أحمد غلوم بن علي/الفوضى الداعشية الخلاقة

343

الفوضى الداعشية الخلاقة

أحمد غلوم بن علي/السياسة

لعل من أشهر المصطلحات التوصيفية التي تتداول اليوم لما يجري في الدول العربية هو الفوضى الخلاقة, فالتطورات المتلاحقة منذ شرارة الاحتجاجات في 2011 باتت أشبه ما تكون بفوضى تلد بعضها الأخرى بشكل توسعي, وفي ظل أي فوضى يصعب تصنيف القضايا الحقة من نقيضها, ويدرج ذلك في غاية هذه الفوضى. المصطلح الذي دشن سياسيا بمقابلة كوندوليزا رايس مع “الواشنطن بوست” 2005, التي أعادت وأكدت عليها بعد الحرب على لبنان في 2006 والذي تحدث عنه بيريز بإسهاب في كتابه حول الشرق الأوسط الكبير لا يعد جديدا أو طارئا في الفكر الغربي والأوروبي, وإنما هو جزء أصيل في فكره (إذا ما استثنينا نظريات المؤامرة التاريخية), كالأطروحة الاقتصادية للاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر في نهايات القرن التاسع عشر, حول الفوضى الخلاقة ودورها في ترميم الأزمات الاقتصادية وإعادة بناء اقتصاد عالمي. في عالمنا العربي, كانت حرب الخليج الثانية مدخلا للفوضى الاميركية والاوروبية الخلاقة, ومنها كان تعزيز الوجود والقواعد العسكرية في المنطقة, ثم أتى الحادي عشر من سبتمبر للتوغل والتوسع في المنطقة في افغانستان والعراق والدول المحيطة بها, ثم جاءت بعد ذلك مرحلة مايسمى الربيع العربي الذي هو نتاج طبيعي لفشل النظم القائمة والتي تم زرعها ودعمها غربيا واوروبيا في إدارة دولها, ولم يتوان الغرب في الاستثمار في ليبيا وتونس واليمن ومصر ثم المفصل الأساسي … سورية. حتى نعي علاقة هذه الفوضى المراد توسيعها في البلدان العربية وبين الجماعات الاسلامية المتطرفة, لابد من التأكيد على أهداف إحداث مثل هذه الفوضى, وأبرز مدخل لذلك هو تنوع وانتشار الكيانات الاجتماعية والعرقية والمذهبية في المنطقة, الأمر الذي أتقن المستعمرون الفرنسيون والبريطانيون استعماله لإطالة انتدابهم في المنطقة, وهو تماما ماتقوم به أميركا وتابعوها من الاوروبيين اليوم. التفتت والتناحر والاقتتال المذهبي والطائفي أسهل وأنجع طرق لسلب الهوية والاستقرار, وإشعال بؤر من الصراع والتناحر, لكن ذلك من الصعب إيجاده في ظل وجود وحضور قوي للدول وجهازها العسكري والأمني, فكان لا بد من إضعاف ما تبقى من جيوش عربية قوية لهذه الغاية (ولغايات أخرى), وتكفل بول بريمر بذلك في العراق و”الثوار” في سورية و”الإخوان” في مصر.

في الجهة المقابلة لا بد أيضا ألا توجد بدائل لهذه الجيوش القوية أي مقاومات حزبية وشعبية لها القوة والمقدرة في ردع أي مشروع يسعى لهذه الفوضى, وهو ما كان “عسكريا” في غزة ولبنان وقبلها في الجزائر واليمن ومصر, وهو ما يجري أيضا اليوم “فكريا واجتماعيا” عبر قتل الفكر القومي أو الوحدوي أو الممانع, ومحاولة تسطيح الوعي السياسي (وهو ما تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي). الاستعراض لهذه الأهداف التي تبدو بديهية ومعاشة لأي إنسان هو فقط للتذكير بأنها تنسجم وتتطابق تماما اليوم مع الحركة “الداعشية” واخواتها من “النصرة” والجبهات الإسلامية المتطرفة الأخرى, ونقطة تسلم “داعش” رسالة الفوضى الخلاقة من المتسابق الأميركي كانت سورية التي ترعرع وقوي فيها “داعش” واخواته بأموال أميركا واوروبا. فال¯”داعشية” مع كل إطلالة إعلامية حمراء لا تكل تأكيد وتصنيف “الكفار” وهي المفردة التي لها أطول وأكثر ترادف في قاموس “داعش” للغة العربية والإسلامية, فالهدف هو أيضا تفجير حروب طائفية ومذهبية والصورة الأوضح لهذه المحاولة هي في لبنان اليوم, ولتمرير الفلتان المطلوب لهذا التناحر الطائفي لا بد من كسر الدولة بإضعاف سطوتها العسكرية والأمنية وهو ما تحاول القيام به “داعش” اليوم في العراق ولبنان كما تقوم به في سورية, وإضعاف الدولة اقتصاديا أيضا عبر تهجير مئات الآلاف من مناطقها لتك الدول, ولا بد من أجل استكمال حلقات الفوضى الخلاقة من تحقق ما كان دوما الغرب يسعى إليه وهو إشغال محاور المقاومة وتضعيفها عبر التفجيرات وفتح جبهات متعددة. لهذا يبدو ما يسمى الحرب الدولية على الإرهاب مزحة سمجة, فبعد وجود وكيل للمصالح الاميركية في المنطقة, ويقوم بما تريد القيام به بأقل التكاليف, عندئذ سيكون لهذه الحملة الدولية على الإرهاب أهداف تناقض مسماها, وبعيدا عن هذه الأهداف التي تحدثنا عنها في مقالة سابقة, لا بد أن يدرك العم سام وأطفاله الاوروبيون خطورة تفجر الوضع عبر هذه الفوضى الخلاقة, فالنتائج لن تقف عند الحد الذي يطمح له العم سام من دول مفتتة وكيان إسرائيلي آمن وتحكم بموارد الطاقة وتمرير صفقات السلاح وتبعيات مطلقة لاستدامة النظام العالمي القائم وغير ذلك, وإنما سيمتد بطريقة وأخرى للنظام الاقتصادي العالمي ومبدأ الاستقرار الدولي, بما في ذلك استقرار دول الغرب واوروبا وانتهاء بحروب عالمية قطبها الثاني تجمعات دول رافضة للقطبية الاميركية كمجموعة بريكس وغيرها, طبعا جميع ذلك بالاستدلال المنطقي والسياسي وليس بالاستدلال اللاهوتي المسيحي الأصولي, الذي يسعى من الفوضى الخلاقة الى انهيار العالم ليخرج الدجال ويظهر منتظر اليهود للخلاص.