عقل العويط/الولاء لحبر الشهداء

265

الولاء لحبر الشهداء
عقل العويط/النهار/16 أيار 2015

في 2005، قضى سمير قصير (2 حزيران) وجبران تويني (12 كانون الأول)، شهيدَين من شهداء الحبر. في السادس من أيار من كل سنة، نتذكر جميع شهداء هذا الحبر، الذي سيظل يلهمنا، ويحضّنا، بحثاً عن الحقيقة والحرية. نؤمن بأن الطريقة الفضلى لتكريم هؤلاء، وخصوصاً منهم شهيدَي “النهار”، توجيه التحية إلى ثقافة الحبر النقيّ الكريم الخلاّق الذكيّ النيّر الأبيّ الجريء الشجاع الحرّ، بإعلان الولاء الدائم لها.

مرةً ثانية، نستميح القرّاء المهمومين بالشأن العام عذراً. لن نكتب عن معركة القلمون، المستشرية مفاعيلها في الجانبَين اللبناني والسوري. ولا عن تدخل “حزب الله” وغيره في الشأن السوري. ولا عن الهواجس التي تلتهم أهل الجبال والسهول المقيمين في سفوح السلسلة الشرقية. ولا عن أولئك المتناثرين في الشمال العزيز على حدود النهر الكبير. ولا عن الصعود الظلامي للتكفيريين والإلغائيين السنّة والشيعة، ولا عن حروبهم، وحروب المسيحيين في ركاب هؤلاء وأولئك. ولا عن النوّاب والوزراء وكبار الموظفين. ولا عن فضيحة الكرسيّ الرئاسيّ الشاغر. ولا عن سقوط الطبقة السياسية في الوحل. ولا عن لبنان المنزوعة أنفاسه بأيدي جلاّديه المحليين والإقليميين والدوليين. ولا عن استيلاء فلسفة الكيتش والرخص والعهر وقلة الذوق على المفاهيم والمعايير والمواهب والعقول والطقوس. ولا عن انتشار الأمراض الخفية التي لا يعرف لها الأطباء اسماً ولا أدوية. ولا عن الفقر. ولا عن انهيار القيمة الشرائية لدى المواطنين. ولا عن الماء الملوّث. ولا عن الدواء الفاسد. ولا عن الطعام الفاسد. ولا عن التهريب المنظّم أو التهريب العشوائي. ولا عن طرق الموت المحفّرة. ولا عن الأثمان المدفوعة من أجل توفير الكهرباء. ولا عمّا آلت إليه مشاريع النفط المخبّأ في أعماق البحر، ولا عن دناءة القيم التي ينتظم فيها العيش العام. ولا عن العمران المقيت والمقزِّز الذي يتسلّل إلى القرى فيدمّر إيقاعها البصري والهندسي والجغرافي. ولا عن الألوف المؤلفة من الشباب الذين يهاجرون يأساً وقرفاً وتيهاً، ممعنين في الحفر في أمكنة أخرى، بحثاً عن أملٍ مشرق، وهرباً من ظلٍّ موهوم في صحراء العقل والواقع.

لن نكتب عن الأوجاع؛ هذه التي وُلدنا معها يومَ وُلدنا، من أجل مواصلة مأساة الشرط البشري القائم على النسل والاستمرار. لن نكتب عن الموت الذي يلتهم الناس في سوريا والعراق واليمن وليبيا التهاماً سادياً مخيفاً. لن نكتب عن فلسطين. ولا عن لبنان. وإذا كنا آثرنا، في عدد الأسبوع الفائت، أن لا نكتب في هذه المسائل، لتجنّب التكرار – وهذا بالطبع لا خوفاً من أحد، ولا مسايرةً لأحد – فهل يجوز ألاّ نواصل الإيماء إلى الهموم التي تقلق الناس وتقضّ مضاجعهم، حين لا يعرفون مصائر يومهم قبل مصائر غدهم؟!

نكتب في الصحافة لأننا نؤمن بالكتابة مطلقاً، ولأننا نؤمن بـ”رسالة” الصحافة تحديداً؛ بقدرتها على ملامسة الوجدانَين العام والخاص؛ بكفاءتها التاريخية في مجال الخلق والتنوير والنقد والرفض والتثوير؛ بسلطتها المطلقة النقية الكافية لإذلال الاستبداد، وتعفير عنجهيته بالتراب، حتى لو لم تتمكن في كلّ حين، من سحقه والانتصار عليه؛ نكتب لأننا نؤمن بموهبتها الهائلة في التحدي، الآيل إلى كسر الإرهاب والتكفير والظلام الديني والعقلي والفكري. ولأننا نؤمن بمآثرها في إعلاء شأن الحقيقة. وفضح الكذب. والخيانة. والسرقة. والفساد. وتزوير الوقائع.

نكتب في الصحافة النقدية الحرّة. وحدها دون سواها. لأنّها أمّنا، والأب. ولأنّنا أولادها، وورثتها. ولأنّنا نعيش مفاعيلها في أجسامنا وأرواحنا. ولأن لا قدرة عقلية وأخلاقية لنا وللكثيرين من أمثالنا، على أن نكون في غيرها. ولأن لا “مكان”، أيضاً وتالياً، لأمثالنا في غيرها. نقول هذا، على سبيل الاعتزاز، لا على سبيل التندم أو المرارة، ذاهبين في هذا الخيار إلى غاياته القصوى، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، أياً تكن النتائج المترتبة عليه.

نكتب في الثقافة لأنها أرض العقل والحلم والحرية السمحاء. من هذا المكان بالذات، ننكّل بالاستبداد، على سبيل المثل، من دون أن نحسب حساباً لما ينجم عن هذا النوع من الكتابة من “أذى” و”إزعاج” لأبطاله وملهميه ورموزه وتعبيراته كافةً، في الأنظمة السياسية، والمفاهيم البطريركية، الدينية والاجتماعية والعقلية. لا يمكننا أن نحيد عن الإيمان بهذا الفعل، في يومٍ من الأيام. لن نفعل شيئاً في حياتنا يخالف مفهوم الحرية عندنا، وما يتطلّبه تجسيد هذا المفهوم في العمل الصحافي، الثقافي، الروحي، والسياسي، مطلقاً. وإذا حُمِل أحدنا يوماً، من طريق القهر والعنف والإرهاب، على كتابة ما لا نؤمن به، فسيعلم الحبر نفسه، قبل قرّائه، أن من المستحيل أن نكون نحن المرتكبين الفاعلين. يدُ القهر والعنف والإرهاب، هي التي تكون قد ارتكبت الجريمة، لا يدنا.

نكتب في ثقافة الصحافة، وهي عندنا جزءٌ لا يتجزأ من أرومة الصحافة الحرّة، وأمومتها. نكتب فيها، ليس لأنها وظيفة، بل لأنها خيارٌ عقلي. الخيارات، ترتبط بالشرط الوجودي نفسه. الآن، في وقت الظلام اللبناني العربي هذا، من المستحيل التخلي عن مستلزمات هذه الكتابة. إذ هي تصبح أكثر إلحاحيةً عندما يستشعر المرء الأخطار المحدقة بها، أكانت الأخطار المشار إليها، مادية أم معنوية.

إنه وقت الظلام والخطر، يرخي سدوله على لبنان والعالم العربي؛ الوقت الذي يحلو للصحافة النقدية الحرّة، أن تشرّع حبرها الورقيّ النقيّ لطرد هذين الظلام والخطر، والتنكيل بوحوشهما.

هي، هذه الصحافة النقدية الحرّة، يحلو لها أن تفعل ذلك. ويجب أن تفعل ذلك.

في هذا الوقت بالذات، يعلو ضجيج وسائل التواصل الافتراضي، الاجتماعي، المعرفي والإعلامي، على مهابة الكتاب، والصحافة المكتوبة، فنجدنا لا نتردّد في خوض هذا المعترك، المفتوح الآفاق، لكن المدجَّج بفخاخ كثيرة، بعضها مُغوٍ ومُغرٍ، جيد ومطلوب، وبعضها الآخر مزروع بالمنزلقات الخفيفة والسهلة والرخيصة. ونحن نخوضه، محصَّنين بالعدّة الثقافية والفكرية الصارمة، مستفيدين من الإيجابيات الهائلة التي ينطوي عليها القفز البعيد المدى في العوالم الافتراضية المذهلة.

ترى، هل بعد “أيام” قليلة، يحلّ الحبر الافتراضي محلّ الحبر الواقعي؟ هل ينتهي الورق، ورق الكتاب، وورق الصحافة؟ هل ينتهي هذا العطر، شميمه، لمسه، حفيفه، إيقاعه في خلايا الدماغ؟

هذه الأسئلة نطرحها، عارفين أن لا أجوبة جاهزة وحاسمة في شأنها. ليست الأجوبة هي الغاية الوحيدة. الأسئلة في ذاتها، من شأنها أن تثير النقاش، وتُعمِل العقل النقدي. عالم اليوم، روحه وجسمه يطالبان بالحبر الافتراضي. فلتأخذ الكتابة الانترنتية مداها الأرحب والأوسع والأشمل. ولتزرع شجرها وأخضرها حيث يمكنها أن تزهر وتنمو. جنباً إلى جنب، مع الحبر الذي يغتسل بالورق، يأكله، ينام فيه، ويحلم، ويصنع النور. هناك، حيث نجدنا ملزمين، مواصلة الولاء لهذا الحبر نازفاً على الورق، بما يستدعيه ذلك من صبرٍ على الملمّات، وتحدٍّ للمشقّات. كتب جان روستان يوماً ما يأتي: “إكس… يكتب بدمه؛ لكن دمه هو الحبر”. خذوا هذا الكلام، ولنستلهم من خلاله، مَن كان يكتب الحبر بدمه. وكلّ الذين لا يزالون يؤمنون بهذا الحبر النقيّ الأسود، الذي سيظلّ نجيعاً يضخّ ثقافة الحرية والعقل والنقد والكبرياء والضوء في حلكة أوضاعنا اللبنانية والعربية المزرية. عطره الأنيق، سيظلّ يفوح في ما لا يمكن سواه الوصول إلى خفاياه وأسراره وطبقاته الدفينة الملهمة. في يومٍ ما، سيعلم الجميع أن هذا الحبر هو الصديق الوفيّ للحصون والذرى والعلامات التي رفعها أسلافنا، معلّمونا وأساتذتنا وزملاؤنا وشهداؤنا، في وجه التخلف والاستبداد والظلاميات على أنواعها. أيّها الحبر النقيّ الكريم الخلاّق الذكيّ النيّر الأبيّ الجريء الشجاع الحرّ؛ مزروعاً على الورق، أو سابحاً في العالم الافتراضي؛ لكَ ولاؤنا!