من جديد الوصول من الجنوب إلى بيروت عملية صعبة جدا وكانت القناعة بأن القديسة قادرة على أن تظهر بشكل ما مكان ولادتها ونشأتها أو تلهم من يفتش بالاتجاه الصحيح (إذا هي أرادت).
وكان رأي المونسنيور أيلي بأن مجد الأرض شيء فان وهي التي انكرت ذاتها لتكون لكل لبنان لا بل لكل الناس لا يجب أن نخدش تضحيتها من أجل التفاخر الأرضي.
ولكني وعندما زرت الأباتي نعمان في دير حريصا في إحدى المرات سنة 1986 حاولت اراحة ضميري بأن أقول ما أعرف عن رفقا فأخبرته بالقصة كاملة فقال لي أولا الدير هو ديرحراش لا دير حراجل ثم دعى الأب محفوظ (وهو الذي أصبح فيما بعد مطرانا على البرازيل) كونه هو من قام بالدراسة حول حياة القديسة. وعندما سمع الأب محفوظ الحكاية قال لي قد تكون قصتك هي الأقرب ولكنك وصلت متأخرا لأنه صحيح كان هناك بعض الألتباس حول الموضوع ولكن لم يكن عندنا أي مصدر آخر نوجه البحث باتجاهه وقد نشر البحث ووزع؟ وكان جوابي بأننا لا نريد تلطيخ صورة القديسة ولا المس بالجوهر الذي تمثله التضحية. أولا تكون تضحيتنا بالافتخار بأنها ابنة قريتنا جزء مكمل لمشروع رفقا في نكران الذات والتشبه بالمسيح بأن مملكتي ليست من هذا العالم؟
في الصيف الذي تلى كنت أتمشى وصديقي يوسف خريش (الشماس) في عين إبل فأخبرته موضوع رفقا فابتسم وقال ماذا تريد مني بعد هذا الحديث؟
فقلت له بما أنك تعمل في الاعلام الكاثوليكي ويمكنك الوصول إلى بعض المراجع أريد منك أن تفتش عن رفقا العينبلية فإما أن تكون هي القديسة أو ترشدنا إلى ما آلت اليه لأنني أشعر بالتقصير بمتابعة الموضوع. فوعدني يوسف بالعمل في هذا الاتجاه ولو مع ضحكة بأنه لم يصدق كثيرا الطرح.
بعد ستة أشهر جاءني يوسف بخبر مهم فقد كان أخبر الأب بطرس الجميل الذي كان مديرا للمركز الكاثوليكي للأعلام يومها، على ما أظن، (والذي أصبح فيما بعد مطرانا على قبرص) وقد ضحك كما يوسف في البدء ولكنه بعد ستة أشهر عاد ليقول له بأن صديقك قد يكون على حق لأنني كنت أطالع في سجلات الأب يوسف الجميل الذي كان مرشدا للراهبات زمن رفقا ويبدو أنه كان هناك رفقتين واحدة هي رفقة الريس من حملايا والأخرى التي لم يذكر عائلتها، وبينما كانت رفقا الريس تبدو مسؤولة بين الراهبات فقد كانت الأخرى زاهدة في الدنيا مواظبة على الصلاة.
اليوم وعندما ذكر الأب شربل في قصة القديسة رفقا بأنها دخلت في البدء دير راهبات اليسوعية في غزير وبعدها انتقلت إلى البترون أحسست بأن رفقا تريدني اكمال البحث بكل هدوء والانطلاق من دير الراهبات المارونيات في حراش حيث التحقت هي منذ البدء ثم كيف تم جمع الراهبات من الرهبنة المارونية واليسوعية في دير جربتا- البترون وقد رأيت أن قصة البطريرك يوحنا الحاج حول رفقا والزلزال قد تكون مهمة لتاريخ دخولها الدير ولا يعني أبدا المساس يتقوى الأخت رفقا الريس التي ضحت أيضا والتزمت بالرهبنة والخدمة وقد تكون بالفعل هي القديسة أو مساعدتها في أثناء مرضها الطويل.
في هذه المناسبة من زيارة ذخائر القديسة إلى كندا شعرنا مجددا بأن الله لم يتركنا وأننا إذا لم نقدر أن نزور القديسة في ديرها ها هي تزورنا حيث نقيم وها هي بركتها تحل على الجميع وتحضنهم وتحثهم على التعلق بالايمان بالله وبلبنان هيكله الدائم الذي لا يزال يتعرض لمشاريع التفرقة والحقد بدل التكاتف والتجمع حول دعوات العاملين بصمت من أجل تمجيد اسمه القدوس وجعل الانسانية تسعى إلى السلام والخير ببركة قديسيه ودعاء أوليائه.
فيا ليت قديستنا المحبوبة تطلب لنا أن يمن الله على لبنان بسلامه الدائم واحساس كافة بنيه بحاجتهم للتقارب وتفهم الآخر وقبوله على ما هو علّ كل واحد منا يسير بدربه الصاعد نحو السماء فتلتقي النفوس وتتكاتف الهمم.
وهل من الممكن أن تقبل السماء باقة صلاة رفقتنا وتضحياتها فيكون لجنوب لبنان، بلاد البشارة، ومسرح زيارات الرب، شراكة في القداسة؟
أطلبي لنا يا رفقة يا بنت أرضنا وأرزنا يا عروسة المسيح تبقى أطلبي لنا يا رفقا.