المخرج يوسف ي. الخوري: ساعة مع المنتفضين في الزوق

75

ساعة مع المنتفضين في الزوق…

المخرج يوسف ي. الخوري/06 تشرين الثاني/2019

استفقت من النوم في اليوم التاسع عشر لانبعاث الفينيق، وأول شيء فعلته كان تشغيل جهاز التلفزيون لمعرفة وضع الطرقات قبل خروجي من المنزل، وإذا بي أمام مشاهد تَدافُع بين الجيش الوطني من جهة، والمنتفضين الذين عادوا إلى قطع أوتوستراد جونية – بيروت في بلدة الزوق من جهة ثانية.

رجل مُغمى عليه، شباب تجمّعوا حوله وهم يناشدون الإسعاف، عناصر من الجيش يُطوّقونهم، في مكان قريب يعتقل بعض العناصر أحد المنتفضين ويدفع به إلى داخل شاحنة عسكريّة، يقوى التدافع بين الطرفين، تنتقل كاميرا النقل المباشر إلى شابة تبكي وتصرِّخ غاضبة: “ما رح نسمحلُن يقمعونا بالقوّي”!…

يا إلهي، ما الذي يحصل وقد أكّد المنتفضون مرارًا أنّهم لن يتصادموا مع الجيش؟! ما الذي تغيّر؟

انطلقت مسرعًا إلى الزوق لأقف على حقيقة الأمر، لأن الميدان بالنسبة لي يُعطي صورة مغايرة عمّا تنقله المحطات. هناك، تُحاكي العيون على وقع نبض الناس ورائحة منسوب الغضب.

ما أن وصلت حتى كان الجيش قد شتّت المنتفضين في عدة نواحٍ وفتح الطريق، ذهول على الوجوه، أفواه تعجز عن التعبير، عيون لا تُرى فيها سوى قساوة الفراغ… صبيّة في أواخر العقد الثالث تجلس وحيدة على الإسفلت على قارعة الأوتوستراد وينتشر حولها عدد من عناصر الجيش من دون إعارتها أي اهتمام، في يدها قنينة ماء فارغة، تضعها على شفتيها وتشرب منها وهي فارغة.

اقتربت من هذه الصبيّة ولم يعترضني أحد، وجهها محمّر وأثار دموعها لم تختفِ عنه، انحنيت نحوها وسألتها: “بجِبلِك مَيْ؟” التفتت صوبي ثمّ هزت رأسها نافية.

رفعت نظرها نحو العسكري الذي كان الأقرب إلينا وتمتمت ببعض الكلمات التي بالكاد فهمتها لأن صوتها مبحوح على ما يبدو من كثرة الصراخ!

قالت للعسكري: “كيف فيكُن تعملوا فينا هيك؟” أزاح العسكري نظره عنها ولم يَفُه بكلمة.

مرّت سيارة وأطلقت زمّور الـ “تا را تات تات تا” استفزازًا، نظرت الصبية نحوها بغضب كبير و”بَعَصِت” السائقة وهي تصرخ: ” روحي اندحشي بـ …. (خانها صوتها المبحوح) لزعيمك!” ثمّ انفجرت باكية، فحاولت ملاطفتها؛

أنا : ما بدَّش هالقد.

(ابتسمت والدموع تُزرف من عينيها، ثمّ قالت بصوت منخفض مبحوح)

الصبيّة : يمكن معك حق. (مستطردةً) Sorry مش عم يطلع صوتي…

أنا : منِّك عايزي صوتِك، كلِّك عم تحكي!

الصبيّة : شو نَفْع الحكي ما زال اللي قبالَك طرشان…

أنا : بالآخر بدّن يسمعوا، شو رأيِك تقومي من هالأرض وتروحي ترتاحي تا كان رجع صوتِك وترجعي تقدري تصرّخي بوجُّن.

الصبيّة : مش مزحزحا من هون قبل ما يحرّروا رفقاتنا اللي كمشوهن.

أنا: هاي هيني، كم ساعة وبيفلتوهن، بالآخر الجيش أيّد علنًا مطالب المنتفضين…

الصبيّة: الجيش!!… بطّلت أعرف.. إلنا 15 يوم منقول سلميي سلميي والجيش اللبناني منحبّو، واليوم كنا شاريين من جيابنا صدورِة كنافة تا نتروَّق نحنا ويّاهُن، ليك شو عملوا!

أنا: أنا أكيد إنّو اللي عملوه ما عملوه بحقد.

الصبيّة: مش كلّن… الضابط كان عم يقلّن “زيحوا الناس من الطريق بهدوء”… بس في عساكر ما كانوا عم يسمعولو… (مستطردة) Please ما قادرا احكي هلّأ، صوتي تعبان…

تركت الصبيّة وانسحبت إلى قهوة قريبة حيث تجمّع عشرات الشباب للتشاور، لكن الجميع كان صامتًا، متعبًا، فسألتهم بصوت عالٍ:

أنا: إنتو كنتو تقولوا ما بتتصادموا مع الجيش، شو اللي تغيّر؟

أحد الشباب 1: ما تصادمنا مع الجيش؟

أنا: واللي شفتو عالتلفزيون!؟ كنتو م تصلّوا المسبحة؟

شاب 2: نحنا كان بدنا نفتح الطريق لأنّو عم نسمع إنّو الناس مزعوجين…

شاب 3 : (مقاطعًا) هيدي خبار مخابرات…

شاب 2 : (لرفيقه) مش مهم… (متوجّهًا إلي) لما كمَّشوا رفقاتنا، كل اللي عملناه هجمنا تا نطلع مع رفقاتنا بالـ “جيبات”، فصار الجيش يدفّشنا تا ما نطلع، وصار اللي صار!

شاب 4 : (متحمّسًا) نحنا لو بدنا نتواجه مع الجيش ما كانت فَتَحِت الطريق….

شاب 3 : نحنا عمّو (يا ربّي دخلك، بيعيطولي عمّو!!!) كنا عم نحمي الجيش بدل ما هوّي يحمينا!

أنا : ما فهمتا هاي شرحلي ياها، ودخيلك بلا عمّو.

شاب 3 : نحنا ما منقبل نشتبك مع جيشنا تا ما ينقال عنّو أزعر عم يعتدي عالمواطنين، نحنا منحملها عنّو، هَيك هَيك انسمت علينا إنّا زعران وقطّاعين طُرُق! (ودمعت عينا الشاب)

انحنيت مذهولًا أمام حكمة هذا الشاب وقبّلت رأسه، وإذا بأحدهم يصرخ:

شاب 1 : لَيْكوا لَيْكوا شوعم يقولوا بطرابلس!

نظرنا إلى التلفزيون وإذا بشباب طرابلس يتضامنون مع شباب الزوق ويدعونهم إلى الانضمام إليهم في ساحة النور. فجأة انتعشت الوجوه الحزينة وعادت إلى محيّاها الحياة، وبلحظة تبدّل المشهد وبدأ شباب الزوق يتداولون بخطواتهم التالية – وهنا المجالس بالأمانات -، فسألتهم:

أنا : “بتسمحولي ضل ّ معكن؟

أحدهم : ولو عمّو، المخابرات منعرفن واحد واحد وتركناهن بيناتنا 18 يوم، إنت بدنا نخبّي عليك؟ عَيْب.

أنا : لكن اطلبوا لعمّو فنجان قهوي. (وجلست)

في اليوم العشرين لانبعاث الفينيق.