يوسف ي. الخوري/مجزرة الدامور نكتة أمام ما حصل في صبرا وشاتيلا

407

“مجزرة الدامور نكتة أمام ما حصل في صبرا وشاتيلا

يوسف ي. الخوري/ليبانون ديبايت/28 أيلول/2019

“مجزرة الدامور نكتة أمام ما حصل في صبرا وشاتيلا”… فلما التمييز بين المجزرتين طالما أنّ مرتكبهما هو نفسُه؛ “الفلسطينيون وأعوانهم؟!”.

أخبرني ذات مرّةً الآباتي شربل القسيس في الواقعةَ التالية:

“لما احتل الفلسطينيون دير مار جرجس الناعمة عام 1975 ثمّ أُجبروا على الخروج منه نتيجة ضغوط كبيرة قمت بها، توجّهت إلى المكان للاطلاع على حقيقة الوضع، فوجدت أن قسمًا من الدير تمّ حرقه، وأن موجوداته بُعثرت وسُرقت. وبينما كنت أجول في أرجائه وقع نظري على ورقة ممزوقة نصفين، فتناولتها عن الأرض وقرأتها، وإذا بتاريخها يرجع إلى العام 1948 وهي مُرسلة من رئيس عام الرهبانية الأب يوحنا العنداري إلى رئيس دير الناعمة الأب اغناطيوس أبي سليمان للطلب منه تعليق دروس المبتدئين – كان دير الناعمة مركزًا للمبتدئين – وفَتْح أبواب الدير لاستقبال الأطفال الفلسطينيين المشرّدين من بلادهم. حينذاك كنت مبتدِئًا في هذا الدير وتعاونت مع إخوتي الرهبان على تأمين الظروف المعيشيّة الملائمة لكل هؤلاء الأطفال”.
دمعت عينا الآباتي قسيس، ثمّ تنهّد تنهيدة طويلة متابعًا الكلام بحسرة وهو يقول:
“آآآآخ لو يعرف هؤلاء الفلسطينيون ماذا مزّقت أيديهم!”
(انتهى حديث الآباتي قسيس)

بالكاد مرّ شهران على حادثة الناعمة أعلاه، حتى ارتكب الفلسطينيّون بمؤازرة أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية مجزرةً في بلدتي الدامور والجيّة القريبتين، حيث راح ضحيّتها 582 شهيدًا من المدنيين الأبرياء، وهُجِّر عشرات الآلاف من الأهالي المسيحيين الذين هربوا بحرًا إلى مناطق آمنة شمال بيروت. لا داعي للتوقّف عند هذه المجزرة “النكتة” – كما يُسَرّ ناشطو اليسار في لبنان بوصفها – لأن الانتهاكات الوحشيّة التي مورست خلالها من حصار، وتجويع، وانتهاك للحُرُمات، وتهديم للكنائس، ونحر للأطفال والمسنّين، واغتصاب للنساء، كلها مُثبتة وموّثّقة ولا أحد يُنكرها، لا بل المعتدي نفسه يُفاخر بها ويقلّل من أهمّية جريمته لدرجة اعتبارها نكتة!

عام 1982، لم تكن مجزرة صبرا وشاتيلا التي حصلت غداة اغتيال الرئيس بشير الجميّل بحقّ فلسطينيين ومواطنين شيعة لبنانيين، أقلّ فظاعة! لكنّها تختلف عن مجزرة الدامور بأنّها استُغَلَّت إعلاميًّا بما يكفي لحجب الحقيقة القاطعة حولها، وذلك لكثرة ما أثير من أخبار متضاربة عنها. فعن المنفّذين هناك مَن يقول إنّهم الكتائب، وآخر يقول إنّهم القوات اللبنانية. شهود عيان يؤكّدون أن طائرة هليكوبتر إسرائيلية أنزلت أربعة ضباط من جيش لبنان الحر في مطار بيروت ليلة المجزرة وتوجهوا مباشرة إلى صبرا وشاتيلا. مراسلة التلفزيون السويدي ادّعت أنّهم الإسرائيليون إذ رأتهم يعتمرون قلانيس مُخرّمة!!

في الموازاة؛ برّأت جريدة السفير الكتائب في عددها الصادر بتاريخ 19 أيلول 1982، إذ ورد على متن صفحاتها: “سكان بيروت الغربيّة لا يُلقون المسؤوليّة على الكتائبيين”. صائب سلام صرّح: “ليس للكتائبيين صلة بهذا الأمر” (André Botar – L’Express, Nov. 1982 ). القوّات اللبنانية بقيادة فادي افرام استغلّت إشاعة وجود عناصر من جيش لبنان الحر وعملت على التوسّع بنشرها، ما دفع بالناطق باسم الجيش الإسرائيلي إلى نفي هذا الخبر قائلًا: “إن كل الأخبار المتعلّقة بوجود رجال سعد حدّاد في المخيّمات لا أساس لها” (Alain Ménargues – Les secrets de la guerre du Liban, p. 493).

لم يتّفق مصدران اثنان على نفس عدد الضحايا جرّاء هذه المجزرة، مما يدفع إلى الشك بالحجم الفعلي للجريمة، ويكفي القارئ أن يستخدم محرّك البحث Google للاطلاع على حصيلة القتلى في مجزرة صبرا وشاتيلا، كي يقع على عشرات التقارير والأرقام التي تبدأ من 400 قتيل وصولًا إلى 13000 و 15000 قتيل، حتى أن لجنة كاهان الإسرائيليّة التي كُلّفت بالتحقيق في القضيّة لم تتوصل إلى رقم نهائي للضحايا، إذ جاء في تقريرها: “تراوح عدد الضحايا بين 460 و 700 إلى 800 قتيل”. مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة آنذاك القاضي أسعد جرمانوس يقول إن عدد القتلى 460، وهذه المعلومة سمعتها شخصيًّا منه بعد أن اختفى تقريره حول هذا الموضوع في ظروف غامضة!

هناك فقط حقيقتان ثابتتان عمّا جرى في صبرا وشاتيلا بين 16 و 18 أيلول 1982، الأولى هي أن هناك مجزرة حصلت بحقّ أبرياء، والثانية هي أن تقرير مفوّض الحكومة تبخّر. حقيقة ثالثة لا يُمكن اخفاؤها بالرغم من محاولات تغطيتها وهي أن عناصر تابعة لجهاز الأمن في القوات اللبنانية الذي كان يرأسه ايلي حبيقة نفّذت اعمال التصفيات، بحسب ما يؤكّده روبير حاتم (كوبرا) المرافق الشخصي لحبيقة والمقرّب من وزير الدفاع الإسرائيلي آرييل شارون، في كتابه From Israel to Damascus، ويؤكّده أيضًا Alain Ménargues في كتابه Les secrets de la guerre du Liban، كما بالإمكان استنتاجه من تقرير كاهان الذي حمّل “مسؤولية غير مباشرة لشارون في المجزرة المرتكبة”، أي أنّ الأخير قد يكون غضّ النظر لتسهيل ارتكاب المجزرة، أو أوعز إلى فريق ما بارتكابها. مجلّة الـ Time أشارت بوضوح في عددها الصادر في شباط 1983 إلى مَن هو هذا الفريق، كاشفةً النقاب عن ملحق سرّي لتقرير لجنة كاهان يُفيد بأنّه حين زار شارون بكفيّا للتعزية ببشير الجميّل، تحدّث أمام أفراد من العائلة عن “ضرورة الثأر لمقتل بشير”، وهو الأمر الذي استدعى عام 1985 قيام دعوى تشهير في نيويورك من شارون ضد الـ Time. إن أيّ متابع لسير أعمال محكمة نيويورك يلاحظ أن منفّذي المجزرة هم القوات اللبنانية، فالجو الذي كان مخيّمًا على المحكمة يُمكن اختصاره كالتالي: إذا فاز شارون تكون القوات قد ارتكبت المجزرة بقرارها الذاتي، وإذا فازت الـ Time يكون شارون هو مَن أوعز للقوات بتنفيذ المجزرة. إذًا كيفما برمت تكون القوات اللبنانية هي من ضغطت على الزناد!

لكن… لماذا بهذا الأسلوب الذي أشعل القنوات الإعلاميّة والديبلوماسيّة العالميّة والمحلّيّة؟!

بعد انسحاب منظمة التحرير الفلسطينيّة والجيش السوري من بيروت الغربية نتيجة الحصار والحرب اللذين شنّهما الإسرائيليون ضد هذه المنطقة، ومن ثمّ انتخاب بشير الجميّل رئيسًا واغتياله بعدها، تحوّل الاهتمام إلى ضرورة إبعاد مَن تبقّى من فلسطينيين في بيروت الغربيّة. الجيش الإسرائيلي لم تشأ قيادته التورّط بعملية الإبعاد، فأصدر رئيس أركانه رافائيل ايتان أمرًا رقمه 6 يمنع فيه هذا الجيش من دخول المخيّمات، مشيرًا إلى أن عمليّة “تنظيف” مخيّمي صبرا وشاتيلا ستكون على عاتق الكتائب و/أو الجيش اللبناني. الجيش اللبناني بدوره أبعد عنه كأس المخيّمات، فلم يبقى إلا القوات اللبنانية. فادي افرام قائد هذه القوات، نقل المهمّة إلى رئيس جهاز استخباراته ايلي حبيقة باعتبار أن المهمّة ليست عسكرية وهي من اختصاص جهازه، ولم يوضح أحد بشكل واضح لحبيقة طبيعة عمليّة “التنظيف”، وهو الأمر الذي أوصل إلى فلتان الزمام من يد الجميع.

من هم الفلسطينيون الذين بقوا في المخيمات بعد انسحاب منظمة التحرير؟ هم غالبًا من غير المتورّطين بالأعمال العسكرية ضد اللبنانيين، أو من المناهضين لياسر عرفات فآثروا عدم مغادرة بيروت مع فصائله. الإسرائيليون يقولون إنّهم “ارهابيون”. أنا أقول إنهم الفُراطة التي توزّعت على اللاعبين لتصفية الحسابات فيما بينهم. إنّهم الضحية! لكن ضحيّة على مذبح من؟

يقول كوبرا في كتابه المذكور أعلاه (p. 45 – 48): “أبلغني حبيقة بأنّه كُلّف بإجلاء 2000 إرهابي من مخيمي صبرا وشاتيلا، وأن ليس لديه أكثر من 48 ساعة لجمع الشباب والتنفيذ….. تمّت التحضيرات في المهلة المحددة وانتقلت برفقته إلى مبنى عالٍ مجاور للمدينة الرياضية حيث مركز آرييل شارون وحيث يمكننا متابعة عمليّة الإجلاء، لكنّي سرعان ما اكتشفت (والكلام دائمًا لكوبرا) أن الأوامر المُعطاة للشباب هي أوامر بالإبادة ومسح أبنية المخيّم…. قابلنا شارون الذي كان غاضبًا من أفعال شباب حبيقة، فصرخ بوجه الأخير قائلًا: أنا لم أطلب منك ارتكاب مجزرة، ولو كنت أريد ذلك لفعلته بدباباتي. سوف تدفع الثمن غاليًا مقابل خطأك هذا!… (ثمّ تابع كوبرا) عدنا إلى الطابق العلوي، وبينما كنّا نتابع الأحداث من على التراس، ورد إلى حبيقة اتصال من شخص يُدعى بول يسال ماذا يفعل بعشرات النساء والأطفال والعجّز الذين يحتجزهم، فأجابه حبيقة بنبرة: أوامرك معك, تابع ولا تعاود الاتصال بي يا…!” مضمون رواية كوبرا الشاهد الأخيرة، يُشبه إلى حدّ كبير رواية Ménargues الذي اطّلع لاحقًا على التسجيل الصوتي لتنصّت الموساد على اتصال حبيقة مع المدعو بول.

ما الذي جعل حبيقة يتخطّى الاسرائيليين ويذهب بعيدًا بفعلته؟

للغوص بهذه الجدلية علينا أن نحدّد من المستفيد من فعلة حبيقة:

الإسرائيليون؟.. بالتأكيد لا, كون الشارع الإسرائيلي بدأ الاحتجاجات على تورّط جيشه في لبنان، وجهاز الاستخبارات العسكرية “آمان” كثُرت تقاريره المحذّرة من العلاقة مع القوات، والأهم من هذه وتيك كون حزب الليكود، الذي من صفوفه آرييل شارون ورئيس الوزراء مناحيم بيغن، بدأت شعبيّته تتراجع في إحصاءات الانتخابات البرلمانية نتيجة أعماله وتحالفاته في لبنان.

السوريّون؟.. ربما, لأن المجزرة من شأنها دفع فلسطينيي المخيّمات إلى أحضان سوريا، وتورّط شارون وتعرّض مستقبله السياسي، وتؤثّر على وضع الليكود في الانتخابات. كوبرا شبه يؤكّد أنّ السوريّين هم خلف حبيقة ويكشف أن حبيقة التقى مرّتين سرًّا بعبد الحليم خدّام في النصف الأول من العام 1982.

العرفاتيون؟.. هو الاحتمال الأقرب، إذ تخدم المجزرة عرفات إستراتيجيًّا بنفس ما خدمت به السوريّين، إضافة إلى أنّها تُريحه ممن بقوا في المخيّمات لأنّهم في الغالب من المناوئين لمنظّمته.

بعد هذا العرض، ولنكون أكثر موضوعيّة، لا يُمكننا إسقاط احتمال أن يكون حبيقة قد قام بكل ما قام به بقرار ذاتي انتقامًا لمقتل قائده بشير الجميّل وانتقامًا لكل المجازر التي ارتكبها الفلسطينيون بحق المسيحيين، وهي بالعشرات، من دير عشاش إلى العيشية والخيام مرورًا بدير مار جرجس الناعمة والدامور حيث يُقال أن خطيبة حبيقة وكامل أفراد عائلتها قُتلوا على أيدي المهاجمين الفلسطينيين. وفي هذا الاحتمال يكون الفلسطينيون هم من جنوا على أنفسهم بقتل أنفسهم، مع التأكيد على رفضي المطلق لمقابلة الوحشية بوحشيّة مماثلة.

في المحصّلة، لولا الاختفاء اللغز لتقرير القاضي أسعد جرمانوس المتضمّن، إضافةً الى الاستجوابات، وقائع الكشف الفوري على مسرح المجزرة، لكانت كل الأجوبة حاضرة أمامنا الآن. جرمانوس سلّم نسخة من تقريره إلى كل من رئيس الجمهوريّة في وقتها أمين الجميّل ومدير الاستخبارات العسكريّة في الجيش اللبناني جوني عبده. أمين الجميّل صرّح لأحقًا لصحيفة L’Orient le Jour بأن تقرير جرمانوس احترق ضمن موجودات بيت المستقبل خلال حرب الإلغاء!

قال لي مرة الشيخ أسعد جرمانوس إنّه “من خلال استجواب ايلي حبيقة حول مجزرة صبرا وشاتيلا، تبيّن لنا أن ياسر عرفات كان ضالعًا في هذه الجريمة”، وهو تصريح يجرّني إلى التساؤل عن اختفاء تقرير هذا القاضي الشجاع والنزيه: فما الذي أتى بهكذا مستند إلى بيت المستقبل بينما كان يجب أن يُحفظ في أرشيف تابع للدولة اللبنانية؟ وماذا عن نسخة التقرير التي استلمها جوني عبده؟ ولماذا لا توجد نسخة ثالثة في دروج المحكمة العسكرية؟

من جهة ثانية وللإقفال على الموضوع – أو ربّما لإعادة فتحه -، بماذا كان يُريد ايلي حبيقة مفاجأتنا عندما أعلن قبل اغتياله عن توجّهّه إلى محكمة حيث سيُفشي بحقائق غير معروفة حول المجزرة؟ هل كان سيكشف من كان خلف فعلته في صبرا وشاتيلا؟ إذا كان الأمر كذلك فبالتأكيد ما كان حبيقة يريد استهداف شارون لأن هذا الأخير مورّط ومتّهم بأنّه المحرّض! وما كان سيُدلي بحقائق تستهدف السوريين لأنه كان لا يزال ينعم بأحضانهم!… إذًا, لا يبقى سوى ياسر عرفات! فإذا كان تقرير جرمانوس قد تمّ إخفاؤه لطمس الحقيقة وحرماننا من معرفة من كان وراء فعلة حبيقة في صبرا وشاتيلا، يُمكن الاستعانة بتقرير التحقيق باغتيال حبيقة نفسه، لأن مَن اغتال حبيقة هو نفسه الذي كان خلفه في مجازر صبرا وشاتيلا، ولذا كان يجب التخلّص منه قبل أن يتكلّم في لاهاي.

“مجزرة الدامور نكتة أمام ما حصل في صبرا وشاتيلا”

*يوسف ي. الخوري، استاذ جامعي ومخرج سينمائي