نديم قطيش/وراثات مأزومة: جنبلاط-الجميل-فرنجية

345

وراثات مأزومة:  جنبلاط-الجميل-فرنجية
نديم قطيش/المدن/18 أيار/15

يوم السبت الفائت، التقى دروز لبنان بتيمور وليد كمال فؤاد جنبلاط، زعيماً في المختارة. هذه المرة لم يجلس الشاب النحيل الى جانب والده. جلس على كرسيه. استقبل الدروز بالأصالة وليس بالنيابة. استمع الى مطالبهم وأخبارهم. بادلهم ما يبادله بيك كامل البكوية لرعيته. خليط من الود والتعالي والاهتمام والازدراء. ترك وليد جنبلاط المختارة، “سدح مدح” للزعيم الدرزي الجديد، وغادر الى حيث يمكنه السير في الشوارع والمطالعة في احد مقاهي باريس، والالتفات الى ماضيه. عارفو وليد، يتحدثون عن حالة نوستالجيا يعيشها الزعيم السابق، والبيك الدائم. كأنه يترك الحاضر كاملاً لتيمور بيك. للوريث الذي ورث مباشرة، وليس عبر تمويه الانتخابات الفرعية التي سعى اليها وليد جنبلاط من دون ان ينجح. ورث تيمور كما يرث البكاوات.

قبله بليلة كان رئيس الجمهورية السابق والرئيس الأعلى لحزب الكتائب أمين الجميل يعلن انحيازه للثقافة، من خلال افتتاح بيت المستقبل. حسم مسألة توريث نجله سامي أمين بيار الجميل، رئاسة احد اعرق الأحزاب في التجربة اللبنانية.

وعلى مسافة من الرجلين يعد الوزير السابق ورئيس تيار المردة في لبنان سليمان فرنجية لتوريث نجله طوني سليمان طوني سليمان فرنجية!

المفارقة ان التوريث السلس جداً في حالة جنبلاط، والتوريث السلس نسبياً في حالة الجميل، نظراً لصراعات أفخاذ القبيلة (نديم وسامي)، والتوريث المتوقعة سلاستُه في حالة فرنجية، تتزامن جميعاً مع شلل شبه تام يعاني منه النظام السياسي، بل مع ازمة عميقة يعيشها هذا النظام. هكذا يبدو نظام العائلة السياسية اللبنانية وآليات حكمها اكثر قوةً وتماسكاً من النظام السياسي اللبناني العام وآليات حكمه، في أوضح مشهد طلاق بين النظام ومكوناته.

غير ان صورة قوة نظام العائلة مبالغ فيها هي الاخرى. فماذا يرث الوارثون في لبنان اليوم! ورث وليد جنبلاط عن كمال جنبلاط خلاصة مشروع اليسار والحركة الوطنية، وورث زعامة عربية وأممية تزعمت سُنَّة لبنان قبل دروزه، والكثير من شيعته وبعض مسيحييه. وظف وليد جنبلاط كل هذه المكونات لتنظيم الانسحاب من زعامة كمال جنبلاط الى زعامة درزية، مكنها واكتسب مشروعيتها في حرب الجبل، ثم الالتصاق التام بسوريا حافظ الاسد. وأنتج من بقايا مشروع كمال جنبلاط مشروعاً محلياً متواضعاً، بالقياس الى مشروع الأب.

ما يرثه تيمور، اقل بكثير. يرث قصراً في المختارة، بالمعنى العقاري للكلمة، وليس عنواناً للزعامة او المشروع. يرث أموالاً وحسابات مصرفية وشركات وممتلكات وعلاقات بالنخبة الاقتصادية الدرزية وبعض المسيحية هي جزء من المشروع الشخصي والخاص لوليد جنبلاط. ليس صدفةً ان يثبت وليد جنبلاط زعامته عبر حرب الجبل، فيما تتثبت زعامة تيمور عبر حرب بين وليد وأمين صندوقه بهيج ابو حمزة. اليوم، المال والتركة هما ارض المعركة ، كما كانت محاور الجبل ارضها زمن وليد جنبلاط.

ومثل جنبلاط ورث الجميل خلاصة مشروع المارونية السياسية عن بشير بيار الجميل، الإبن السياسي للجبهة اللبنانية وللعراب الماروني كميل شمعون. تخفف امين الجميل كثيراً من حمولات المشروع الذي اغتيل بشخص بشير. وصب مياهاً كثيرة على أدبيات بشير، مقللاً الى حد الاضمحلال فجاجتها المارونية، من دون ان ينجح في حماية ما ورثه. فكان الطائف وتلاه المنفى ثم العودة ثم اغتيال بيار امين الجميل.

بهذا المعنى، يرث سامي الجميل حالة عائلية في المتن الشمالي، ورثت حزباً كبيراً كان على امتداد الوطن. ويرث ازمة وجود مسيحية هو الأكثر حدة في التعبير عنها، في لحظة انهيار كيانات ومجتمعات في المنطقة، من دون ان يتجاوز كونه صرخة اعتراض في براري المشرق. الموارنة اقل سخرية حيال أقدارهم من الدروز، الذين وصفهم وليد جنبلاط يوماً بالهنود الحمر، كدلالة على مسار الانقراض السياسي الذي يمشون عليه. ورثة الموارنة لا يستسيغون مثل هذا الإقرار المر. ورثتهم، كسامي الجميل، اكثر تعبيراً عن “مشروع ما”، من دون امتلاك اي قوة جدية تسند المشروع وتعطيه زخماً.

سليمان فرنجية، ورث حالة معقدة من التقاطع بين الزعامة الإقطاعية وبين نتائج دخول سوريا حافظ الاسد على خط الأقليات في المنطقة مختاراً موارنة الأطراف حليفاً ثابتاً له بين المسيحيين اللبنانيين. وهو، اي فرنجية، تربى ونشأ سياسياً في كنف العلوية السياسية السورية الآيلة الى السقوط. وبالتالي يرث طوني فرنجية انهيارين. انهيار المارونية السياسية التي وجدت في جده عام ١٩٧٠ مخرجاً لصراعاتها، وحلاً للحفاظ عليها، وانهيار العلوية السياسية السورية كحاضنة استراتيجية لهذا البيت السياسي. ما يرثه طوني فرنجية هو الوراثة الأوضح في لاسياستها. يرث كما يرث الأبناء آباءهم وأجدادهم، وهو الأقل حملاً لمشروع سياسي. وان وجد له مكان سياسي، فهو مكان محفوظ بفعل لياقات العلاقات الطوائفية والمناطقية اللبنانية التي يترنح النظام السياسي الضابط لها.

اننا امام وراثات ثلاث، مأزومة في لحظتها ومستقبلها. وراثات بلا مشاريع، في وطن فقد دوره كأرض حاضنة لصراعات المشاريع في المنطقة. ربما تكون حالة الرئيس سعد الحريري هي شواذ القاعدة. فالتوريث القسري، وغير المعد له، الذي نتجت عنه زعامة سعد الحريري، بعد اغتيال والده في ١٤ شباط ٢٠٠٥، تختلف لناحيتين. اولاً ان الحريري لا يصدر عن أقلية، لا في لبنان ولا في المنطقة. وهو بهذه الصفة الأكثرية، السنية والعروبية والإسلامية المعتدلة والليبرالية في خيارها الاقتصادي، بات جزءاً اصيلاً من مشروع في المنطقة في مواجهة مشروع آخر. فالتوريث في حالته، يكتسب رمزية سياسية تعبر عن خيارات ومصالح وهوية اكبر بكثير من حزب المستقبل، على عكس الوراثات الثلاث السالفة التي تبدو وكأنها تستظل فيء أحزابها الكبيرة ذات يوم! وبهذا المعنى قد تكون وراثة سعد الحريري، وهي حديثة العهد، بالقياس الى عمر “نادي اللوردات” اللبناني، هي آخر الوراثات معنىً في الحياة السياسية والوطنية اللبنانية.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، يلوح الشيعة كطائفة بلا وريث. طائفة تغامر بأكثريتها اللبنانية او العراقية او البحرينية، للدخول في حرب أهلية عربية واسلامية تشكل هي فيها الركن الأضعف والأقل. وان كان للرمزيات السياسية من دلالة فليس ادل على انعدام الورثة من الحالة الكاريكاتورية التي يمثلها جواد حسن نصرالله، الذي يغرف من زعامة ابيه، قائد محاور الحرب الأهلية الشيعية السنية من باكستان الى الضاحية، ليصفي حساباته مع صحافية، وباندفاع انتحاري لا يقيم وزناً لأي مستقبل خارج اللحظة الراهنة التي يعيشها حزبه وطائفته بإنغلاق وتعبئة غير مسبوقين. وليس بلا دلالة، في هذا السياق، ان يُجبر حزب الله رئيس مجلس النواب نبيه بري ان يعلن موقفاً واضحاً داعماً للحرب في القلمون، رغم حرص الرئيس بري على الاحتفاظ بضبابية خلاقة في موقفه من الحرب في سوريا. بل وتوزيع صور لأعلام حركة امل في تلال القلمون للتأكيد على انخراط حركة امل العملي، والقسري ربما، في هذه الحرب. ما يختصره هذا اننا امام طائفة باتت اسيرة خيار انتحار جماعي لا يقيم وزناً ولا يترك مكاناً لوريث يرث.