خليل العناني/الأصولية السلطوية وانهيار الدولة العربية

335

الأصولية السلطوية وانهيار «الدولة» العربية

خليل العناني/الحياة/15 تشرين الأول/14

يدفع العالم العربي ثمن تفشّي الأصوليتين السلطوية والدينية من وحدته وتماسك بنيته المجتمعية. ويبدو قدر المجتمعات العربية، وخصوصاً الشباب، كما لو كان معلقاً بين هاتين الأصوليتين اللتين تتبادلان المواقع بين حين وآخر. ولم يكن فشل «الربيع العربي» فقط بسبب محاولات الأصولية الدينية الاستفراد بالمجتمعات العربية وإعادة تشكيلها من خلال السلطة وإنما بالأساس كان نتيجة منطقية لسيطرة الأصولية السلطوية وتأميمها المجالين السياسي والعام بشكل لم يسمح بظهور وترعرع حركات وأحزاب سياسية حقيقية أو مجتمع مدني ناضج وقوي يمكنها أن تشكل بديلاً يملأ فراغ هذه الأصولية بعد سقوطها، وهو ما حدث في أكثر من بلد عربي طيلة السنوات الثلاث الماضية.

الأصولية السلطوية، ونعني بها تركيز وتجميع السلطة في أيدي فئة قليلة غير منتخبة تستخدم أشكال القمع والعنف والإقصاء كافة من أجل البقاء في السلطة والاستئثار بها مهما كان الثمن، تمثل أحد الأسباب الأساسية لسقوط وانهيار الدولة الوطنية في أكثر من بلد عربي وذلك في مفارقة غريبة. فالمفترض أن هذه «الدولة» ليست فقط بمثابة الجهاز الأساسي الذي تستخدمه هذه الأصولية من أجل تحقيق وظيفتي القمع والاستئثار بالسلطة، بيد أنها تصبح أول من يدفع ثمن تفكك وسقوط النخبة الأصولية. وقد تفشّت هذه الأصولية السلطوية طوال العقود الستة الماضية وقامت بتشكيل مراكز القوى بشكل ممنهج ومؤسسي أدى إلى سيطرتها على المجتمع بشكل لم يضعف فقط كل الوسائط السياسية كالأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، وإنما أدى أيضاً إلى ظهور أي بدائل سياسية حقيقية وجادة، لذا عندما اندلعت موجة «الربيع العربي» وسقطت بعض أضلاع هذه الأصولية السلطوية، انكشفت حالة الفراغ السياسي الهائل الذي لم يجد من يملأه سوى جماعات وحركات مختلفة تتفاوت في درجة أصوليتها الدينية والطائفية.

تفشّي الأصولية السلطوية أنتج أيضاً، جماعات وطوائف منغلقة على نفسها هوياتياً، ومتقوقعة ذاتياً، والتي ما إن تحن الفرصة حتى ينطلق عقالها وتسعى ليس فقط للانتقام السياسي وإنما أيضاً للتخلص من عقبة «الدولة»، فهذه الأخيرة بالنسبة إليها ليست مجرد «آلة قمع وإقصاء» وإنما بمثابة «عدو» يجب التخلص منه وإسقاطه. حدث هذا في العراق بعد صدام حسين، ويحدث الآن في ليبيا واليمن وسورية. وما كان لعواصم وحواضر ظلت قائمة ومتماسكة لعقود أن تسقط بسهولة ويُسر في أيدي جماعات وطوائف لولا سلطوية هذه العواصم ومن يحكمها وفشلها في احتواء ودمج جماعاتها وفصائلها السياسية والمذهبية والعرقية. ومن هنا تبدو رمزية الصراع الدامي حول احتلال هذه «العواصم» والحواضر والمدن الكبرى الذي يجري في المناطق الملتهبة الآن. من هنا، يمكن قراءة وفهم حالة السهولة التي استولت بها جماعة «الحوثيين» على صنعاء قبل شهر، والتي لم تواجه بمقاومة تُذكر ليس فقط من مؤسسات «الدولة»، خصوصاً الدفاع والشرطة، وإنما من المجتمع وقواه وفصائله السياسية، وكأن ثمة رضى وقبولاً، وربما لامبالاة من اليمنيين تجاه هذه المسألة، وهو ما يفسر أيضاً الحاضنة الشعبية والاجتماعية التي يتمتع بها تنظيم الدولة «داعش» في أوساط سنية عراقية وسورية دفعت ثمناً كبيراً للأصولية السلطوية.

الأصولية السلطوية كانت أيضاً سبباً مهماً في تغذية الأصولية الدينية وشرعنتها، ليس فقط بسبب إغلاقها المجال السياسي، بما لم يسمح بدمج الحركات والأحزاب الأكثر اعتدالاً، وإنما أيضاً بسبب تأميمها واحتكارها كل المساحات التمثيلية الأخرى، كالبرلمان والنقابات والجامعات، ما أسبغ شرعية على استراتيجية التحدي التي مارستها الأصولية الدينية تجاه الدولة والمجتمع. كما ساهمت الأصولية السلطوية في زيادة الطلب على الأصولية الدينية، حيث انضم كثير من الشباب إلى صفوف هذه الحركات باعتبارها البديل الوحيد للأصولية السلطوية. كذلك ساهم التوظيف الشوفيني لمفهوم الوطنية من قبل الأصولية السلطوية إلى نفور الكثيرين من الدولة كوحدة سياسية جامعة والبحث عن كيانات أخرى بديلة كالطائفة والقبيلة.

وقد ساهم الصراع بين الأصوليتين الدينية والسلطوية في نشوء أصولية ثالثة هي الأصولية العلمانية، التي ناصبت الإسلاميين العداء وتحالفت مع الأصولية السلطوية من أجل التخلص منهم، وإن جاء ذلك على حساب منظومتها القيمية والأخلاقية. وقد كشفت أحداث «الربيع العربي» عن الكثير من مساوئ الأصولية العلمانية التي فشلت ليس فقط في تقديم بديل مقنع للمجتمعات العربية وإنما باركت واستحلت عملية التخلص من خصومهم الإسلاميين حتى وإن كان الثمن سقوط التجربة الديموقراطية، وأحياناً سقوط الدولة ذاتها.

ومن المفارقات أن هذه الأصوليات الثلاث (السلطوية والدينية والعلمانية) تتبع فلسفة واستراتيجية واحدة في التعاطي مع المخالفين لها أو الراغبين في المشاركة بالسلطة، هي: الإقصاء والتهميش والاستبعاد، لذا فإن التخلص منها غالباً ما يكون باهظ الثمن، وذلك إما من خلال سقوط الدولة وانهيارها أو عبر تفسّخ المجتمع ككتلة واحدة متماسكة وانحلاله. وعلى رغم ذلك، تظل الأصولية السلطوية الجذر الأصيل للأصوليتين الأخريين، والمحرّك الأساسي لتطرفهما الفكري والسياسي.

تتحمل الأصولية السلطوية إذاً، مسؤولية أساسية عن انهيار «الدولة» في العالم العربي، وهي مسؤولية تتوزع على مرحلتين، أولاهما جرت خلال مأسسة عملية الإقصاء والتهميش وتجذيرها ضمن بنية المجتمع، على طريقة «فرق تسد»، وذلك على حساب جماعات وفئات محلية هُمشت وأُجهضت حقوقها، والثانية من خلال رفض التنازل عن السلطة طوعاً أو حتى القيام بإصلاحات حقيقية بعد موجة «الربيع العربي»، وهو ما أفضى إلى ما نشهده الآن من تفسخ وانحلال للدولة العربية بشكلها التقليدي الذي ظلت عليه طيلة نصف القرن الماضي