جومانا نصر/غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير: الشاهد الأكبر… 1920 ـ 2015 عمر لبنان الكبير

500

 هناك أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مَثُل الشهود واحدًا بعد آخر وقالوا كل ما عندهم للتاريخ في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. استعادوا من التاريخ أحداثاً ومن الجغرافياً صوراً ووقائع. وفي كل شهادة كان للبطريرك مار نصرالله بطرس صفير محطة ورواية: “كانت هناك حملات على البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير من الفرقاء التابعين للنظام السوري والأبواق السورية… والبطريرك صفير كان وفياً مع نفسه وطالب بالإنسحاب الكامل من دون قيد أو شرط… لا أعلم إن كان البطريرك صفير قد تلقى اي تهديد مباشر من بشار الأسد كالذي تلقيته انا أو الرئيس الحريري” قال النائب وليد جنبلاط في شهادته أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.

صحيح انه قيل الكثير وكتب اكثر عن شهادة النائب وليد جنبلاط في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. لكن الأبرز يبقى في ما اورده عن البطريرك صفير في تلك المرحلة من تاريخ لبنان ودوره في حياكة ظروف الإستقلال الثاني. يقول: “علاقتي كانت ممتازة بـ”قرنة شهوان” وتوطدت لتوسيع الحركة الوطنية لمواجهة التمديد للحود منذ أن أصدر البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير بيانه الشهير وطالب فيه بالإنسحاب السوري من لبنان والتقينا معه”.

في كل الشهادات كان البطريرك صفيرحاضرا بهامته التي غزتها الأعوام الـ95 وعصاه الخشبية التي استند إليها في رحلاته إلى وادي القديسين في قنوبين وصمته الذي لا تخرقه إلا بضع كلمات. لكنها كافية لتغير مسار تاريخ. وكما في شهادة وليد جنبلاط كذلك في شهادات الرئيس فؤاد السنيورة والنائب غطاس خوري ومن سيمثل بعد أمام محكمة العدل في لاهاي والتاريخ ايضا. وربما المقصود منها إرساء صيغة التعايش والمصالحة ومفهوم السيادة الذي اسس له البطريرك صفير في 20 أيلول 2000 حتى كان يوم 14 آذار 2005 ومليونية اللبنانيين من ساحة الحرية التي سيشهد لها التاريخ.. فهل من ينكر بعد ان مجد لبنان أعطي له؟

منسق الأمانة العامة في قوى 14 آذار الدكتور فارس سعيد يحبكها بدقة وتحديدا من حيث يجب ان يكتب عن البطريرك صفير الذي وصفه بأنه “واحد من كبار رجالات التاريخ الذين صنعوا مجد لبنان: “كثر في تاريخ الكنيسة صنعوا تاريخ لبنان منهم البطريرك الياس بطرس الحويك الذي لعب دورًا قياديًا في عملية استقلال لبنان واعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، ثم البطريرك انطوان عريضة الذي  صنع استقلال لبنان الأول. مع البطريرك صفير استعاد لبنان سيادته من خلال تثبيت قاعدة الشراكة مع الطوائف الأخرى التي بدأت من لقاء قرنة شهوان مرورا بزيارة الجبل التاريخية في العام 2001 والنداء التاريخي في أيلول 2000 وصولا إلى خروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005. وهذه الخامة من البطاركة تدل على مدى قدرة الكنيسة وتعلقها بفكرة لبنان والعيش المشترك فيه”.

في زمن الإحتلال السوري ونظامه الأمني وزبائنيته تحولت بكركي مع البطريرك صفير إلى ملجأ آمن ووادي قنوبين ثان يحمي السياديين وصوت صارخ في البرية دفاعا عن المظلومين في وجه الطغاة والظالمين والعملاء والمستزلمين. وبقيت بكركي بين العامين 1990 و2005 منارة تضيء الدروب وتطمئن النفوس من خلال عظات البطريرك وصموده وحكمته.

حتى عندما قرر ان يتنحى عن كرسي البطريركية كان شامخاً في قراره. ويقول عارفوه ان لا شيء تغير في البطريرك الذي اختار البقاء في بكركي بعد تنحيه. ولم تخرجه الأعوام الـ95 عن التزاماته تجاه نفسه وربه. كيف لا وهو الذي امضى العمر رافضا لغة المجاملة والابتسامات الصفراء والأحاديث الخشبية. وعندما ادرك ان الوقت حان تقدم باستقالته مختارا، ليكون أمثولة في الديمقراطية والتناوب على تحمل الاعباء والمسؤولية. لكن تنحيه لم يلغ تاريخا صنعه في مجد بكركي منذ انتخابه بطريركاً على رأس الكنيسة السريانية الأنطاكية المارونية في 19 نيسان 1986 حتى تنحيه في 15 آذار 2011 اي قبل شهرين من اليوم الذي ابصر فيه النور في 15 أيار 1920.

تاريخ قال عنه الدكتور سعيد إنه لا يكتب إلا بأيدي الكبار والبطريرك صفير واحد من رجالات التاريخ الكبار الذي لم يخسر رهانا “راهن على الحوار مع المسلمين وايضا على الشراكة في وقت كانت بعض القيادات المسيحية تراهن على ان لا حوار مع المسلمين إنما مع من ينوب عنهم ويسيّرهم. فكانوا يختارون او يختصرون الطريق في التوجه إلى سوريا وهناك كانت تحل كل الأمور على طريقتهم. البطريرك صفير اثبت العكس. هو رفض الذهاب إلى سوريا وقال: “لن أذهب إلى سوريا في زيارة سياسية إنما رعوية إذا استلزم الأمر”. قالها وفعل. لم يذهب إلى سوريا وبقي في المسار الذي يتناقض مع شريعة “المستزلمين الصغار”. لأنه اعتبر ان كلفة الشراكة مع المسلمين ستكون اقل من كلفة المقايضة الغبية مع بعض اطراف النزاع في الخارج”.

صحيح ان البطريرك صفير اكتسب من معلمه اذا صح التعبير البطريرك المعوشي الموقف الصلب، الا انه حافظ بما اكتسبه من سلفه البطريرك خريش على المرونة. وهو اذا أراد اتخاذ موقف حاسم غلّفه برداء من حرير، مما جعل مواقفه تنطبع في النفوس وتترك اثراً مشابهاً لما خلفته عظة البطريرك المعوشي في إحدى مناسبات عيد مار يوسف في مدرسة قرنة شهوان في منتصف الستينات عندما دعا الحكام الى “تكنيس” لبنان، مضيفاً “اذا لم تكن عندكم مكانس، فنحن مستعدون لتقديمها لكم”.

البطريرك صفير قالها لكن بطريقة مختلفة امام الرئيس جورج بوش في البيت الأبيض عندما زار الولايات المتحدة في 17 آذار 2005 حيث ناقشاً معاً قضية انسحاب الجيش السوري من لبنان. ويومها أيضاً خاطب بوش البطريرك صفير قائلاً: “إنني فخور بوجودك هنا”. إلى أن تحقق الإنسحاب السوري في 26 نيسان 2005.

يقول المقربون من البطريرك صفير إنه لم يتغير ولم يبدل من قناعاته… كان يقول كلمته ويبقى في مكانه بينما الآخرون فعلوا ما فعلوه ولم يبقوا في مكانهم فعادوا والعودة هذه المرة من على منصة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان فهل يكون البطريرك مار نصرالله صفير الشاهد الحاضر في الشهادات التي سيدونها التاريخ ذات يوم؟

عضو قوى “14 آذار” الياس الزغبي ينطلق في كلامه من طباع وشخصية هذا الرجل العظيم “فالتطورات التي حصلت على مدى الأعوام العشرين الأخيرة طبعها الكاردينال صفير بطابعه الهادئ والرصين والواعي والعميق خصوصا نداء الإستقلال في أيلول الـ2000 الذي اجتمعت من حوله ارادات وطنية واسعة بدءا من الطائفة السنية بقيادة الشهيد رفيق الحريري والدرزية مع النائب وليد جنبلاط وبعض المنبوذين من الطوائف الأخرى وتحديدا الشيعية التي يصادرها “حزب الله” اليوم بالإضافة الى تلاوين القيادات المسيحية”.

من هنا لا يستغرب الزغبي مطلقاً ان تشكل مواقف البطريرك صفير اليوم مرجعية يعود اليها كبار القوم ويتردد اسمه في اعلى مرجع دولي للعدل والحق “فهذه الشخصية طبعت تاريخ لبنان المعاصر بالطابع الإستقلالي والمترفع عن المناكفات والتجاذبات الطائفية والمذهبية. أكثر من ذلك كان يشكل ضميراً وطنياً لذلك لا يستغربن احد ان يتحول البطريرك صفير خصوصاً بعد تنحيه إلى مرجعية كبيرة ومستنداً وطنياً وتاريخياً يعودون إليه ويقتدون بتوجهاته. كيف لا وهو من كتب استقلال لبنان الثاني بيده”.

واكب البطريرك صفير التحولات والأحداث الكبرى خلال توليه سدة البطريركية على مدى اكثر من ربع قرن (1986-2011)، واستطاع بحكمته ان يضع الركائز الكبرى لانتفاضة ثورة الأرز. يقول الزغبي: “كان صفير الملهم الأول للثورة من خلال الوجدان الوطني الذي كان يقف وراءه وساهم في تكوين حالة إستقلالية. صحيح أنه كان قليل الكلام لكن مجرد ان يعطي تصريحا او يتكلم في عظات نهار الأحد  كانت تتوضح معالم الوضع اللبناني وتعقيداته كما ركائز الخروج من المأزق التي كان يبشر بها. لذلك ليس كثيرا ان يسمى بـ”أبي الإستقلال الثاني” وأبي المصالحة التي تحققت بعد زيارة الجبل في العام 2001 واسست لتحرير لبنان من عهد الوصاية السورية.

لا يخفي الزغبي ان شهادة جنبلاط استلهمت مبادئ المصالحة التاريخية التي أرساها البطريرك صفير في الجبل واحدثت تحولا في الوجدان اللبناني ويقول: “كل ما يدور اليوم لا بد وأن يتقاطع مع مواقف صفير في هذه المرحلة لأنها ترتكز على ثابتتين المصالحة بين الطوائف والسيادة في مفهومها الدولي”.

في صفحات التاريخ اسماء لعظماء أنقذوا مجتمعاتهم وتميزوا بهذا الترفع الذي يشبه سيرة الرسل. البطريرك صفير لا يقل في رسالته عن هؤلاء. حتى في تنحيه كان مترفعا وقليل الكلام وفضل كما العادة الإبتعاد عن الأضواء “وإن دل على شيء فعلى العمق الذي يتمتع به. وللتاريخ والوجدان العام ان يحكما له (وليس عليه) ولو طال الزمن”.

بعد خروج الجيش السوري من لبنان سئل البطريرك صفير في إحدى المقابلات: “هل تعتقد ان السوريين رحلوا فعلا” أجاب: “السوريون لا يزالون هنا، ألا تشعرون بذلك؟”. كان ذلك في 27 حزيران 2005. هو قرأ في التاريخ البعيد فهل ثمة من يشكك في حدس البطريرك بعد مرور 10 اعوام على خروج السوريين من لبنان؟ 

كلام من ذهب

في 23 نيسان 2015 كرمت جمعية المرسلين ورابطة قنوبين البطريرك مار نصرالله صفير في بيت عنيا. وقبل تسلمه الريشة الذهبية ألقى البطريرك صفير كلمة اختصرت عمق هذا الرجل الذي سكنه الوجدان المسيحي وفاح منه عبق الإيمان والتواضع وثورة الأجداد المسيحيين.

“من أين لي، اليوم، هذه الريشة الذهبية وأنا لم أفكر يوما بالذهب، بل أمضيت حياتي، واضعا نصب عيني، وذاكرا في صميم وجداني، عبارة بداية الصوم، ومسح جبيني بالرماد، أنني تراب، منه جبلت، واليه أعود، وقد جاهدت، كل حياتي، لاستحق لقب الحقير الذي حمله أسلافنا، السعيدو الذكر، فعاشوا بتواضع وكرامة، وكرسوا ذاتهم للخدمة، يقينا أن ملكوت الله ليس أكلا وشربا لا ذهبا ولا فضة، بل بر وسلام، صفاء ومحبة. اليوم، على مشارف الخامسة والتسعين، وقد منحني الله هذا العمر، بأفراحه وآلامه، لكي يتيح لي المزيد من الوقت لعبادته، باقامة الذبيحة الالهية، والشهادة لايماننا البطرسي، في انطاكيا وسائر المشرق، وحيثما كنا من العالم كله، نجهر بالحق، نتخذ الموقف المبدئي القويم، نعيش لاهوت كنيستنا، الواحدة الجامعة، الرسولية، خصوصا في أزمنة الخطر والصعوبة! أما وقد شئتم هذا التكريم، فأعتبره اضافة الى نعم الله علي، وأتوجه بالشكر، الى أخي صاحب الغبطة والنيافة، الراعي الامين، الذي ما برح يرعى عهد سلفه، في شركة المحبة، يسهر على كنيستنا، ويحمل همومها، في الوطن وبلدان الانتشار”.

(الصور نقلاً عن “المسيرة”)